أشرنا في المقال السابق إلى أن عدم تنفيذ توصيات "هيئة الإنصاف والمصالحة"، وعدم التفعيل الرسمي لها وتنفيذ المشاريع الاجتماعية والاقتصادية والثقافية الموعودة من قبل الدولة أو الحكومات المتعاقبة أو السلطات النافذة لساكنة المنطقة، مع الغياب الكامل لمساءلة المسؤولين ومحاسبتهم عن عدم الوفاء بما تعهدوا به احتراما لدستور المملكة؛ هل يدل ذلك على أن جهة ما هي التي تتحكم في كل ما يجري على أرض الواقع في المغرب؟ أم أن الدولة نفسها بكل مكوناتها لا تزال أسيرة لثقافة سياسية بالية تقول "المخزن لا يسأل عما يفعل، والشعب هو من يحاسَب ويعاقَب عندما يتجرأ على سؤال المخزن عما يفعل"، تطبيقا لما يردده المغاربة القدامى: "ثلاثة لا يعاندون: النار والبحر والمخزن"؟ فهل كان ذلك وراء المواجهات العنيفة التي قابلت بها السلطة احتجاجات الريف، باعتبارها سلوكا يتجاوز الحدود التي رسمها المخزن لرعاياه في مملكته السعيدة؟ وأن الرعايا كان عليهم ألاّ ينسوا قاعدة "ومن يتعدى حدود المخزن فقد أحرقته ناره وأكله بحره"؟ يمكن لنا في سياق هذه المقالات التي حاولنا من خلالها تلخيص بعض من مظاهر العلاقة بين المخزن وجهة الشمال، وبخاصة منطقة الريف، انطلاقا من الفترة الاستعمارية، ووصولا إلى زمن الدساتير المغربية، التي كان آخرها دستور 2011، دون أن نغيب في تحليلنا الثقافة السياسية المخزنية التي تعبر عن حضورها القوي في المشهد السياسي المغربي، أن نطرح السؤال بشكل صريح أو مضمر بين سطور هذه المقالات: من دفع الشارع العام في المنطقة وفي المغرب بصفة عامة إلى التحرك؟ ومن يحكم في المغرب ومن يتحكم فيه؟ أو من قرر مواجهة احتجاجات الريف في 2017 بالعنف والقمع الذي شاهده المغاربة والعالم، وتعذيب المعتقلين بشهادة كل الهيئات المختصة، بما في ذلك الهيئة الدستورية "المجلس الوطني لحقوق الإنسان"؟ هل هي الحكومة، المنبثقة عن الدستور و"صناديق الاقتراع"، أم التحكم المخزني؟ مما لا شك فيه أن الجميع ينتظر الجواب. لكن، إذا لم يتلق المغاربة جوابا مقنعا اليوم، فإن المؤرخين سيقومون بتقديمه ذات توم حتما؛ لأنه لا أحد بمقدوره تأميم التاريخ. وإذا تجاوزنا قناعات السلطة في المغرب، والثقافة السياسية المخزنية، التي تنطلق من مسلمة أن احتجاجات المغاربة سرعان ما تخبو وتنطفئ، إما بسبب انطفاء جذوة الانفعالات والهيجانات الظرفية التي أحدثتها، أو إضعافها بفعل الزمن، أو إبطال مفعولها بتحريك وسطاء معتمد عليهم في إنجاز المهام المخزنية كأحزاب، ونقابات، وأعيان، وغيرهم، أو بالعصا الأمنية الغليظة والاعتقال المذل والمهين، وأحكام القضاء القاسية عبرة للآخرين، فإننا نتساءل عن الدوافع الذاتية والعوامل الموضوعية التي قد تكون وراء هذا الحراك الذي يقارب 9 شهور من انطلاقه، وقد يطول في حال استمرار غياب الحكمة السياسية في ممارسة السلطة، أو ما يمكن تسميته ب"الذهول عن مقاصد السياسة المدنية"، وتشبث الدولة بالمفهوم البالي ل"هيبة الدولة"؟ من المعلوم أن المغاربة كانوا قد استبشروا بظهور منهج جديد في التجاوب مع مطالبهم، ولو جزئيا، فهم يدركون أن النهر العظيم لا يكون عظيما برافد واحد أو روافد ضعيفة. وقد بدأت ملامح المنهج الجديد مع تأسيس هيئة الإنصاف والمصالحة وما قيل يومذاك عن جبر الضرر الجماعي، والخطاب الملكي في 6 يناير 2006، الذي ثمّن فيه إنجازات هيئة الإنصاف والمصالحة، وخطاب 9 مارس 2009 المعلن لتعديلات دستورية وإصلاحات سياسية. ثم كانت الخطب التي تتساءل عن الفقر في المغرب ومصير ثروته، وعن فساد الإدارة، وهو مرض فتاك إن لم تتم معالجته بجدية. وكان المغاربة يرددون عبارة "الاستثناء المغربي"، إشارة إلى هذه المنهجية المغربية الجديدة في التعامل مع المستجدات السياسية والاجتماعية في المجتمع السياسي المغربي. ومن هنا نظر الكثير، من ذوي النية الحسنة في وطنهم ودولتهم، إلى حراك الريف، بغض النظر عن بعض أخطائه الصغيرة، بوصفه تجاوبا مع المنهجية الملكية التقدمية في تغيير ما أصبح من السياسات المخزنية باليا، وعائقا في الوقت نفسه أمام تجسيد المنهجية الجديدة على أرض الواقع، وانخراطا فعليا في الزمن السياسي المعاصر والحداثي. لكن، تبين أن المنطق المخزني التقليداني لا يزال يتحكم بقوة في النظام السياسي المغربي. وظهر ذلك جليا في التعامل مع احتجاجات ساكنة الريف الحالية، ومع الوقفات التضامنية في جل المناطق المغربية الأخرى، التي كانت بمثابة إثارة انتباه إلى عدم تنفيذ توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة، واختبار جدي لتقييم مسيرة الانتقال الديمقراطي، أو بتعبير آخر: ما هي المسافة الفعلية التي قطعها النظام المغربي مع سياسات الجمر والرصاص؟ وأخلاق درب مولاي الشريف وقلعة مكونة وتزمامّارت؟ واتهام المواطنين بتهم ثقيلة، بناء على ما يستخلصه من محاكم تفتيش النوايا؟ واعتبار رفع شعارات "الحرية و"العدالة" و"الكرامة" بأنها شعارات مضللة؟ وسقوط ضحايا من المحتجين تمثيل مسرحي؟ واعتبار تعرية المعتقلين على طريقة سجن "أبو غريب" العراقي أو سجون فرنسا الاستعمارية مسألة تخص حماية أمن الدولة، ولا تخص المادة 22 من دستور المملكة!!؟؟؟ فهل تريد الجهة المتحكمة في سياسة الدولة المغربية أن "تقنع" رعاياها بأن شعار "العدالة" الذي يستعمله المتظاهرون يهدد مصالح "خدام الدولة"؟ وأن مطلب "الكرامة" يناهض الاستقرار الأمني للوطن؟ وهما شعاران يعملان على إفشال الاستثناء المغربي؟ كما أن سلمية الاحتجاج ليست إلا خدعة وتقية؟ أو لم يحذر أحد الناطقين باسم خدام الدولة بأن لجوء أحد قادة الحراك إلى الاستشهاد بعدالة عمر بن الخطاب في الحكم ليس إلا خدعة وتقية شيعية؟ وفي الحوصلة، ألم يكشف حراك الريف معاداة أصحاب التحكم المخزني للتوجهات التقدمية والإصلاحية لعاهل البلاد، المشار إليها أعلاه، من خلال محاولة العودة إلى الأساليب المخزنية البالية في ممارسة السلطة بعيدا عن دستور 2011؟ الاستثناء المغربي وحراك الريف أشرنا في ما تقدم إلى أن حراك الريف يكون قد فضح ما كان يطلق عليه لفظ "الاستثناء المغربي"؛ ذلك الاستثناء الذي يعني في مفهوم المخزن التقليداني أن المغاربة مطيعون لحكوماتهم في ضرائهم كما في سرائهم. ونلمس هذا في تصريحات مسؤولين حكوميين وقادة أحزاب مغربية، كادعائهم أن الفقر والتهميش المجالي، والبطالة والبحث عن الأكل في صناديق الزبالة، وعدم معالجة الأمراض الخطيرة، ليس مدعاة للاحتجاج. كما نلمسه كذلك في ما يتم ترديده من قبل وسائل إعلام حكومية، أو في وسائل علام تعيش على ريع السلطة بطريقة ما، في دعوتها إلى التعامل مع المحتجين بيد من حديد. كما نسمعه ونراه كذلك عند أولئك الذين يرون أن عدم وفاء الحكومات بعهودها لا يتنافى مع "الاستثناء المغربي"، بل إنهم يعتبرون ذلك أمرا معتادا عليه عند المغاربة منذ زمن طويل، ولا يلحق أي ضرر بحياتهم. ومن ثمة جاء حكمهم على حراك الريف، المطالب بحقوق اجتماعية واقتصادية وثقافية مشروعة، بما في ذلك المشاريع التي دشنها أو أشرف عليها الملك نفسه، بأنه لا ينتمي إلى "أخلاق" المغاربة نحو المخزن أو الحكومة. ولذلك لجأوا إلى ترويج ما يفيد بأن حراك الريفيين يخفي أمرا خطيرا على الوطن وعلى استقراره ووحدة ترابه. وهو الأمر الذي عكسته تصريحات أحزاب الأغلبية ورئيس الحكومة، بصفة خاصة، في خرجتهم التلفزيونية العلنية يوم 14 مايو 2017، وسكوت الأحزاب غير الحكومية في حينه على ذلك الخروج التلفزيوني المهين لمشاعر المغاربة ولمواقف الريف الوطنية، وكأن هنالك تواطؤا حزبيا شاملا للأحزاب هدف إلى منح الشرعية للسلطات الأمنية لاعتقال النشطاء والمتظاهرين ومعاقبتهم لأنهم تمردوا على "الاستثناء المغربي". عجزت الجهات المستفيدة من "الاستثناء المغربي" من النظر إلى ما يحدث في الريف وفي مناطق مغربية أخرى، وإلى حركات التضامن والمساندة من أجل تحقيق العدالة المجالية، بما في ذلك العيش الكريم، وتحقيق المواطنة المنصوص عليها في الدستور، والكرامة لكل المغاربة لا فرق بين مواطني "أو رعايا" الدولة وبين خدام الدولة وحاشيتهم، إلا بما قدمت يداهم لبناء الوطن بالأعمال وليس بالأقوال والوعود الفاقدة للمصداقية، وبقناعات "الملكية المواطنة"، التي يقول بها الملك محمد السادس في أكثر من مناسبة. من هنا، وانحيازا إلى جانب النجاعة السياسية، وإلى مصلحة الوطن العليا، وإلى التجاوب الايجابي والعملي مع التطورات السوسيو – الثقافية لمغرب ما بعد هيئة الإنصاف والمصالحة، وتذكيرا بفحوى خطاب 6 يناير 2006 والخطب الملكية الأخرى التي تساءل فيها عاهل البلاد عن سبب الفقر واسع الانتشار في المغرب المعروف بثروته الكبيرة، وعن ضرورة محاربة الفساد الإداري الذي استشرى في الإدارة المغربية، ودعوته إلى التأويل الديمقراطي لنصوص دستور 2011، رأينا أنه من الواجب أن نتخلص من سيطرة الثقافة المخزنية التقليدانية، لكي ننظر بشيء من النزاهة والتأويل الديمقراطي للدستور إلى حراك الريف وإلى كل الحراكات الأخرى في الوطن بأنها هي "الاستثناء المغربي الجدير بالإشادة"، وليس إلى ما يصر على إبقاء مياه السياسة في المغرب راكدة آسنة. وقديما عبر الإمام الشافعي على أوضاع مماثلة بقوله: "إني رأيتُ وقوفَ الماء يفسدهُ إن ساح طاب، وإن لم يجر لم يطب". زوايا الرؤية الممكنة إلى حراك الريف قد لا نجانب الصواب إذا رصدنا زوايا أخرى يمكن أن ننظر من خلالها إلى حراك الريف، بعيدا عن منطق "ليس في الإمكان أبدع مما كان"، أو منطق أن "المخزن كالنار من الأفضل أن تستدفئ به بدل أن يحرقك". إننا نحاول أن نتجاوز مفهوم المخزن التقليداني الذي يسعى البعض إلى الاستمساك به، ولو ضدا على إرادة الجالس على العرش، بعيدا عن معتقدات البعض بأن تجاوب الدولة مع المحتجين إيجابا ينقص من هيبة الدولة. وهيبة الدولة في عدلها وفي تحقيق الكرامة والعيش الكريم لشعبها، وليس في إعاقة تطوره. ولذلك، نعتقد بأن زوايا أخرى متعددة كان يمكن لأهل الحل والعقد في الدولة، وفي المجتمع السياسي بصفة عامة، أن ينظروا منها إلى الحراك، وأهمها: أولا، أن الحراك تعبير عن الدلالة الحيوية المتجددة للشعب المغربي في مسيرته نحو دولة حقوق الإنسان وانتصار الحداثة السياسية والديمقراطية؛ فالشعوب التي لا تتحرك شعوب حكم عليه زمنها بالجمود، وحكم عليه التاريخ بالفناء. لهذا يطلب الحكماء استخلاص العبر من التاريخ. وقال القرآن الكريم في سورة غافر {أفلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ}، الآية 82. ثانيا، أن المغاربة، ومنهم الريفيون، مثلهم مثل ملكهم محمد السادس الذي قرر أن يجعل صورة شمال المملكة ليست بعيدة عن صورة الجيران في الضفة الجنوبية الغربية للمتوسط، التي عانت بدورها تخلفا واستبدادا، فتم الانتصار عليهما بفضل النظام الديمقراطي، وتحقيق المواطنة والعيش الكريم. وعليه فإننا نرى أن الحراك جاء ليذكر المغاربة والحكومة بأن المشروع الملكي في السير بالمغرب نحو الأفق الذي يسعى إليه الشعب المغربي يعاني من اختلالات في التنفيذ في أقاليم مغربية كثيرة، ومنها أقاليم الريف، وإقليم الحسيمة تحديدا؛ حيث لم يتحقق شيء كبير منه، لا في الجانب الحقوقي، ولا في الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وقد عبر بلاغ الديوان الملكي، عقب اجتماع مجلس الوزراء يوم 25 مايو 2017، عن انزعاج الملك بسبب ذلك. وهل كان ما عبر عنه حراك الريف جريمة في حق الوطن، وفي منظور حماة العدالة؟؟؟ ثالثا، يبقى أهم إنجاز لحراك الريف، في نظرنا، هو تعرية العجز الحاصل في واقع الجسم الحزبي في المغرب، كل المغرب. وقد نَحتَ نشطاء الحراك، للتعبير عن ذلك العجز، مصطلح "الدكاكين السياسية" لتحديد مكانة تلك الأحزاب الواقعية في الساحة السياسية المغربية الراهنة. ونعتقد جازمين بأن موقف نشطاء الحراك من الأحزاب المغربية ومن حكومتها كان متماهيا ومتساوقا من الناحية السياسية مع التحولات السياسية التي يشهدها حوض المتوسط في الأعوام الأخيرة كحزب "سيريزا" (SYRIZA) اليوناني، وحزب بوديموسPodemos) ) في إسبانيا، وحركة "خمس نجوم Movimento 5 Stelle, M5S)) أو (Cinq étoiles Mouvement) الإيطالية، أو حزب "الجمهورية إلى الأمام" (La République en marche) في فرنسا، الذي كسر التقاليد الحزبية في فرنسا التي دامت حوالي 60 سنة وربما أكثر، فأصبح يقود الدولة الفرنسية في أقل من سنة من زرع "رؤيته" بين الفرنسيين الذين يئسوا من تجديد الجسم الحزبي الفرنسي التقليدي مكانته القيادية. فهل استشعر قادة الأحزاب المغربية الخطورة نفسها في الزفزافي ورفاقه، فقرروا الوقوف إلى جانب خطط المخزن التقليداني؟ ومهما يكن من أمر، فإن المغرب لم ولن يكون استثناء من محيطه؛ فالفضاء المغربي لم يعد مغلقا كما كان قبل القرن العشرين عن التحولات الجارية في المحيط المتوسطي في كل أبعاده. والشمال هو الفضاء الأكثر تفاعلا مع ما يجري في الضفة الأخرى حتى في احترام قوانين وإشارات السير والمرور؛ ولذلك نتساءل: هل عجز العقل المخزني التقليداني عن أن يربط حراك الريف مع المتغيرات الجيو سياسية في الجناح الغربي للمتوسط؟ أم إنه لا يريد ذلك لتعارض تلك المتغيرات مع مصالح خدامه وأهدافهم من ممارسة السلطة والحكم؟ وربما كان الأمر نفسه ينطبق كذلك على قادة الأحزاب المستفيدين من ريع الدولة، وذلك ما قد يفسر هرولتهم إلى اجتماع 14 مايو 2017 قصد الاحتماء بمظلة ممثل المخزن التقليداني، وليعلنوا على الملأ، جهارا، صوتا وصورة، أن حراك الريف ذو نزعة انفصالية، كما فعل تماما الاستعمار مع حركة التحرير الريفية المغربية في عشرينيات القرن الماضي، حين اتهمها بالانفصال؛ لآنها برهنت للمغاربة ولكل الشعوب التواقة إلى الحرية أن قرار تحررها من نير الاستعمار في يدها هي، وليس في يد أي آخر كان. نخشى أن يكون تعطيل عجلة الإصلاح السياسي في بلادنا يشبه معاندة القوى الاستعمارية لحركات التحرر الوطني في تاريخ ذاته، وحينئذ، لا يسعنا إلا أن نردد مع ابن النحوي: اشتدّي أزمةُ تنفرجي ** قد آذَنَ لَيلُكِ بالبَلَجِ". أنقر هنا لقراءة الجزء الخامس: جبر الضرر وتنمية البشر