تبدو الجهة في المعطى الأول لها جزءا من كل هو البلد- المجتمع الذي تنتمي إليه. فهي واحدة من جهات أخرى تنتمي إلى نفس الكل. ويعني هذا الأمر أن الجهات التي تنتمي إلى نفس الكل لها عناصر مشتركة توجد مجتمعة في ذلك الكل: عناصر التاريخ، واللغة، والوحدة الاقتصادية والسياسية والمجتمعية، والأنثروبولوجية والدينية، وغير ذلك مما يمكن أن يختلف من بلد إلى آخر. الجهة من زاوية أخرى من النظر إليها كل في حد ذاتها، إذ هي بمثابة البنية التي لها خصائصها المميزة عن الجهات الأخرى التي تنتمي معها إلى نفس البلد. كما أن الجهة نظهر، من منظور آخر، بمثابة البنية المندمجة داخل بنية أكبر منها مرتبطة بها بعلاقة جدلية. بتعبير آخر، كما أن هناك من صفات الجهة مايجعلنا نفهم انتماءها إلى البلد، فإن هناك من الخصائص ما يجعلنا نفهم ضرورة التعامل بها ومعها بوصفها مستقلة وذات وجود متميز. الجهة في مظهرها الأول معطى جغرافي، لكنها تتصف، إضافة إلى ذلك، بكونها إدارية، واقتصادية، ولغوية، وثقافية، وواقعا قانونيا وسياسيا. لاتجتمع في الجهة دائما كل الصفات التي ذكرناها، ومن الصعب تقسيم أي بلد إلى جهات تبعا لتلك الصفات مجتمعة. ولذلك لاتوجد معايير ثابتة لتحديد الجهات لأن هذا يختلف من بلد لآخر تبعا للمكونات التي تدخل في تكوين سكانه. ويعني هذا الأمر عدم وجود نموذج واحد للتقسيم الجهوي. السؤال المشترك بين جميع البلدان التي وقع تقسيمها إلى جهات هو: ماالذي دفع كثيرا من البلدان في جهات مختلفة من العالم إلى السير في طريق التقسيم الجهوي؟ وما الذي جعل هذه البلدان تخرج من نظام الحكومات ذات السلطة المتمركزة إلى نظام الجهة ذات السلطة المحلية ؟ المبدأ الأول للتقسيم الجهوي هو الوعي بأن تعميق التنظيم الديمقراطي للبلاد يتطلب تقسيمها إلى جهات لها استقلال نسبي، من حيث تنظيمها على جميع الأصعدة، عن السلطة المركزية التي تمثل البلاد في وحدتها رغم اختلاف جهاتها ومكوناتها. ففي تطور الديمقراطية في المجتمع، ونتيجة للوعي المتزايد بأنه لايمكن تدبير شؤون الجهات المختلفة لأي بلد انطلاقا من مركز يحدد وحده جميع السياسات التي ينبغي إتباعها في جميع القطاعات الإنتاجية والإدارية والتربوية والتكوينية، انبثقت فكرة الجهة. نميل، طلبا لفائدة الفهم، أن نماثل الأمر الذي نتناوله هنا بنظرة الفيزياء إلى نسبية صلاحية قوانينها من عالم الظواهر الكبرى إلى عالم الجزيئات الصغيرة. فقوانين الظواهر الكبرى، كما تعلمنا الفيزياء المعاصرة، لاتنطبق على الظواهر الصغيرة وغير القابلة للملاحظة المعتادة، وهذا رغم أن هذه الظواهر الصغرى تكون من مكونات الظواهر الكبرى. ونستفيد من هذا المثال قولنا: إن ملاحظة معطيات الجهة قد تكون ممكنة بالنسبة لمن يلاحظها من المركز باعتبارها جزءا منه، ولكن هذه الملاحظة، التي لاتخلو من فائدة عند رسم السياسات للبلاد في مجملها، لن تحيط، مع ذلك، بحقيقة تلك المعطيات. وبخلاف ذلك، فإن النظر إلى معطيات الجهة انطلاقا منها تساعد على تبين العوامل المكونة لها بصورة اقرب إلى واقعها، وتسمح لذلك برسم سياسة ملائمة خاصة بها. ومعنى هذا من الناحيتين السياسية والإدارية أن المسئول المحلي في الجهة يكزن اقرب من المسئول على مستوى السلطة المركزية من تمثل حاجات الجهة ومن معرفة الوسائل الممكنة والمتوفرة، أو التي يمكن جلبها، للمشاريع التنموية الخاصة بالجهة التي هو فيها. وحتى إذا ماوصفنا معرفة الفاعل المحلي بأنها أكثر موضوعية، فإننا نقول إنه ينبغي أن ندمج في صفة الموضوعية تلك جانبا عمليا يتعلق بالسياسات التي توضع لمواجهة المشكلات المطروحة. يوجهنا التحليل السابق إلى القول إن التدبير السياسي في حالة التقسيم الجهوي يكون على مستويين في الوقت ذاته. فهناك سياسة عامة ترسم الحاجات العامة والمشتركة للبلاد بكل جهاتها. السياسة العامة في هذه الحالة، وهي التي تصدر عن رؤية البلاد بوصفها كلا واحدا ، ترشد السياسات الجهوية بإعطائها التوجهات العامة التي ستستند إليها. ولكن، حيث أكدنا أن العلاقات التي نهتدي بها تتضمن جدل التأثير المتبادل، فإن المشكلات التي تطرح في الجهات تصبح بدورها مرشدا لملامح السياسة العامة للبلاد ولمخططات التنمية الموضوعة على هذا المستوى. لكي نعود إلى إطار الرؤية العامة التي انطلق منها تحليلنا، والقائلة بالترابط الجدلي بين المفاهيم الثلاثة الأساسية في هذه الدراسة، فإننا نقول إن التقسيم الجهوي يصبح في حالة وجود اختلاف بين مكونات المجتمع الواحد معطى يعزز التنظيم الديمقراطي للمجتمع، ويمنح سياسات البلاد بعدا يجعلها اقرب إلى المواطن في كل جهة من الجهات، كما ان ذلك التقسيم يستجيب لمطلب التوازن بين جهات البلد الواحد ولمطلب التوازن بين المكونات البشرية بما تحمله من اختلافات ثقافبة بإعطائها حقها من سياسة الدولة ومن صيرورة التنمية. من زاوية أخرى من النظر، فإن الجهة التي نعتبرها مظهر توازن في المجتمع بين وحدته واختلافاته تكون هي أيضا في حاجة إلى أن يتحقق بداخلها توازن في السياسات الخاصة بها. فالجهة بدورها متضمنة لعناصر مختلفة في حاجة إلى سياسات متعددة: إدارية ، ومالية اقتصادية، وتربوية تكوينية، وتنمية في قطاعات مختلفة، وثقافية تهم الثقافة الخاصة دون إغفال تفاعل هذه الثقافة مع المكونات الثقافية للبلاد في مجموعها. ونقول هذا لأن الجهة، بتحديدها نفسه، ليست جزءا منفصلا عن الكل، بل هي مندمجة مع الكل الذي تنتمي إليه عبر علاقات أخذ وعطاء متبادلين.. يبدو تبعا للطربقة التي حددنا بها ظهور فكرة التقسيم الجهوي للمجتمع أننا لم نفصل تفكيرنا في الجهة عن تفكيرنا في الديمقراطية والتوازن السياسيين والمجتمعيين في الوقت ذاته. فالجهة كما وصفناها محل للتوازن بين المكونات المجتمعية من جهة، وللتوازن بين السياسات التنموية والثقافية من جهة أخرى. أياما بعد إيغاله في بياضات الصمت والجنون عانق نيتشه الفيلسوف الألماني حصانا في إحدى ساحات مدينة طورينو يوم 3 جوان 1889. نعلم بأن ذلك اليوم كان حاسما في حياة نيتشه وفلسفته لأن سيصمت نهائيا طيلة عقد بأكمله قبل أن يموت على عتبة القرن العشرين. عاد إلى حضن أمه في فيمار التي قالت حينها بأن من حسنات الجنون هو أنه أعاد إليها ابنها من فوضى التيه. بكى نيتشه حين رأى الحوذي يلهب بالسوط ظهر الحصان، ثم سقط ككتلة جامدة بعد ذلك. تاهت نظراته في قارة أخرى غريبة وظلت العربات التي تجرها الأحصنة تتفاداه. حين عانق الفيلسوف الحصان ظل الحوذي ينظر إليه مندهشا والسوط معلق في الهواء. انهمرت دموعه لتغمر عنق الحصان. أي أخوة فادحة ربطت حينها بين الفيلسوف الباكي المتأثر والحصان الذي ظل واقفا؟. لن يكتب نيتشه شيئا عن هذه الحركة الغريبة، سيدمن الصمت ولن يقول شيئا أبدا بعد ذلك مدة عشر سنوات حتى وفاته سنة 1900. هل كان هذا الصمت/العزلة الغريبان، صمت قرن انتهى؟. نحن لا نعرف في الحقيقة من الذي بكى الآخر هل هو نيتشه أم الحصان، وإذا كنا نعرف أشياء معينة عن الفيلسوف فنحن لا نعرف أي شيء عن الحيوان. إنها الوقائع التي حدثت في ذلك اليوم الفارق في طورينو. يوم 17 ماي 1914 كتب الكاتب التشيكي المقيم في براغ فرانز كافكا في مذكراته شذرة طويلة تضمنت حديثا عن ظهور حصان في ثنايا ما يشبه حلم يقظة بدأها بالحديث عن بقائه وحيدا في المنزل مع أبيه بعدما سافرت أمه وأخته إلى برلين، وبدا له أنّ أباه خائف من الصعود لتناول العشاء معه. هل يلزمني لعب الورق معه؟ يتساءل كافكا. (ظهر لي الحصان الأبيض لأوّل مرة البارحة قبل أن أنام. أعتقد بأنه خرج أوّلا من رأسي الذي كان وقتها مستديرا نحو الجدار، وأنه قفز أسفل السرير، فوق جسدي، ثم غاب بعد ذلك)، لكن السطور السابقة على هذا المقطع لا تترك لنا أي شك حول هوية هذا الزائر، إذ ظهر الحصان الأبيض أوّل مرّة في منتصف إحدى نهارات الخريف في شارع مقفر في أغلب الأحيان. خرج من ممر بيت كان فناؤه مليئا بمخازن شاسعة لشركة نقل، وكما يحدث دائما فإن حصانا أعزلا، حتى لو خرج مخترقا الممر فإنه لا يثير الانتباه، إذ لم يكن الحصان الأبيض ملكا للشركة. رآه أحد العمال الذي كان منهمكا في ربط أكياس البضائع بالحبال واقفا أمام الباب، رفع عينيه وجال ببصره في الفناء حتى يرى إذا ما كان الحوذي سيأتي للحاق به. لكن لا أحد أتى، حينها انتصب الحصان واقفا على رجليه الخلفيتين بنرفزة واضحة بمجرد ما وضع الرجل الأولى على الرصيف، قدحت بضع شرارات على البلاط، وفي لحظة مّا كاد أن يسقط لكنه استعاد توازنه، ثم صعد الشارع المقفر تقريبا ساعة الغروب وهو يخب لا سريعا ولا بطيئا. عبر العامل عن حنقه ضد ما اعتبره إهمالا من طرف الحوذي، ونادى على بضعة أسماء في الفناء، فتراءت بعض الرؤوس حين علموا بسرعة بأن الحصان غريب عن الشركة اكتفوا بالبقاء جنبا إلى جنب بمحاذاة الباب مندهشين قليلا، ثم انطلقوا بعد ذلك لملاحقته بعدما تجاوزهم بمسافة كبيرة وحين فقدوا أثره عادوا أدراجهم خائبين. بلغ الحصان أحياء الضواحي راكضا بلا توقف، وتآلف مع الحياة في الأزقة أكثر مما يستطيعه عادة حصان أعزل. خطاه البطيئة لم تكن تخيف أحدا ولم يكن يغادر رصيفه أبدا، ولا الأماكن الذي يسمح المرور فيها قانونيا، وإذا ما كان ضروريا التوقف بسبب مرور سيارة قادمة من شارع آخر فقد كان يتوقف، وحتى أمهر الحوذيين وأكثرهم دراية بفن سياقة الخيل، ما كان ليسوقه كما كان يفعل هو نفسه، بالقليل النادر جدّا من الأخطاء. منظر الحصان كان مثيرا وهو يتجول في الأزقة ويمخر الشوارع أعزلا محترما قواعد النظام الحضري، كأنه على درجة عالية من الذكاء، ومراعيا كلّ الأنظمة التي تحكم العيش في وسط مديني. كان حصانا استثنائيا. من يدري، قد يكون هاربا من استغلال أو خضوع مّا، متمردا على منطق الربح التجاري الرأسمالي في شركة مّا، أو هاربا من أب مّا، لن يستطيع، بحكم أنه حصان، أن يكتب له أية رسالة. الناس كانوا يتوقفون بين الفينة والأخرى ليتفرجوا عليه، يلاحقونه بنظراتهم مبتسمين، ضربه حوذي كان يسوق عربة مشروبات روحية بسوطه حين عبر بجواره على سبيل المزاح، فجفل قليلا وانتصب واقفا على رجليه الخلفيتين لكنه لم يسرع الخطو. ذاك كان الحادث الذي رآه رجل بوليس تحديدا، فتقدم نحو الحصان الذي حاول الذهاب في اتجاه آخر وأمسك بلجامه (بالرغم من أن الحصان كان قوي البنية فقد كان في فمه لجام مثل أحصنة الجر المنذورة للأشغال الشاقة) وقال له بشكل ودي: (توقف! إلى أين تركض؟). ظل ممسكا به للحظات وسط الطريق معتقدا أن مالكه لن يتأخر عن المجيء لاستعادة الحيوان الهارب. هنا يأتي حصان الحلم عند كافكا الذي يمرق من رأسه وهو مستدير الوجه إلى الجدار. لكن نهاية الحلم تختلف عن نهاية الوقائع التي سردها قبله، فحصان الحلم تماهى وخط الانفلات والهروب وحصان الواقع اندغم في خط الأسر. لاشيء يشير إلى أنّ كافكا كان على علم بالوقائع المشار إليها قبل الحلم، شركة النقل في عربات تسحبها أحصنة الجر، السوط، السقوط، الشرر المقدوح، لكنها كلها وقائع وردت في الفقرة الموجزة السابقة على الحلم، وسط الشارع وفي لحظة موجزة والرأس مسنود إلى الجدار...تلك الأحداث التي تسبق الأحلام، أو تمهد لها. قد تكون هناك مرئيات أخرى وأشكال ظهور متعددة، ضائعة بالنسبة لنا داخل ثنايا الهمس والهسيس، ممحوة في جوانية شهود مجهولي الهوية. ثم هناك حصان الطفل الصغير ذو السنوات الخمس، فيفريي وأفريل سنة 1908 في فيينا حصان الطفل الصغير الذي خلده فرويد تحت إسم (الحالة هانز)، والذي تطور لديه نوع من القلق الغريب اتجاه الأحصنة، وخصوصا تلك التي تصعد وتنزل عبر منصة التفريغ في المخزن المواجه لمنزل عائلته، جارة العربات. خاف هانز خصوصا الأحصنة البيضاء، خشى أن تعضه وأن تسقط لأنه رأى يوما أحدها وهو يسقط جارا خلفه العربة، سقط حين ألهب الحوذي ظهره بضربات السوط العنيفة، بعد أحدث فوضى عارمة وضجيج بصفائح حوافره. لم يعد هانز الصغير قادرا ولا راغبا في الخروج من منزل والديه، لكن أحد أصدقاء العائلة هرع للمساعدة، وصاغ لهذا القلق البسيط شكلا ومحتوى صار بعدها جزءا من تاريخ الطب النفسي. لقد حول خوف الطفل إلى فوبيا، عكف على تحليلها من خلال مجموعة من المقارنات والأمثلة، ليؤكد أخيرا بأن (الحالة هانز) هي عموما (قلق لا علاقة أصلية له أبدا مع الأحصنة) كما أورد ذلك في (خمسة تحليلات نفسية) التي ضمت رسما مضطربا لحصان من إنجاز الطفل موضوع الحالة، وفيه نرى العين واللجام والأشرطة الرابطة مصورة بسرعة بقلم رصاص. إنها أحصنة عابرة بين عالمين وقارتين وقرنين التاسع عشر والعشرين. أحصنة ترصد التحولات وتحضر نوعا مّا كشهود عليها. أحصنة النهاية والبداية. ما يتبقى إذن هي آثار قرن انتهى سرعان ما تغيب وتنمحي. ما يبقى هو أثر الجنون (نيتشه)، أثر الأرق ليلا (كافكا) وأثر الفوبيا (هانز)، والجغرافيات التي ترسمها والفصل الاستثنائي الذي يصاحبها، أي عند نهاية فصل الشتاء بين جانفيي وماي. لكن حصانا آخر سيأتي ليعوض الآخر، ويفرغ الإصطبلات ويترك جانبا اللجامات والأشرطة الرابطة التي كانت تخيف هانز الطفل الصغير. لقد عوضت آلات أخرى ديناميكية ومتحركة الأحصنة، ولم يتبق من الحصان غير أطروحة-حصان. يقولون في الفرنسية التعبير التالي: Etre à cheval entre deux، وركوب الحصان هنا يعني التنقل/الانوجاد بين شيئين، عالمين، قضيتين، قارتين إلخ...وهو ما يؤكد بالتالي أن الحصان كما الكائنات الأخرى في الواقع والأدب والفلسفة يظل مجرد أطروحة. لنستحضر أيضا حصانا تاريخيا وفلسفيا خلده هيجل الفيلسوف الألماني، حين أطل ورأى نابليون يعبر أزقة مدينة إيينا حيث يقوم الفيلسوف وقال لجلسائه: (أنظروا إن التاريخ يسير أسفل نافذتي على صهوة حصان). حين أتيت للإقامة في المدينة الصغيرة حيث قضيت الآن أكثر من عقدين، راعني العدد الكبير للأحصنة التي تعبر أزقتها وشارعها الوحيد، أحصنة من مختلف الأحجام والألوان تجر عربات نقل البضائع المسماة (كروصة)، وتجر عربات نقل الركاب المسماة (كوتشي). كان ذلك في الحيز الفاصل/الرابط بين قرنين العشرين والواحد العشرين. تندلق الحياة اليومية بإيقاع مرن وينعلن التجاور بين الإنسان والحصان والآلة بطريقة سلسة لا تقف أبدا عند التناقضات الظاهرة بين العربة التي يجرها حصان وسيارة الدفع الرباعي. لكن الأحصنة هنا، عكس حصان كافكا، لم تفر من قدرها لتمخر الأزقة بكل أريحية بل تظل طيلة النهار تجر العربات المثقلة بالبضائع والكوتشيات الملأى بالركاب، بينما حوذيون شبان يلهبون بطونها الضامرة وظهورها المتقرحة بالسياط لتركض بسرعة، أحصنة لا تأتي في الحلم بل تظل طيلة النهار تمخر الإسفلت صعودا وهبوطا، وتكتوي بلهيب الواقع بالرغم من أن بعضها طاله النحول والهزال ولم يبق منه غير الجلد على العظام. تعبر الأحصنة مثل استعارات خراب، أو حيوات مشوهة صحراء الواقع حيث تتعملق سلطة السيمولاكر، وحيث يصير الزائف الزمن الأساس للحقيقي. إنها أحصنة منفية في شقائها اليومي، طاعنة في النسيان، لا حلم يأويها. مرة وأنا جالس في مقهى تمتد أمامه حديقة خضراء طاعن في قراءة كتاب، توقفت ورميت ببصري بعيدا فأبصرت بالصدفة حصانا أبيضا وسط العشب الأخضر واقفا كأنه هو الآخر ينظر إلي. كان هزيلا جدّا ونحيلا، مجرد هيكل عظمي يكسوه جلد متقرح مليئ بالبثور والجراح، كان ينظر بعينين متعبتين وبين الفينة والأخرى يلتهم عشب الحديقة. بعدها رأيته مرارا يعبر الأزقة والشارع الوحيد، وسط أرتال السيارات والشاحنات غير عابئ بشيء شبيها بحصان دون كيشوت المتعب من كثرة أسفار صاحبه وهذيانه وجنونه. بدا لي أن الحصان الأبيض الهزيل قد صار منذ سنوات مهملا وسط حياة مهملة، بعدما وهنت عظامه ولم يعد قادرا على تحمل الأشغال الشاقة. من يدري لربما كانت الأحصنة التي تعبر الأمكنة في المدينة الصغيرة هي الأخرى مجرد أطروحة حصان. من يدري؟ قد يكون ذلك حلما...مجرد حلم. لكن المؤكد هو أن زمن الأحصنة هنا/الآن أو أطروحتها على الأقل لم ينته بعد. حتى والزمن راكب على صهوة حصان بين قرنين العشرون والواحد العشرون..../.