تعتبر السياسة الجنائية شرطا عضويا وضروريا لاستكمال مسلسل مأسسة الدولة ودمقرطة بنياتها, لأنها تعتمد على مقاربة قانونية تجعل من القانون الوضعي آلية لضبط اشتغال أجهزة الدولة الأمنية والقضائية وكذلك مرتكزا يتم الاعتماد عليه في وضع أسس دولة القانون. تتكون المنظومة الجنائية من مجموعة من الإجراءات والقواعد القانونية الهادفة إلى شرعنة إلزامية العنف الذي تمارسه أجهزة الدولة. إذ لا يمكن فهم التعريف الفيبري للدولة كمقاولة مؤسساتية تمارس هيمنتها داخل نطاق جغرافي معين عبر احتكارها لوسائل العنف المشروع, دون ربطه بشكل تكاملي بأهداف السياسة الجنائية. لأن طبيعة وخصائص هذه الأخيرة تعكس في نفس الوقت طبيعة ومميزات آليات اشتغال الدولة على مستوى صياغة القانون وفرض الجزاء والعقاب. انطلاقا من هذه العناصر التحليلية تتضح لنا أهمية السياسة الجنائية كمتغير تحليلي أصبح يلعب اليوم دورا هاما في رصد أبعاد وماهية التحولات الوظيفية لمكانيزمات العلاقة القائمة بين مؤسسات الدولة والمجتمع, لأنه كلما كانت نتائج السياسة الجنائية فعالة إلا وتعزز رصيد مشروعية النظام السياسي. ولعل الاهتمام الذي اصبح يعطى للسياسة الجنائية كمكون أساسي للسياسة العمومية في المغرب لتعكسه في هذا الإطار ضرورة التجاوب مع إكراهات الدمقرطة والالتزام بالمعايير الدولية لحقوق الإنسان. لذلك فان هذه العناصر تتداخل وتتفاعل مع السياسة الجنائية بشكل جدلي وتكاملي إلى درجة أصبح معها تحديث وعقلنة هذه الأخيرة يشكل معيارا محددا ليس فقط لدمقرطة النظام السياسي بل أيضا لوضع أسس دولة القانون. فإذا رجعنا إلى الإصلاحات المزمع تفعيلها للمنظومة الجنائية المغربية نلاحظ بأنها تقوم على مجموعة من الخصائص على سبيل المثال لا الحصر: - إخضاع المؤسسات السجنية لرقابة المجلس الوطني لحقوق الإنسان من اجل ضمان حقوق السجناء - إعادة تأهيل السجناء عبر إعادة إدماجهم داخل المجتمع مع احترام حقوقهم الأساسية - اعتماد العقوبات البديلة - اعتماد سياسة وقائية لصد الخطورة الإجرامية - إخضاع رجال الأمن لتكوينات مستمرة في مجال حقوق الإنسان - عقلنه الاعتقال الاحتياطي وقد تبدوا لنا هذه العناصر ايجابية بشرط أن يتم تنزيلها بشكل يتجاوب مع انتظارات المجتمع المتعلقة بضمان أمنه وفي نفس الوقت احترام حقوقه وحرياته. ولكن هذا الأمر لا يمنعنا من الإشارة على أن أهم عائق يعقد من مسار تنزيل هذه المقتضيات هو عدم قدرة الفاعلين الأمنيين والأجهزة القضائية والمؤسسات السجنية على مواكبة التحولات القانونية التي مست بالمنظومة الجنائية , وأيضا غياب الشروط الكفيلة بحماية ضحايا الجريمة وتقديم المساعدات الممكنة لهم منذ وقوع الجريمة إلى نهاية المحاكمة , ناهيك عن القطع مع وسائل التعذيب التي لازالت تشكل نقطة سوداء تحجم من أهمية ومصداقية الإصلاحات المعتمدة. هذا دون أن ننسى عوامل أخرى ذات طبيعة تقنية متجسدة في تضخم عدد القضايا المعروضة على المحاكم وهو ما أضر بنجاعتها وفعاليتها. لا يمكن فهم وتحليل مقاصد السياسة الجنائية بالمغرب بدون الوقوف على هذه الإشكالات ووضعها داخل سياق إصلاحي مركب من مجموعة من العوامل السياسية والقانونية وحتى الاجتماعية التي ترمز دلالاتها العميقة إلى الهوة التي لازالت تفصل السياسات الجنائية عن الواقع. فلا تدرك قيمة وفعالية الإصلاح القانوني إلا من خلال إحداثه تغييرات عميقة على المستوى الاجتماعي والسياسي على الأخص. إذ أن أزمة تفعيل مقتضيات السياسة الجنائية قد تنتج عنها أزمة قانون وأزمة دولة التي من المفترض في أجهزتها أن تشتغل بمنطق واليات تتكيف مع إكراهات العولمة والدمقرطة. لقد أصبحت التراجعات المسجلة على مستوى حقوق الإنسان والالتزام بمقتضيات دستور 2011 في شقها الحقوقي تساءل السياسة الجنائية والإرادة السياسية للفاعلين من اجل تفعيلها بغية الدفع بعجلة الإصلاح القانوني والسياسي للأمام. حيث لازالت هذه السياسة تعاني من تضخم على مستوى النصوص وعجز على مستوى التطبيق , الإشكال الذي يرمز هنا إلى مفارقة استراتيجية الإصلاح الجنائي بالمغرب الذي لم تساهم ثغراته وعوائق تطبيقه إلا في إبراز محدودية الاستثناء المغربي و كذلك المكتسبات التي نتجت عن تجربة هيئة الإنصاف والمصالحة. وأخيرا، نود أن نؤكد على ضرورة إعادة النظر في آليات وطرق إنتاج السياسة الجنائية حتى تتحول إلى دافع ومكتسب قانوني يؤطر مثلما يحدد شروط بناء دولة الحق والقانون بالمغرب. لذا تتجلى لنا أهمية تكييف القوانين الجنائية مع مرجعيات حقوق الإنسان الهادفة إلى حماية الحق الطبيعي لهذا الأخير مثلما يجب مراجعة طرق تكوين الفاعلين في المجال الأمني والقضائي . *باحث في العلوم السياسية