على مقربة من إكمال حراك الريف لعامه الأول (28 أكتوبر 2016 28 أكتوبر 2017)، هناك من قد يتساءل: ماذا حقّق الحراك للريف في عامه الأول؟ وهل سينتهي ويموت بفعل القمع والاعتقالات والمحاكمات، كما تراهن الدولة المخزنية على ذلك؟ في الحقيقة، الأجوبة على هذه الأسئلة لا تهمّ، مثل الأسئلة المطروحة نفسها، لأنها تنصبّ على ما هو آني وقصير في عمره (مدة عام)، وعلى ما هو جغرافي محدود ترابيا (الريف)، وعلى هو ظاهر وحاصل (القمع). ولهذا فحتى على فرض أن الحراك لم يحقّق شيئا للريف في عامه الأول، وهو ما ليس صحيحا طبعا، فسيكون قد حقّق، وبعيدا عن الريف حيث نشأ، وبعيدا عن المدة المعتبرة (سنة تقريبا)، الشيءَ الكثير، الذي لم يكن يخطر حتى على بال نشطاء الحراك أنفسهم، الذين كانت مطالبهم مقصورة جغرافيا على الريف، لينتهي زمانها بمجرد الاستجابة لها. فالإنجاز العظيم والتاريخي الذي حققه حراك الريف، هو أن مطالبه تجاوزت جغرافية الريف، وزمان هذه المطالب تجاوز، كذلك، فترة 2016 2017 التي اندلع فيها الحراك، ليصبح زمانا مستداما يؤسس لعهد جديد يشكّل مرحلة تاريخية ممتدة في الزمان، تدشّن لعصر جديد مع ميلاد إنسان مغربي جديد. هذا الإنسان هو ما سمّاه المفكر الأمازيغي الأستاذ براهيم عيناني ب"الهومو زفزاف" Homo-zafzaf، وذلك في تحليل رائع وثاقب بعنوان «الهُمو- زفزاف: فيما وراء "المُقدَّس" المستباح و"الأمن الروحي" المُسيّس. ويشرّفني أن أقترض منه هذا المصطلح الغني لاستعماله في تحليل وفهم تداعيات ودلالات حراك الريف، المعبّرة عن بداية عصر جديد من تاريخ المغرب، يصنعه (التاريخ) إنسان مغربي جديد. كلمة "الهومو"، التي تعني الإنسان في أصلها اللاتيني، تُستعمل للدلالة على عصر معيّن من العصور التاريخية لتطوّر وتقدم الإنسانية، وذلك عند اقترانها بكلمة ثانية تشير في معناها إلى خاصية بارزة تميّز ذلك العصر. وهكذا، مثلا، تعني عبارة Hom - erectus (الإنسان المنصب القامةُ) العصرَ الذي أصبح فيه الإنسان يمشي واقفا على رجلين، مع تحرير يديه لتخصيصهما لأعمال أخرى غير المشي؛ وتعني عبارة Homo- faber (الإنسان الصانع) العصر الذي أصبح فيها الإنسان قادرا على صنع واستعمال الأدوات (الحجرية والخشبية)؛ وتعني عبارة Homo- sapiens (الإنسان العاقل، الذكي) العصر الذي أصبح فيه الإنسان يفكّر ويستعمل العقل، ومعه ستظهر اللغة. ولنلاحظ أن كلمة :"هومو" (الإنسان) تتكرر في كل العصور التاريخية المختلفة التي مر منها الإنسان، لأن ما يميّز هذه العصور بعضها عن البعض، ليس هو الإنسان بصفته إنسانا، وإنما السمة المميزة لكل عصر (قامة منصبة، صنع الأدوات، العقل...)، والتي هي أساس اختلاف هذه العصور بعضها عن البعض. والأهم في هذه العصور، التي مرّ منها تطوّر الإنسان، أن كل عصر جديد هو مرحلة جديدة لا يمكن معها العودة إلى التي سبقتها، وخصوصا أن الانتقال من مرحلة إلى أخرى يكون قد استغرق عشرات وحتى مئات آلاف السنين. وبالنسبة للمغرب، يمثّل "الهومو زفزاف"، نسبة إلى قائد حراك الريف الصنديد ناصر الزفزافي، فكّ الله أسره وأسر جميع المعتقلين السياسيين المظلومين، مرحلةَ التطور التاريخي والسياسي الجديدة، والتي لا يمكن معها، كما سبق توضيح ذلك، العودة إلى المرحلة التي سبقتها. ما هي هذه المرحلة السابقة عن "الهومو زفزاف"، والذي يُؤذن ظهوره بنهايتها؟ إنها مرحلة "الهومو مخزن" Homo – Makhzen، أي "الإنسان المخزني"، والتي تتميّز بهيمنة المخزن كعنصر أساسي ومعرّف لهذا المرحلة، كما تدل على ذلك تسميتها الاصطلاحية، مع ما يرتبط بهذه الهيمنة من انتصار وانتشار للاستبداد والفساد كركن لوجود الدولة المخزنية؛ وبغياب للحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، التي جعل منها (العناصر الثلاثة) المخزن "محجوزات" محظورة على الشعب. ولهذا كانت هذه القيم الإنسانية، بالإضافة إلى الدعوة إلى إسقاط الاستبداد والفساد، على رأس مطالب الحراك الشعبي بالريف والمناطق الأخرى من المغرب. ما يميّز عصر "الهومو مخزن"، هو أنه أنتج إنسانا خانعا، قانعا، مُكرها أن لا يكون إلا "عياشيا"، قابلا للتحوّل إلى إنسان عروبي تمشيا مع ما تدّعيه الدولة المخزنية من انتماء عروبي رغم اسمها "المخزن" ذي الأصل الأمازيغي، هلِعا من جبروت هذا المخزن وطغيانه، مستسلما لاستبداده وفساده، صابرا على ظلمه وشططه، راضيا بالعيش في دولة تستحوذ عليها وتستفيد منها مجموعة صغيرة مما يسميه المنتمون لهذه المجموعة ب"خدّام الدولة"، شعاره: "المذلة ولا الفطنة" التي قيل له إنها فتنة، خائفا من الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية التي قيل له إنها انفصال وزعزعة للاستقرار... أما عصر "الهومو زفزاف"، الذي دشّنه حراك الريف، والذي هو نقيض وتجاوز لعصر "الهومو مخزن"، فيهيئ لإنسان لا يخاف من الحرية، بل هو مستعدّ للتضحية من أجلها، ولا يخشى من الكرامة، بل يطالب بها، ولا يتهيّب من العدالة الاجتماعية، بل يناضل من أجلها، ولا يصبر على الظلم، بل يقاومه ويتصدّى له، ولا يرتعب من جبروت المخزن، بل يواجهه ويتحدّاه، ولا يستسلم لاستبداده وفساده، بل يفضحهما ويحاربهما، فخور بانتمائه لشمال إفريقيا الأمازيغي، شعاره: "الموت ولا المذلة"، يسعى لتحرير الدولة من مفسديها والمستحوذين عليها وناهبيها من خدام المصالح الشخصية، الذين يُسمون ب"خدّام الدولة"، مناضلا من أجل دولة الحرية والديموقراطية والكرامة والقانون والعدل... واضح أن "الهومو زفزاف" يشكّل تهديدا حقيقيا "للهومو مخزن"، ولعة وجوده التي هي المخزن نفسه. وهنا تكمن خطورة ناصر الزفزافي على السلطة المخزنية، التي أصبحت ترى فيه عدوها الأول، لأنه يبشّر بعهد جديد هو عهد "الهومو زفزاف"، الذي يُنذر بزوال عهد "الهومو مخزن". هذا ما يجعل من ناصر الزفزافي مشكلة تؤرّق السلطة المخزنية. فإذا قتلته فهو مشكلة؛ وإذا أبقته حيا فهو مشكلة؛ وإذا احتفظت عليه أسيرا في السجن فهو مشكلة؛ وإذا أفرجت عنه فهو مشكلة... لأن عهد "الهومو زفزاف"، مع ما يرمز إليه من مطالب الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، ومن مناهضته للاستبداد وتوأمه الفساد، أصبح مستقلا عن ناصر الزفزافي كشخص، لأنه، كما شرحت، يعبّر عن ظهور إنسان مغربي جديد، هو "الهومو زفزاف"، مُحدثا قطيعة مع "الهومو مخزن"، الذي كانت فيه الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية تبدو حلُما بعيد المنال، والمطالبة بها طيشا وخفة عقل. فناصر الزفزافي، بالنسبة للعصر الجديد الذي يحمل اسمه ("الهومو زفزاف")، هو بمثابة "بروميثيوس" المغرب، الذي بفضله سيشيع ويشعّ نورُ الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية. ولهذا فرغم القمع الشديد الذي واجهت به السلطة المخزنية حراك الريف، ورغم اعتقالها لقائده الزفزافي ورفاقه، ورغم استعمالها القضاءَ للقضاءِ على هذا الحراك المبارك، إلا أن كل ذلك لا يجدي نفعا لمنع مسيرة "الهومو زفزاف"، الزاحفة لاحتلال مكان "الهومو مخزن". ولهذا فحتى إذا نجح المخزن في وقف حراك الريف، إلا أنه لن يستطيع وقف حراك "الهومو زفزاف"، لأنه لم يعد يخصّ فقط منطقة الريف، أو فقط فترة 2016 2017، وإنما أصبح يخصّ كل المغرب، وكل مرحلته التاريخية الجديدة، التي تشمل الحاضر والمستقبل. ومن هنا فإن محاولة وقفه ومنعه، لا تختلف عن محاولة وقف ومنع ظهور "الإنسان العاقل" Homo- sapiens (لنتذكّر أنه ظهر بالبلاد الأمازيغية جبل إيغود مثل "الهومو زفزاقف"). وهو مجهود لا يفيد في وقف عجلة التاريخ أو العودة بها إلى الخلف. كما أن محاولة حصر "الهومو زفزاف" في الريف الذي نشأ به، حتى لا ينتشر إلى باقي مناطق المغرب، لا تختلف، كذلك، عن محاولة حصر "الإنسان العاقل" في المنطقة الأمازيغية التي ظهر بها للمرة الأولى، حتى لا ينتشر إلى باقي بلدان المعمور. وهو كذلك مسعى أخرق ومستحيل. فلو كان المخزن أذكى وأدهى، فإن الحلّ الأنسب له، ليس هو السعي لوقف ومنع تقدم عهد "الهومو زفزاف"، من خلال قمع حراك الريف، بل هو تبنّي نفس الحراك استعدادا للدخول إلى العهد الجديد "للهومو زفزاف". وهو ما سيسمح للمخزن بالبقاء بعد أن يتنازل عن خصائص "الهومو مخزن"، ويُحلّ مكانها خصائص "الهومو زفزفاف"، وعلى رأسها الاستجابة لمطالب الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية.