كنت(انا) يومها مهموما بكمية الأحقاد وبالتخوين والتخوين المتبادل، وكنت متضايقا جدا من جو الاستبداد الذي يريد أن يفرضه البعض قسرا..كان ينصت مثل قديس لا يتحدث إلا قليلا وإذا تحدث كان يختصر ما يريد أن يقوله في جملة واحدة هادئة لكنها صاعقة..أقنعني، كما لم يقنعني أحد يوما، أن الدفاع عن الحق في الاختلاف مسيرة شاقة..لا تسهويه الأضواء وحين يصل إلى أقصى حنقه يردد بصوت خافت، كأنما يتحدث إلى نفسه: الذين يخونون هم أعداء الحراك الحقيقيين وكان يدافع عن هذه الفكرة بشراسة..لا يحب ثقافة الشتم والسب التي احترفها البعض إلى درجة اعتبارها عقيدة راسخة، وكلما رأى "حفلة السياط" ضد الأصدقاء والأعداء يعتذر في مكانهم عبر الفايس بوك أو في تعليق مقتضب لكنه عميق.. بسيط يكره أن يعقد الأمور: نريد الحوار مع لجنة وزارية أو مع أي جهة أخرى، والحوار يقتضي الحد الأدنى من التنازل..تجلد كثيرا على تخوينه وعلى لسعات الأصدقاء، بل إن الحراك في تقديره هو هاته المتناقضات التي يحملها شباب ضاع في الهجرة وفي الشغل وفي السياسة..وفي الحلم أيضا.. مع فكري وحلمي ورضوان، كان يناقش أفكاره، وأنت مشدوه من قدرته على ضبط أعصابه، ثلاجة تتحرك عركته السياسة، وحقن بداء الحوار..مهووس بالحوار والاختلاف وحتى حينما اعتقل صحبه ظل مؤمنا بالسلمية والحوار ، وكان قلبه يميل جهة اليسار..جهة اليسار تماما.. كان المجاوي كارها للأضواء مؤمنا بالحراك حد التماهي وبالسلمية حد التقديس. جرب المواجهة زمن الرصاص، وعرف أنه ليس في كل مرة مقدورا علينا أن نقدم قرابين جديدة، وكان ببصره وبصيرته يعرف أننا ذاهبون إلى نفق موغل في السواد. وحين اعتقلوك يا محمد، لم يعتقلوا المجاوي ولا قياديا في الحراك، بل اعتقلوا رجاحة العقل واعتدال الأفكار والحكمة في لحظات الهيستريا الجماعية. اعتقلوا مخا يفكر بالسلم ويعيش بالسلم، واعتقلوا عقلنا الجماعي الباحث عن أمل لشباب المنطقة لكن الزارع في الحقول الوعرة لا يكون دائما هو الحاصد كما قال الشاعر يوما. وحين اعتقلوك يا محمد لم يصدق أحد من أبناء المدينة أنك أيضا متورط في التهمة الثقيلة: الحق في الحلم..ليس لأنك كنت معتدلا، لا أبدا، بل لأنك كنت تشكل صمام الأمان الجماعي من انحرافات الغلاة، وكنا ننظر إليك بمثابة الخط الأخير لإنقاذنا من الورطة الجماعية. لكن السلطة لا ترى- بتعبير روسو-، ولم تعد تميز بين المتطرف والمعتدل وبين الراغب في الحوار وبين الرافض له..العصا صارت قدرا جماعيا ولما اعتقلوك لم يعرفوا أنهم يقتلون فينا أملا جماعيا وحتى اللذين كانوا ضد الحراك أو ضد خطابه إذا شئنا الدقة أكثر صاروا معه يحتضنونه يدافعون عن أكثر الرؤى تطرفا لأنهم كانوا يحبونك ويثقون فيك وفي قدرتك على مد جسور الحوار.. واليوم، التقيت بابنتيك دينا ولويزا ويقينا لا يعرفان شيئا عن حلمك الذي دافعت عنه بشراسة ولا تعرفان أنك خلفا القضبان لأنك كنت تدافع عن حق الآخرين في العيش بكرامة ولا تعرفان كذلك أنه قبل أن تذهب إلى عكاشة كنت ذاهبا إلى المدرسة لتضمن حق أبناء الشعب في التدريس..ذلك جزء من الحراك كنت تقول لي.. العقل دائما في محنة يا محمد، تكرهه الدولة وتخشى منه، ويكرهه بعض الغلاة منا لأنه يضمن مساحة شاسعة للتعايش، وقبل قرن اعتقلوا عقل ابن رشد والتوحيدي وبعدها اعتقلوا عقل غاليلي..أنت اليوم تدفع نفس الضريبة القديمة لأنك سمحت لعقلك بالاشتغال..وتلك تهمة ثقيلة تلخص مأساتنا الجماعية.