جلست من خلف زجاج المقهى أتأمل مواطنا بسيطا يحاول عبور الطريق من المكان المخصص للراجلين والذي يعطيه طبعا حق الأسبقية. مرت ثوان طويلة والرجل واقف لا يبرح مكانه منتظرا من يمنحه حقه المهضوم. ثم فجأة مر بجانبه شاب قوي البنية وعبر الطريق في لا مبالاة تصل حد التهور فأرغم السائقين على التوقف، وتبعه المواطن البسيط مهرولا كي لا تضيع منه فرصة العبور. تساءلت حينها، إذا كان هذا المواطن البسيط هو الذي يقود سيارة رباعية الدفع ويمضي بها بسرعة جنونية هل كان ليتوقف عند ممر الراجلين بمجرد رؤيته لشخص يحاول المرور؟! في الطريق العام مشاهد كثيرة توثق لمجتمع أضاع البوصلة وفقد الهوية وانهارت قيمه في غفلة من البقية. فحين يتعطل السير بسبب الاكتظاظ أو لحدوث طارئ ما، تبدأ عملية فريدة من نوعها يقودها جماعة من الأذكياء الذين لا يفهمون لم يقف هؤلاء الأغبياء وراء بعضهم في صف طويل لا ينتهي. فيتسللون من كل الجوانب ويشقون لأنفسهم طريقا سريعا يتجاوزون بفضله كل المغفلين الذين يحترمون دورهم في صبر وأناة. هذه حالات تتكرر كثيرا في مجتمعنا، وليس فقط على الطريق العام بل أيضا في الإدارة العمومية حيث يصبح الوقوف في الصف واحترام الأسبقية عذابا أليما بكل المقاييس. فمن جهة تصاب بضيق في التنفس بسبب التدافع والالتحام، ومن جهة أخرى، تخشى أن تترك شبرا فارغا قد يحتله صائدو الفرص الثمينة من طينة الأذكياء أولئك. وحين يقترب دورك وتستعيد الأمل من جديد، يحدث ما سبق وأن حدث معنا جميعا حين يغادر الموظف مكتبه دون سابق إشعار ولا يعود إلا بعد مدة طويلة. وليس لك أن تسأل عن السبب، فهو يرى أنه يمُنُّ عليك بخدمة فريدة يتقاضى عليها أجرة زهيدة. في هذه الأثناء يأتي من الخلف من لديه "علم الكتاب" متجاوزا كل الواقفين في الصف منذ زمان، ويقضي شأنه في راحة واطمئنان، قبل أن يرتد إليك طرفك، وأنت لشدة ذهولك تقف عاجزا عن الكلام! مثال آخر: حين نتجاوز السرعة المسموح بها "مُتعمّدين" ونُضبط "مُتلبّسين"، هل نعترف بخطئنا وندفع الغرامة "مُقتنعين" لتكون لنا عبرة وتذكرة في قادم الأيام أم أننا نبادر إلى القسم أغلظ الأيمان؟ وإذا لم ينفع تباكينا نمر فورا إلى الخطة البديلة، تلك التي تؤدي طبعا إلى الرذيلة. الأمثلة كثيرة والمقصود واحد، وهو أننا أبناء بيئتنا وقد أصبحت بالفعل عليلة. إنها نماذج بسيطة نعايشها باستمرار في حياتنا اليومية، لكنها كثيرة لدرجة تشعرنا بالغثيان، وتجعلنا نعاني في صمت حتى نفقد تدريجيا حبنا وثقتنا في أنفسنا وفي مجتمعنا وفي مؤسساتنا كذلك. ولربما يكون هذا هو السبب الذي يدفع الكثير منا إلى التفكير في الهجرة والحصول على جنسية بلد متقدم لا يعاني من كل هذه الأمراض المزمنة. هذا ما نجنيه في غياب تربية سليمة، ما دمنا نربي أجيالا على الأنانية والتنافس وتحقيق المصلحة الشخصية. ألم ننشأ منذ الصغر على إيقاع هذه الجملة المتكررة: "ادرس جيدا لتُكوِّن نفسك ويصبح لك شأن ومكانة"؟ فمنذ متى قيل لنا ادرسوا جيدا وتعلموا لتُكوِّنوا هذا الوطن ويصبح له شأن ومكانة؟ منذ متى حدثونا عن الهوية الجماعية والمصلحة العامة والهدف المشترك؟ منذ متى فهمنا أن المواطنة تعني التضحية والإيثار وحب الخير لجميع المواطنين على اختلاف مكانتهم ولونهم وجنسهم ولغتهم ودينهم؟! العيش المشترك هو في الأساس طابع وتطبع. ولا مناص اليوم من أن نعيش معا ونتقاسم الأرض والهواء، ونتقاسم أيضا اللغة والثقافة والانتماء. وفي عالم يتوحد يوما بعد يوم ويُحَدِّث أخباره كل صباح ومساء، سيزداد اختلافنا وتنوعنا وستقل قواسمنا المشتركة التي تعودنا عليها من قبل، وتصبح هويتنا الجماعية في حاجة إلى إعادة البناء. لذلك صار لزاما علينا أن ندرك أهمية التربية على المواطنة في حياتنا، وأن نوليها أهمية قصوى، ونجعل منها قضية وطنية بامتياز. الاهتمام بالتربية، لإحداث تحول فردي وتحول جماعي على حد سواء، هو السبيل لتحقيق نمو عضوي مستدام يضمن الرخاء والعيش الكريم. فتغيير الأفراد لن يُجدي نفعا إذا لم تتغير الضمائر، كما أن الهوية الجماعية لا يمكنها أن تتشكل في تجاهل لأي مكون من مكونات الهويات الفردية. هذه هي شروط العيش المشترك في مناخ سليم. فإذا كنا قد اخترنا، عن اقتناع وتشبث بمكتسباتنا التاريخية، طريق البناء والإعمار، في الوقت الذي سلكت فيه عديد من الدول طريق الهدم والدمار، فلا بد وأننا نعي بأنه طريق شاقّ وطويل ويحتاج إلى صبر وعزيمة ورؤية تتكشف باستمرار. إنه ميدان للعمل الجماعي وتضافر جهود كل المواطنين. وما نحن، اليوم، إلا أمام تحدٍّ جديد سنصادفه في كل حين. وما دمنا نعمل معا سنبقى متماسكين، متنوعين لكن متحدين، قلقين لكن متفائلين. إنها عملية هدم وبناء تشيّد أركان الصُّلح في العالمين.