من أشهر الأساطير اليونانية القديمة أسطورة "بروميثيوس" (Prométhée, Promêtheús). ملخّصها أن هذا الأخير تجرّأ على سرقة شعلة من النار المقدّسة لكبير الآلهة "زيوس" (Zeus)، الذي كان حريصا على أن لا تصل أية جمرة من هذه النار إلى بني البشر في الأرض، حتى يبقوْا تحت سيادة الطبيعة، خاضعين مستسلمين لها، تمنعهم حالتهم الحيوانية من امتلاك أية معارف أو مهارات أو ثقافة. لكن "بروميثيوس" هبط بالشعلة المسروقة إلى الأرض وسلّمها إلى الإنسان الذي استعملها للتحرّر من الطبيعة، والتخلّص من وضعه الحيواني، وذلك باكتساب المعارف وإنتاج الصنائع والتقنيات بفضل نعمة النار، والانتقال، في الأخير، من الطبيعة إلى الثقافة التي هي الفاصل بين وضع الحيوان ووضع الإنسان. طبعا عندما اكتشف "زيوس" فعلة "بروميثيوس" غضب غضبا إلهيا شديدا، ما كان ليطفئه إلا انتقام إلهي شديد من "بروميثيوس". فأمر باعتقاله وتصفيده بالأغلال فوق صخرة بجبل "القوقاز"، مع تكليف نسر متوحّش بالتهام كل يوم كبدَه، الذي كان يتجدد ويعود إلى حالته الطبيعية في كل ليلة، وذلك إمعانا في تعذيبه وإيلامه بشكل متواصل لا يتوقف. لكن رغم كل هذا التنكيل ب"بروميثيوس"، فإن النار، التي كانت وراء عذابه ومعاناته بسبب اختلاسه لشعلة منها ونقلها إلى الإنسان، كانت قد انتشرت، وبشكل لا رجعة فيه، بين بني البشر، وأصبحوا يعرفون استعمالها بما يفيدهم وينفعهم ويحررّهم، على الخصوص، من حالة الطبيعة بمستواها الحيواني للارتقاء إلى حالة الثقافة بمستواها الإنساني، والتي هي شرط للتحضّر والتطور والتقدّم. ولهذا فإن عقاب "زيوس" ل"بروميثيوس" لم يُجْدِ في إعادة عقارب التاريخ إلى الوراء لمنع الإنسان من استعمال النار التي أصبح يتملّكها بفضل تضحية "بروميثيوس". هذه الأسطورة ستتكرّر عندنا في المغرب، منذ اغتيال الشهيد محسن فكري في 28 أكتوبر 2016، لكن كقصة واقعية، مماثلة حدّ التطابق للأسطورة اليونانية، سواء في بنيتها أو أشخاصها أو دلالاتها الرمزية، وبوقائع وأبطال وفاعلين حقيقيين وليسوا أسطوريين. فكبير الآلهة "زيوس" يمثّله في المغرب المخزن بسلطة المطلقة والمستبدة التي تجعل منه "زيوس" المغربي. أما الإنسان، الذي يعني في الأسطورة اليونانية النوعَ البشري، فهو الشعب المغربي في قصة "بروميثيوس" المغرب. أما حالة سيادة الطبيعة، التي كان يخضع لها الإنسان قبل أن يُهدي إليه "بروميثيوس" شعلة من النار المقدّسة، فتقابلها في القصة المغربية حالة سيادة الظلم و"الحكرة" والطغيان والاستبداد، والفساد ونهب المال العام، والتي أضحت، نظرا لطول عهدها، كقَدر يستحيل مواجهته أو تغييره، لأن وراء كل ذلك يقف الإله "زيوس" المغربي ذو البطش الشديد، الذي (زيوس) يمثّله النظام المخزني. أما شعلة النار المقدسة، التي يمنع "زيوس" المغربي، كما كان يفعل "زيوس" اليوناني، وصولها إلى الشعب، فهي شعلة الحرية والعدالة والكرامة. أما "بروميثيوس" وهذا بيت القصيد فيمثّله في القصة المغربية البطل ناصر الزفزافي، الذي تجرأ على سرقة شعلة الحرية والعدالة والكرامة، التي كان "زيوس" المغربي يمنع وصولها إلى الشعب ليمارسها وينعم بها. أما النسر المتوحّش الذي سلّطه "زيوس" على "بروميثيوس"، فيمثّله في القصة المغربية وزير الداخلية، الذي تمارس أجهزته القمعية الحصار والترهيب، وتقوم بالمداهمات والاختطافات والاعتقالات والضرب والتعذيب، وتجري المحاكمات الصورية وتحتجز المعتقلين في زنازين انفرادية...، انتقاما من الصنديد ناصر الزفزافي، "بروميثيوس" المغربي، الذي عامله وزير الداخلية كما عامل نسر الأسطورة اليونانية "بروميثيوس" اليوناني. لكن، وكما في الأسطورة اليونانية لم يُجْدِ أسر "بروميثيوس" في منع استمرار وانتشار استعمال النار المقدّسة من طرف الإنسان الذي تسلّم شعلتها من "بروميثيوس"، فكذلك لم يُجْدِ اعتقال البطل ناصر الزفزافي في منع استمرار وانتشار شعلة الحرية والكرامة والعدالة لدى الشعب المغربي كله، والتي صارت متقدة وملتهبة قد تُحرق بلضَاها كلَّ من يقترب منها لإطفائها. وهذا ما تكهّنه وأكّده "بروميثيوس" المغرب السيد ناصر الزفزافي عندما كان يقول: «إذا اعتُقلنا فقد انتصرنا، وإذا اختُطفنا فقد انتصرنا، وإذا سُجنا فقد انتصرنا، وإذا قُتلنا فقد انتصرنا». بالفعل لقد انتصر، لأن إذا كان هو قد اعتُقل وسُجن، فإن شعلة الحرية والعدالة والكرامة، التي استردّها من "زيوس" المغربي، لم تُعتقل ولم تُسجن ولم تُخمد، بل على العكس، ازدادت توهّجا واشتعالا، وازداد الشعب إقبالا على استعمالها، يستضيء بنورها ويستدفئ بحرارتها، ويواجه بها "زيوس" الذي حرمه منها لمدة طويلة. وقد لا نستغرب أن السيد ناصر الزفزافي قد توقّع وانتظر هذا الانتصار، إذا عرفنا أن لفظ "بروميثيوس" يعني في اللغة اليونانية (Le Prévoyant بالفرنسية) صاحب بُعد النظر، ذلك الذي يتخذ قراراته بناء على تكهّناته بما سيقع من أحداث في المستقبل. وكما أن "بروميثيوس" اليوناني «صار عدوا ل"زيوس" بسبب حبه للبشر»، كما قال عنه "إيشيل" Eschyle (القرن الخامس قبل الميلاد) في المسرحية التي تتناول مأساة "بروميثيوس"، والتي تحمل عنوان "بروميثيوس مقيّدا"، فكذلك السيد ناصر الزفزافي، أصبح عدوا للمخزن، "زيوس" المغربي، بسبب حبه للشعب الذي أهدى له شعلة الحرية والعدالة والكرامة. وكما أن حكم "زيوس" على "بروميثيوس"، بتكبيله على صخرة وتسليط طائر كاسر عليه ينهش لحمه، لم يكن مجرد عقاب وتأديب، بل كان انتقاما ينمّ عن بركان من الحقد لدى "زيوس" ضد غريمه "بروميثيوس" الذي مسّ كبير الآلهة في شموخه وعجرفته، فكذلك توجيه تهم سريالية للصنديد ناصر الزفزافي، لم يكن الهدف منها معاقبته بالمفهوم القانوني، بل تحرّكها رغبة "ريفوبية" (خوف مرضي من الريف) في الانتقام والتشفّي، لأن "زيوس" المغربي شعر أن الأبيّ ناصر الزفزافي مسّه في كبريائه وغروره، عندما نجح في تهريب شعلة الحرية والعدالة والكرامة من "محبِسها" المخزني ليجعلها في متناول عامّة الشعب، الذي أصبح يطالب بها ويدافع عنها ولا يريد العيش بدونها. ولهذا فهذا الانتقام لم يشمل فقط الزفزافي ورفاقه ومناصريه، بل امتد إلى كل الريف الذي ينتمي إليه الزفزافي كانتقام جماعي، يذكّرنا بطريقة الانتقام في المجتمعات البدائية. وكما أن مرحلة ما بعد اكتشاف الإنسان للنار، بفضل "بروميثيوس" حسب الأسطورة اليونانية، لا يمكن العودة بها إلى ما قبلها حيث كان الإنسان يجهل النار، وكل ما يرتبط بها من معرفة ومنافع واستعمالات، فكذلك لا يمكن اليوم العودة بالشعب المغربي، بعد أن أوقد له البطل ناصر الزفزافي شعلة الحرية والعدالة والكرامة، التي يوجد الآن في السجن بسببها، إلى ما قبل ظهور هذا البطل، حاملا لشعلة الحرية والعدالة والكرامة. فما بعد الزفزافي لن يكون أبدا مثل ما قبله، تماما كما أن ما قبل اكتشاف النار هو مختلف جذريا وثوريا عما قبله. ولهذا فكل ما تلجأ إليه سلطات "زيوس" المغربي من قمع ومنع للتظاهر السلمي، واعتقال وتلفيق للتهم، ومحاكمات للمشاركين في الحراك الشعبي، المطالبين بالحرية والعدالة والكرامة، هو مضيعة للوقت والجهد والمال، ذلك أن شعلة الحرية والعدالة والكرامة، لم تعد الآن مرتبطة بالريف ولا بالزفزافي ولا برفاقه، الذين هم اليوم جميعا في غياهب السجن، ولا بأي شخص آخر بعد أن أضحت مطلبا شعبيا وجماهيريا يعيد إنتاج نفسه بنفسه دون حاجة إلى الزفزافي ولا إلى غيره، مثلما أن النار، بعد "بروميثيوس"، صارت تعيد إنتاج نفسها بنفسها دون حاجة إلى "بروميثيوس" ولا إلى غيره. فشعلة الحرية والعدالة والكرامة، إذا كان الزفزافي هو الذي أخرجها من سجنها بقمة "أولمبيا"Olympe (الجبل الأعلى باليونان، والذي كانت قمته مقرا للآلهة حسب الميثولوجيا الإغريقية القديمة، ومنه سرق "بروميثيوس" شعلة النار ل"زيوس") "زيوس" المغربي، فإنها قد استقلّت عنه بعد أن أصبحت فكرة حرة تعني الخلاص من عبودية الاستبداد، والتحرر من الخوف، يتبنّاها ويدافع عنها الجميع، ومن العبث محاولة إيقافها أو منعها أو سجنها. فهذه الشعلة من الحرية والعدالة والكرامة، التي ضحّى الزفزافي بحريته من أجلها كما فعل قبله "بروميثيوس" لنعيش أحرارا مسؤولين، كرماء لا تُهضم حقوقنا ظلما وتسلّطا، أفرزت واقعا اجتماعيا وسياسيا جديدا. فكل ما على النظام المخزني فعلُه للتقليل من خسائره إن كان أذكى، هو الاعتراف بهذا الواقع الجديد والعمل على التكيّف معه، لا إنكاره ومحاربته، ظنا عن خطأ وسوء تقدير، أنه بالإمكان العودة إلى نفس الوضع الذي كان قبل ظهور الزفزافي. هذا الاعتراف بهذا الواقع الجديد والتكيّف معه، يتطلّبان من هذا النظام المخزني توفير تلك الحرية والعدالة والكرامة التي تصدح بها حناجر المتظاهرين في مختلف المدن المغربية. أما الاعتراض بأن توفير هذه الحرية والعدالة والكرامة للمواطنين من طرف النظام سيكون بمثابة حفره لقبره بيده، لأن وجوده واستمراره كحكم استبدادي وفسادي مشروطان، كما هو معروف، بحظر هذه الحرية والعدالة والكرامة، فهو اعتراض صحيح. ولكن أوراق اللعبة وأطرافها لم تعد اليوم كما كانت، بعد أن استعرت شعلة الحرية والعدالة والكرامة، التي ستُحرق المخزن إن حاول إخمادها أو لم يعرف كيف يتعايش معها. وما يسمح بهذا التعايش هو أن من حسن حظ النظام أنه لم يعد هناك اليوم، وبشكل علني قوي، كما كان ذلك في الستينيات والسبعينيات وحتى الثمانينيات من القرن الماضي، من يعارض النظام الملكي بصفته حكما ملكيا. لكن هناك الكثير ممن يعارضون هذا النظام الملكي بصفته حكما مخزنيا. والفرق كبير بين الاثنين. فإذا كانت الأنظمة الملكية، كما تشهد على ذلك العديد من البلدان، لا تتعارض مع توفير وحماية الحرية والعدالة والكرامة للمواطنين، فإن الحكم المخزني، كما هو ممارَس في المغرب، معروف بقمعه للحريات، وغمطه للعدالة، وعدائه للكرامة. فالتكيّف المطلوب للنظام مع الواقع الجديد، لما بعد ظاهرة الزفزافي، هو أن يكون حكما ملكيا مواطِنا، يكفل الحريات بدل قمعها، يضمن العدالة بدل غمطها، يدافع عن كرامة المواطنين بدل معاداتها، يحمي المال العام بدل التساهل مع ناهبيه، يحكم بالعدل بدل ترك "خدام الدولة" يظلمون الناس ويطغوْن عليهم باسم الملك. بهذا السلوك السياسي الجديد، سيكون النظام الملكي حكما يحميه ويدافع عنه ويحبه الشعب، بأحراره وحرائره، وبصدق وإخلاص وقناعة، وليس كما يفعل "البلطجية" و"الجانجويد" (وصف كان يطلقه سكان إقليم "دارفور"، عندما كان تابعا للسودان، على تلك المجموعة من السودانيين الذين سخّرتهم السلطة الحاكمة للاعتداء على إخوانهم في "دارفور"، بدعوى أنهم انفصاليون ولهم علاقات مع جهات أجنبية معادية للسودان)، الذين لا يتظاهرون بحبهم للملك إلا عندما تطلب منهم السلطات ذلك "الحب"، وتجنّدهم للاعتداء على المتظاهرين السلميين حتى يثبتوا أنهم ملكيون يحبون الملك ويدافعون عنه. وارتباطا بما يجري من انتهاكات للقانون ولحقوق الإنسان بالريف، وببروز ظاهرة "الجانجويد" للاعتداء على المتظاهرين السلميين المطالبين بالحرية والعدالة والكرامة في العديد من المدن المغربية، لم يعد من باب نظرية المؤامرة تفسير كل ذلك بمحاولة أصحاب الحل والعقد، المسؤولين عن القرارات الأمنية العدوانية الخرقاء بالريف والحسيمة خاصة، توريط الملكية في سياسة أمنية انتقامية وقمعية معادية لمطالب وطموحات الشعب، تنفيذا لمخططات معادية للملك، الذي يتظاهر هؤلاء بالدفاع عنه، والذي (دفاع) هو في الحقيقة دفع له في اتجاه نفق مظلم وبلا منفذ. ولهذا فإن حراك الريف بقيادة البطل الزفزافي هو فرصة للملكية لتجدد نفسها وتعيد النظر في أساليب حكمها وتنظّف، على الخصوص، محيطها من كل الانتهازيين والوصوليين الذين هم أصل الفساد والاستبداد، لكنهم يتخفّون وراء اسم الملك وتحت مظلته. وإذا كان هؤلاء ينظرون إلى الزفزافي كعدوّ لدود لهم، فذلك لأنه يهدد بجدية مصالحهم التي يغذّيها وينمّيها الفساد والريع ومختلف الامتيازات الاقتصادية والسياسية. لكن ماذا سيقول عنهم التاريخ؟ وماذا سيقول عن الزفزافي؟ سيتحدّث عن الزفزافي ك"بروميثيوس" المغرب، كما شرحنا ذلك في هذا الموضوع، الذي تحدّى القمع والاستبداد، وضحّى بحريته وشبابه من أجل الحرية والعدالة والكرامة للشعب، حتى أن عبارة "عاش الشعب" أصبحت، بفضل الزفزافي، شعارا جديدا يُردّد في كل التظاهرات بكل مناطق المغرب. إنه بحق ابن الشعب وخادمه، ولذلك فهو العدو رقم واحد لكل من هو عدو لهذا الشعب. في المقابل ما ذا سيذكر التاريخ عن وزراء مثل السيد أوجّار، وزير العدل، والسيد الرميد، وزير حقوق الإنسان، من غير تآمرهما ضد الشعب مع وزير الداخلية، الذي يمثّل ذلك النسر المتوحش، كما في أسطورة "بروميثيوس"، الذي انقضّ بمخالبه القمعية على الريفيين، يحاصرهم ويُرعبهم ويختطفهم ويعتقلهم ويحاكمهم ويسجنهم، فقط لأنهم يقولون: "كلنا الزفزافي"؟