فوق أريكة تتناثر عليها بقايا توابل، بجوار ميزان عتيق، يجلس الخمسيني المصري، محمد الدسوقي، في متجره بمنطقة الأزهر التاريخية (وسط القاهرة) بين توابله وأعشابه، ملبيا طلبات زبائن يسعون إلى إحياء بهجة عيد الفطر بشراء مستلزمات الكعك. متجر الدسوقي يقع في ممر ضيق، معروف باسم "سوق العطارين" في هذه المنطقة التاريخية؛ حيث تتلاصق المتاجر الصغيرة، وتخطف أنظارك أجولة متراصة بأنواع شتي من التوابل ومسلتزمات أخرى للعطارة. أحيانا كثيرة في هذا السوق ربما تأخذك نوبة من العطس؛ جراء الروائح الرائجة في ممر لا يتجاوز عرضه نحو ثلاثة أمتار، وسط خُطى باعة وزبائن وزار لا تنقطع على مدار النهار، وقطع من الليل. السوق العتيق "سوق العطارين" عُرف بذلك الاسم نسبة إلى رواج تجارة التوابل والأعشاب فيه. ووفق أيمن فؤاد، أستاذ التاريخ الإسلامي في جامعة الأزهر بالقاهرة، فإنه كان مقرا لصناعة الورق والبنادق في العصريين المملوكي (1250- 1517 ميلادية) والعثماني (1516/1867 ميلادية). ويتابع فؤاد للأناضول أن "الممر الذي تملؤه روائح العطارة وأجولة الأعشاب كان منطقة تابعة لقصر السلطان في العصر الفاطمي (969/1171ميلادية)، ومع قيام دولة المماليك تحول إلى منطقة تجارية، ولم يغيرها العثمانيون، بل ظلت كما هي". ويوضح أن "موسوعة الخطط التوفيقية (موسوعة تاريخية) للمؤرخ المصري، علي مبارك، تشير إلى أن هذه المنطقة قبل مجئ العثمانيين كانت تسمي الشرابشيين، وتحول المسمي إلى شارع الحمزاوي الصغير، نسبة إلى الأمير حاتم الحمزاوي، أحد القادة الذين جاءوا مصر بعد سنوات من الفتح العثماني، ثم عرفت فيما بعد بسوق العطارين". روائح الكعك ورث العطار الدسوقي مهنة العطارة من أجداده، ويقول للأناضول إن "هذا السوق يمتلئ ببضائع من دول عديدة، بينها الهند وسنغافورة، التي نستورد منهما الفلفل الأسود، وكذلك الصومال والسودان، التي نستورد منهما التمر والشطة". ويشير إلى أن "الفلفل الأسود يأتي على رأس التوابل، التي يستوردها تجار السوق، ويليه الكمون". الدسوقي يوضح أن "تجارة التوابل والياميش تنشط مع قدوم شهر رمضان، ودخول عيد الفطر؛ حيث يحرص المصريون على استخدام هذه المواد في المأكولات الخاصة بالشهر الكريم، أو لإعداد كعك العيد، وهو بمثابة بهجة سنوية لهم". ويضيف أن "الياميش بأنواعه، مثل الزبيب والتين، وغيرهما، نستورده من تركيا و (بلاد) الشام". و"مع اقتراب عيد الفطر، يقتصر البيع على الروائح المتعلقة بكعك العيد، فالورد، وجوز الهند، والموز، والبرتقال كلها روائح تحرص ربات البيوت على اقتنائها من سوق العطارين"، وفق مينا سالم (28 عاما)، أحد عطاري السوق. طبّ الأعشاب ولا تقتصر المبيعات في سوق العطارين على التوابل وروائح كعك العيد، فجميع العطارين في السوق يعملون في مجال التداوي بالأعشاب والنباتات، "فالعطارة هي أصل مهنة الطب والتداوي"، كما يقول الدسوقي. ويضيف أن "العطارين يصنعون لزوار الشارع بعض الوصفات العلاجية التي تخفف آلامهم، كل حسب مرضه". وبلهجة خبير، يوضح أن "الأعشاب المستخدمة في العلاج محلية ونحصل عليها من مناطق معينة في صحاري مصر، عبر تجارة موصولة مع بعض أفراد البدو المصريين، سواء من مناطق في الصحراء الغربية، أو من سيناء (شمال شرق)". ويحرك الدسوقي بعض أدواته ليخرج مسحوقا رمادي اللون، ويشير إلى أنه بعض ورق الليمون المطحون، ويقدمه علاجا لمرضى الرمد، كما يستخدم نباتات "البردقوش والينسون والزعتر" في وصفات علاجية أخرى. ويشدد الدسوقي على أن "الوصفات العلاجية تحتاج إلى عطار متمرس وخبير بالأعشاب، والعطارون المصريون يتوارثون هذه الصنعة جيلا بعد آخر، فكل يأخذ عن أبيه، كما يعتمدون على بعض الكتب التراثية التي تشرح علم الأعشاب". تركيبات طبية ووفق سامي الدرديري (40عاما)، وهو صاحب متجر للعطارة في السوق، فإن "التركيبات الطبية، التي أبيعها هي مستحضرات أصنعها بيدي لبعض الأمراض الجلدية، فضلا عن تركيبات مغذية للشعر". ويضيف الدرديري، للأناضول، أن "بعض السيدات الخبيرات في شؤون الطهي يحرصن على شراء جرامات من توليفة تعدها محلات العطارة من الأعشاب والنباتات الطبيعية، مثل القرفة والقرنفل والحبهان". ويوضح أن "هذه الخلطة تساعد المعدة على زيادة إفرازاتها، وهو ما يسهل من عملية الهضم، ويدعم امتصاص العناصر الغذائية، عبر تحفيز هذه التوابل لإفراز إنزيمات الهضم وعصارته، مما يترتب عليه حركة نشطة للمعدة والأمعاء لهضم المواد النشوية والدهنية، لاسيما في كعك العيد". ولم يتسن التأكد من مصدر مستقل حول كون تلك الوصفات ذات فعالية أم لا. أسعار جنونية العطار الدسوقي يرى أن "الأسعار هذا العام أصابها الجنون؛ بسبب ارتفاع سعر الدولار الأمريكي من ثماني جنيهات، قبل قرار الحكومة، في نوفمبر/ تشرين ثان الماضي، تحرير سعر صرف العملة المحلية (الجنيه)، ليصل إلى 18 جنيها حاليا، وهو ما زاد الأسعار إلى الضعف". ويقول الدرديري إن "مهنتنا تتأثر كثيرا بظروف الاستيراد، التي ساءت خلال السنوات الأخيرة، وما تبعها من ارتفاع أسعار كثير من التوابل المستوردة، وتراجع حركة البيع". وبدوره، يشدد مينا سالم على أن "حركة البيع متراجعة جدا هذا العام، مقارنة بالعالم الماضي". سالم، الذي عاش طفولته وشبابه في زقاق السوق العتيق، يسترجع ما كان موجودا في شارع العطارين قبل ثورة 2011، التي أطاحت بالرئيس الأسبق، محمد حسني مبارك (1981 - 2011)، حيث كان هذا السوق محط أنظار الكثير من السائحين الأجانب ل"رؤية هذا العالم الساحر" وسط القاهرة التاريخية. وكان تجار العطارة والأعشاب يبرعون في اجتذاب السائحين، لكن جاءت رياح الاضطرابات السياسية بما لا يشتهيه تجار سوق العطارين. ومع شكاوى المواطنين المستمرة من ارتفاع أسعار السلع، تقول الحكومة المصرية إنها حريصة على تجاوز الأزمة الاقتصادية الراهنة، ومواجهة ارتفاع الأسعار بشكل لا يؤثر على محدودي الدخل. *وكالة أنباء الأناضول