اعتاد المصريون على متابعة المسلسلات الدرامية في رمضان على شاشاتهم الصغيرة، لكن هذه السنة سيخطف الرئيس المخلوع، حسني مبارك، الأضواء من كل نجوم الدراما المصرية، فوقائع محاكمته ونجليه ووزير داخليته لن تترك للمصريين، ولجزء من العرب، الفرصة لمشاهدة مسلسل آخر، مصريا كان أو سوريا أو تركيا. أطلق المصريون على محاكمة رئيسهم السابق: محاكمة القرن، لشدة إيمانهم بأن محاكمة الزعماء العرب في حياتهم أشبه بالمعجزة، ولهذا مازال الناس لا يصدقون احتمال مثول «قائدهم» أمام القضاء لمحاسبته، وربما عقابه على جرائم ارتكبها أثناء مزاولته لمهامه. محاكمة مبارك أمام قضاء مصري عرف بنزاهته لن تكون مثل محاكمة صدام حسين الذي حوكم في ظل الاحتلال وأُعدم بحبل الحقد المذهبي. محاكمة الرئيس مبارك، إذا احترمت فيها قواعد المحاكمة العادلة وإذا ما أبعدت وقائعها عن الحسابات السياسية الرامية إلى إسكات الشارع الذي يغلي ويطالب بثمار ثورة ميدان التحرير.. إذا كتب لهذه المحاكمة أن تكون «محاكمة» فعلا، فإن مصر ستكتب فصلا هاما في تاريخها، وستضع أسس دولة الحق والقانون، حيث لا مجال للإفلات من العقاب، ولا مجال لإطلاق النار على المدنيين، ولا مجال لمراكمة الثروة على ظهر السلطة، ولا مجال لإهانة مشاعر المواطنين بمخططات التوريث وخصخصة القرار السياسي لفائدة رجال الأعمال وتجار الإسمنت. مبارك ليس أسوأ رئيس حكم مصر، لكنه كان أكبر رئيس أهان مصر عندما سمح لبطانة السوء المحيطة به أن تزين له مخطط التوريث وِفق النموذج السوري المتخلف، ونماذج أخرى كانت في طريقها إلى أن تصير قدرا لا راد له، مثل مجنون ليبيا الذي كان يحضر ابنه سيف الإسلام لخلافته، ومهووس اليمن الذي كان يعد ابنه لكي يخلفه في الحكم، وحاكم قرطاج الذي ترك زوجته تدير البلاد من غرفة النوم... شعب مصر ليس شعبا دمويا ولا حقودا، لكن إصرار المصريين على محاكمة رئيسهم المخلوع جاء بعد أن أهانهم عندما أطلق أيدي رجال المخابرات لكي يفعلوا ما يشاؤون في أعراض الناس وأموالهم وأمنهم، وعندما أعطى الضوء الأخضر لرجال الأعمال لكي يحولوا الدولة إلى «بورصة»، والسلطة إلى كازينو، والمؤسسات إلى أصل تجاري. مبارك قبل سقوطه بأشهر زوّر الانتخابات البرلمانية، ولم يترك لمعارضيه ولو هامشا ضيقا للحركة، وحاصر غزة ولم يترك لها ولو ثقبا صغيرا تتنفس منه جراء خنق إسرائيل لها.. فعل كل هذا دون أن ينتبه إلى أنه قضى 31 سنة من عمره في حكم مصر، وأن مخزون الشرعية نفد، وأن مخزون صبر الناس نضب، ومخزون المناورة انتهى، وها هو الآن يواجه قضاة المحكمة بعدما عجز عن مواجهة أحكام شعبه.