فيما يدور هذه الأيام على الألسنة و الأقلام حديثٌ يزعم أصحابه أن الديموقراطية و اللائكية متلازمان و يشرط أحدهما الآخر كما يشرط مُثَلَّثا وجودُ أضلاع ثلاثة، و تمضي بهؤلاء الحماسة البلاغية للقول بملازمة مفاهيمَ كالحرية و المساواة و العدل للديموقراطية، وفي خطاب كهذا تتحول الديموقراطية إلى خاتم سليمان يَعِدُ حامله بكل ما تشتهيه نفسه و تغدو اللفظة ملجأ لأحلام اليقظة و النوم، و الأخطر من كل ذلك أن تُصبِح تبريرا لهذا النوم و "حُجة" للقعود عن طلب الحرية و الكرامة حقيقةً باعتقاد وجودها في لفظة تلوكها الألسن بلا جهد و لا تعب. من يقول إن الديموقراطية جزء لا يتجزأ من الحداثة أو اللائكية كمن يقول بأن كل ما له أرجل هو كائن حي، وفي هذا "التصنيف العلمي" الجديد تصبح الموائد والكراسي كائنات حية. الديموقراطية هي محاولات الانسان لتنظيم الشأن العام بما يُمَكِّنه من اجتناب الاستبداد، و هي بذلك ديموقراطيات لأن المجتمعات كما الأفراد لها تاريخ مخصوص يجعل ما يُجدي نفعا مع أحدها ربما يأتي بنقيض المطلوب لغيرها. وإذا كان التوصيف الغالب لللائكية و الحداثة هو اعتبارها صيرورةَ استبعادٍ للدين و لما يُحيل عليه مما يسميه الغربيون مجال المقدس (SECULARISATION) فإن الديموقرطية، بما هي تنظيم للحاكمية يستهدف تخليصها من شائبة الاستفراد بالسلطة و تحويلها رهينةَ أمزجة و علاقات تنتهي لا محالة إلى استبداد بالحكم، ظهرت في المجتمع الأثيني حين توسل هؤلاء بتقنية التصويت والأغلبية لتنظيم الشأن العام بعيدا عن شبح الاستبداد، و لكن المجتمع الأثيني الديموقراطي كان يمنع التصويت عن العبيد و ويبحث فلاسفته في طبيعة المرأة أ بشرية هي أم لا؟. كما أن أحد مؤسسي الديموقراطية في القرن 18 وصاحب كتاب "روح القوانين"، و في نفس الكتاب الذي نظَّر فيه للفصل بين السلط يستبعد أن يكون الله قد نفخ روحا طاهرة في جسد أسود (1). و معلومٌ أن أحد كبار منظري الديموقراطية ألِكسيس دو توكفيل في كتابه العمدة "عن الديموقراطية في أمريكا" لم يرَ في مظاهر الاسترقاق كما في حرمان المرأة من حقوقها في الإرث و التصويت و غيرها مانعا من وسم النظام الأمريكي بالديموقراطي، وعلى الرغم من إعجابه بهذا النظام فإنه ربط، على العكس من "الثقافة" الشائعة عندنا، بين الديموقراطية و غياب الحريات (حريات المواطنين البيض)، و ما لم يتم إبداع أشكال للتسيير تُهذِّبُ هذا النزوع، و لا تجعل الحرية و التفوق و الإبداع ثمنا لمطلب المساواة (2) فالاستبداد يبقى متربصا و مستعدا للانقضاض كما سيقع بعد ذلك مع النازية، التي اختارها الشعب و فتح لها دستورُه نافذة الانقضاض بالبند 48 الشهير و الذي ساهم ماكس فيبر نفسه في صياغته!!. في الوقت الذي تعرف فيه مقولة "" SECULARISATION(3) أو "اللائكية" مساءلات و إعادة نظر تكاد تكون جذرية في الغرب، لازلنا نتكلم لغة خشبية هي إلى المزايدات و التجمل أقرب منها إلى النظر الرصين. و الذين يقرنون بين اللائكية و الديموقراطية و يذهبون إلى كون الأزمنة الحديثة ذات جوهر لاديني يعيشون في أسر القناعات "النخبوية" التي توهم أصحابها بموافقتهم للعقل و مسايرتهم للعصر و هي عند التحقيق أقرب إلى حال دونكيشوط و حربه "الضارية" على طواحين الهواء، لأن ما انتهى إليه الأمر في الغرب هو انتشار للتدين و زحف لأكثر أشكاله تعصبا، وذلك رد فعل على "عَلمنة"(4) كانت تستهدف سحب القناعات الدينية من المجال العام، و كأن القناعات العُرفية و الفكرية وغيرها تختلف من حيث الجوهر عن القناعات الدينية، و تلك حجة لم يعد ممكنا تقديمها بعد انحسار وهم العقل المتعالي عن شروطه و القادرِ على توصيف ما يصلح للناس بتوسُّله خطابا كونيا لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه. كما غدى من الحجج القوية في وجه العلمنة في الغرب أنها تريد تمرير قناعات ليبرالية (5) أو غيرها باسم الكونية و العقل و من ثَمَّ تضع منافسا قويا، هو الدين، على الرف بالتفافات بلاغية. جرنا إلى الحديث عن "العَلمنة" موضوعُ الديموقراطية و الربط التحكمي بينها و بين تأويل مخصوص لصيرورة تخص التاريخ الغربي(6) و ترى الأزمنة الحديثة في الغرب موشومة بقَدَرِ انسحاب الدين من المجال العام، هذا إذا صح الحديث عن "علمانية" بدل "علمانيات"، فلائكية فرنسا هي أقرب إلى العداء للدين منه إلى القول بحرية التدين، و بينها و بين "علمانية" بريطانيا و الولاياتالمتحدة بون شاسع لا يراه إلا من لا يريد. و الديموقراطية عند التحقيق آلية لا يمكن تحديد ملامحها العامة بغير السياق و التاريخ المخصوص للأمة التي تتوسلها للخروج من واقع الاستبداد، و لا أحد يُنكر أن الكيان الصهيوني يعتمد آليات ديموقراطية في الحكم مع قيامه على أكذوبة أرض الميعاد و أسطورة الدولة العبرية للشعب اليهودي، كما أن الديموقراطية السويسرية تسمح بفرض إجراء استفتاء على بند مُقترح، فقط بِجمع مائة الف توقيع، و إِنْ بمبادرة من مواطن "عادي". و التوقيعات هي التي تحسم في إجراء الاستفتاء كما أن الأصوات هي التي تحسم في تمرير القانون حتى لو كان في مثل "عقلانية" منع بناء المآذن!!(7). ربما يسأل البعض مرة أخرى ما علاقة الحديث عن التغيير بموضوعات فلسفية أو نظرية كالحداثة و العلمنة و ما مناسبة كل ذلك لحال الاستبداد المعيش؟ الجواب هو أن أي نظر لا يتخذ مبحثا أساسيا له خطابَ و لغةَ هذا النظر سيحكم على نفسه بالعقم، في خطابنا السياسي كلام متكاثر حول العلمنة و التحديث و الحرية و غيرها من المفاهيم الفلسفية و السياسية على حد سواء و يريد أصحابها النسج على منوال الأممالغربية، حتى و إن غاب التحقيق في مقالات هؤلاء مع افتراضٍ غيرِ مُسلَّمٍ به بأحادية هذا الغرب و انسجامه ثقافة و فكرا و تاريخا و واقعا. لا يُصنع التاريخ بالنَّسْخ كما لا يُعَوَّل في التغيير الحقيقي على جهل المُنافِس، و خطابُ التفريق بين مجالي القداسة و السياسة و حملُ "مشعل" العلمانية لفرض قناعة بعينها على الناس بدعوى العقلِ أو العصرِ، تأسيسٌ لاستبداد يُعيد إنتاج "دولِ" غير المبارك و غير الصالح غير الأسد. لا مفر من التسليم بأن الاستبداد في دول العرب لا علاقة له بملة و لا دين وأن حكامنا "وُضِعوا" فوق رؤسنا بمقتضى تسوياتِ ما بعد الاستعمار بما يضمن استمرار مصالح المستعمر و يُديم على أهل الاستعمار نِعَمَ "الحداثة". و الديموقراطية، بما هي تقسيم للسلط و اقتراع يُسمِع صوتَ الأغلبية و حركة اجتماعية تضع التعليم و الصحة على رأس أولوياتها، هي المدخل الأساس للإصلاح، أي بما هي محاولات لا تكل لردع شبح الاستبداد، هذا الشبح الذي أصبحت إرهاصات مرحلة جديدة و خطيرة منه تضع لبناتها بتدشين حكم بلا معارضة و تسيير بلا مشاريع و حَكَامة بلا حُكام ومسؤوليات بلا محاسبة، تحت عنوان يحكي القصة كاملة هو : التناوب!!. (للحديث صلة بإذن الله) الإحالات: (*) كان في مقالي السابق أخطا في الرقن و التحرير أعتذر عنها ويوجد هنا المقال بصيغة PDF مصححا أو هنا. (1) "On ne peut se mettre dans l'esprit que Dieu, qui est un être très sage, ait mis une âme, surtout une âme bonne, dans un corps tout noir." Charles de Montesquieu – L'Esprit des Lois. ChapitreV. (2) Il y a en effet une passion mâle et légitime pour l'égalité qui excite les hommes à vouloir être tous forts et estimés. Cette passion tend à élever les petits au rang des grands; mais il se rencontre aussi dans le cœur humain un goût dépravé pour l'égalité, qui porte les faibles à vouloir attirer les forts à leur niveau, et qui réduit les hommes à préférer l'égalité dans la servitude à l'inégalité dans la liberté. Ce n'est pas que les peuples dont l'état social est démocratique méprisent naturellement la liberté; ils ont au contraire un goût instinctif pour elle. Mais la liberté n'est pas l'objet principal et continu de leur désir; ce qu'ils aiment d'un amour éternel, c'est l'égalité; ils s'élancent vers la liberté par impulsion rapide et par efforts soudains, et, s'ils manquent le but, ils se résignent; mais rien ne saurait les satisfaire sans l'égalité, et ils consentiraient plutôt à périr qu'à la perdre De la démocratie en Amérique I (1835) p56 3) ترجمها البعض بالزمنية أو الدهرية أو اللا ئكية كما تعرف في فرنسا. (4) إحدى ترجمات Secularism وهي مشتقة من العالَم و ليس العلم كما يريد البعض منها تدليسا. (5) ينسى الكثيرون أن ضحايا العلمنة و حداثةِ عقلانيةِ الغايات يُعَدُّون بالملايين بداية من الاسترقاق الاستعماري إلى الحربين العالميتين و جرائم إحراق المدنيين بالقنابل المهلكة للحرث و النسل في هيروشيما و ناجازاكي و فيتنام و العراق و أفغانستان... و لا يزال "التحديث" مستمرا. أنظر نقاشا جيدا للمسألة في الكتابين التاليين: Jeffrey Stout : Democracy and Tradition. Princeton University Press 2004 (Specially pages 63,66,306 ) Linell E. Cady and Elizabeth Shakman Hurd (edit) : Comparative Secularisms in a Global Age. PALGRAVE 2010. تنْظر كذلك الدراسة القيمة للسوسيولوجي البريطاني المرموق David Martin: On Secularization: Towards A Revised General Theory. Ashgate 2005.( Specially chapter 9) و الكتاب الحجاجي الغني لأستاذ السوسيولوجيا و الفكر السياسي بجامعة أمستردام Veit Bader : Secularism or Democracy? Amsterdam University Press 2007 (Specially page 122) (6) لا يُجادل الدارسون الغربيون في كون "العلمنة" شأنا خاصا بتاريخهم و نصرانيتهم، و تعميمها على سائر الحضارات مرده لمركزية غربية مغرورة عند البعض، و ليس لنوع نظر ثاقب يختصون به. و الفروق بين الإسلام و النصرانية تضع الرافضين للإسلام من بني جلدتنا أمام مهمة يلزمها جهد لبيان تعالقٍ بين الاسلام و الاستبداد و "التخلف" مع استحضار حقيقة مفادها أن تلازما كذاك ليس صحيحا تماما حتى بالنسبة لدين يختلط فيه الناسوت باللاهوت كالنصرانية، لولا "تعديلات" في سجلات التاريخ كانت تستهدف "شيطنة" الدين أساسا و خاصة في أوربا كما تبين مع أسطورة اضطهاد جاليلي (ليس "الجهاديون"وحدهم من يحتاجون مراجعات!). (7) ينظر الكتيب التعليمي القيم و المفيد جدا: Laurent Laplante : La Democratie Je la Reconnais. Editions Multimondes 1998