تاريخ خلافات دولة قطر مع جيرانها بدول الخليج مليء بالارتباكات العميقة والصراعات الإيديولوجية التي تجد من التحولات السياسية بالمنطقة العربية فضاء للتفاعل وفرض الذات بشتى المجالات والطرق المكشوفة والمخفية على الأنظار الدولية والعربية؛ إلا أن الأمر سرعان ما تحول إلى أزمات بين الأشقاء، حيث يعتبر النزاع القطري مع البحرين من بين أول الخلافات بالمنطقة، ففي بداية التسعينيات بعد عودة النزاع على جزر حوار الذي تم إحالة ملفها من لدن الدوحة على محكمة العدل الدولية التي تعد قراراتها ملزمة ونهائية قد فصلت فيه إلى عام 1939 عندما قررت بريطانيا، القوة الاستعمارية السابقة في المنطقة، منح أرخبيل البحرين جزر حوار، التي حولتها البحرين إلى موقع سياحي لكن قطر لم تعترف بالقرار البريطاني. وقد تطور الخلاف عام 1986 إلى نزاع مسلح لولا تدخل الملك السعودي فهد بن عبد العزيز لتهدئة الأوضاع. كما حاولت الإمارات العربية المتحدة التوسط لحل النزاع دون نجاح يذكر. وبالرغم من الخلاف القديم بين الجزيرتين، فإنهما تقيمان علاقات دبلوماسية، ولو أنها علاقات تتسم باضطراب واضح تحاول الدوحة حجبه بالإعلام وغيره من الوسائل الأخرى. أما في عام 1995 حدث انقلاب الدوحة، ورفض الأمير الجديد حمد وساطة السعودية، وأصرّ على الذهاب إلى محكمة العدل الدولية، وجاء ذلك لصالح البحرين التي كسبت حكماً بمعظم الأرض ولو قبلت قطر وساطة الملك فهد لكان الوضع ربما أفضل، على الأقل مناصفة دون تضرر. لكن الوساطة لم تستمر فقد التفت حكومة قطر على السعودية، وجددت خلافاتها على مواقع حدودية جديدة بعد أن سبق وحل خلاف أول بوساطة من الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك، حيث تنازلت السعودية لمطالب قطر. في عام 1992، عادت الدوحة من جديد بنزاع آخر وحسم بالتراضي في 2001، ثم نقضت قطر وعودها وشنت معارك إعلامية تحريضية لا تعد ولا تحصى، وتبنت معادين للرياض، ودعمت "القاعدة" وزعيمها بن لادن في ذاك الوقت، الذي كان خطابه الأول يدعو إلى تغيير النظام بالقوة في الدول العربية الإسلامية المنفتحة لا سيما السعودية، حسب ما كان يخطط له بالإقليم. كل هاته النزاعات القطرية التي أشعلت شرارات من الصراعات العربية بدول الخريج لم تخلُ من محاولة فرض المصالحات؛ لكن دون جدوى لتستمر الدوحة في تمويل ودعم الجماعات المعارضة التي تريد إسقاط حكومتي السعودية والبحرين. وبعد ثورات الربيع العربي في 2011، وسعت قطر دائرة الأزمات، واستهدفت الإمارات لتدعم معارضة ضدها، ثم ركزت على مصر بشكل غير مسبوق وصريح، متعهدة بإسقاط نظام عبد الفتاح السيسي. وقد يبدو الأمر مفهوماً لو أن حكومة قطر نفسها ترضى بالتغيير ديمقراطياً أو بالقوة، لكن المشكلة أنها أقل دول الخليج تسامحاً. في الأخير، لم تجد الدول العربية إلا أن تعلن قطع العلاقات مع قطر. ويبدو أن هناك جملة من الشروط لإعادة المياه إلى مجاريها، والأكيد لن يقبلوا بأسلوب المصالحة الذي لم يأت بنتيجة في كل من عامي 2013 و2014 عندما تعهدت قطر في الرياض على عشرين بنداً، ولم تنفذ ولم تلتزم بحرمة المصادقة عليها. هذا الإعلان عن القطيعة سيجعل بإمكان الدول الخليجية المقاطعة للدوحة أن تعيش في سلام دونما أي عناء اقتصادي أو تدخل سياسي؛ لكن يبدو أن قطر هي التي لا تستطيع أن تحتمل القطيعة فهي التي تريد تكرار أسلوبها القديم، بإدخال وسطاء وتقديم تعهدات، وربما تغيير طريقة عملها، ثم الاستمرار في محاولاتها إسقاط أو إثارة الفتن ضد أنظمة الدول العربية. وجدير بالذكر أن قطر، في اتفاق الرياض السابق، تعهدت بوقف ماكينة التحريض. وبالفعل، جعلت إعلامها مهادنة طوال السنوات الثلاث الماضية التي أعقبت الاتفاق؛ لكنها سراً قامت بتأسيس محطات تلفزيون وصحف إلكترونية بديلة تولت المهمة بالفعل أبعدت عدداً من المعارضين الخليجيين من الدوحة، لكنها وطنتهم في تركيا ولندن، واستمرت تدفع لهم الأموال وتدعمهم بشبكات سرية بنتها في داخل الدول. في تطور للأحداث ومدى تعامل الدوحة مع الأزمة الحالية، والأسلوب القديم نفسه، استنجدت بأمير الكويت الشيخ صباح للوساطة والصلح؛ لكن الدول الخليجية تعلمت الدرس، وتصر على الاستمرار في قطع العلاقات، والعيش في أمن وسلام دون تشويش قطر، وستسعى إلى وقف كل ما له علاقة بها، وهدم شبكاتها الداخلية؛ وهو ما سيجعل قطر أمام خيار التنازل الكامل لمطالب الدول الخليجية مع تقديم ضمانات لرجوع الثقة بين الجيران، أو العيش بدون تعاون خليجي يجعلها بعيدة عن محيطها العربي، وبالتالي تشكيل تحالفا بديلا يخرجها من عزلتها وهو ما أصبحنا نلمسه مؤخرا. *كاتب وباحث في العلوم السياسية