لم يقتصر الاستبداد السياسي عبر الأزمنة، في سعيه لإخضاع الحشود وتوجيه مصائرها، على الإمساك بعصا الحكم وميزان القضاء ومثقال الاقتصاد، بل استهدف ضبط الأذن والعين والحلم، أي ما يُصغي له النّاس وما يرونه وما يتناقلونه من مأثورات شفهية وتخييلية. الصّدى قبل الصّوت. الصّوت مع الصّورة: قرع الطبول ونفخ المزامير وضرب المدافع وصهيل الخيل. المذياع والتلفاز، ثم السينما فالشبكات. لا يكفي السلطة، من أجل تأمين امتيازاتها وتحصين مصالحها، أن تكتب الدساتير وتُشرّع القوانين وترسم الاستراتيجيات المالية والتجارية، بل عليها أن تعبث بالغشاء الطبلي وبالقزحيّة والنخاع الشّوكي، إذا اقتضى الأمر. أواسط العام 1895، عقب وفاة الحسن الأول وتولية ابنه الأصغر المولى عبد العزيز عرش الدولة العلوية، ثارت قبائل الرحامنة ودكالة وعبدة على ممثلي القصر السلطاني، بعدما رُفِعَتِ الجبايات وقُمع الأهالي. كان المغرب الأقصى قد عرف احتجاجات عديدة، خرجت فيها القبائل من "بلاد المخزن" (النظام) إلى "بلاد السيبة" (الفوضى)، لكنه لم يعرف في تاريخه هذا الشكل من تأجيج التمرد: الشّدو. لقد كان "المخزن"، ممثلا في السلاطين والقوّاد، معهودا بتصادمه مع الفقهاء والثوار وقطاع الطرق، بيد أنه لم يواجه صوتا يغني ليُربك. صوت امرأة. كان فن العيطة حينها مُكرّساً لزهو النفس والتغني بالطبيعة. إنه نداء البدو الخافت في السهل والجبل. لكن "خربوشة" أو "حادّة" أو "زروالة"، وهي الأسماء المختلفة للمغنية الشعبية التي واجهت عيسى بن عمر، أحد أكثر الحكام المحليين شراسة، ستجعل منه أداة تحريض على رجل فتك بأهلها قبل أن يفتك بها. نذكر من بين قصائد هجاء القائد عيسى تهديدها التالي له: "ابغيت السيبة / ما ابغيت احكام (أريد الفوضى / لا أبتغي النظام)، من دابه ثمانية أيام / على السي عيسى الثمري (من الآن وحتى ثمانية أيّام / على السيد عيسى الثمري)". هكذا أعطت خربوشة للعيطة مسارا جماليا مختلفا، سبعة عشر عاما قبل مجيء الحماية الفرنسية. فما الذي كان يسمعه سكان وحكام الإمبراطورية الشريفة مع مطلع القرن العشرين؟ هل كانت السلطتان "تتسلطنان" لذات التقسيمات والتنويعات والصنائع اللّحنية؟ بأي رهانات ونحو أي مآلات مالت ثقافتهم وسياساتهم الإصغائية؟ الصولة والصولجان إنّ أيّ اجتهاد لتناول علاقة الموسيقى بالسلطة، في المغرب أو غيره، هو محاولة للنظر في مسائل البصر والبصيرة: ظل الله، وجه السلطان، بؤبؤ الشعب وعيوب السّمع. إنّك لا تُسمع الموتى ولا تُسمع الصم الدعاء. وفي الدعاء توسل واحتجاج. لقد انقسمت موسيقى المغاربة وشدوهم، قديما وحديثا، إلى أشكال وأنواع مختلفة حسب أطوار الخضوع والتمرد: الغناء للسماء في طقوس "تاغنجا" الوثنية طلبا للمطر، نقر الأواني المنزلية لمواجهة الرومان، التمايل اختمارا للآلة الأندلسية بعد انتصار المسيحيين، "خربوشة" صائحة داخل سجن سي عيسى، ثم عزف الحرس الأسود (بقايا "جيش عبيد البخاري") لتحية السلطان، عند قدومه ورحيله. يكتب الزعيم السياسي عبد الخالق الطريس: "لقد بدأنا السير في كثير من الطرق فلماذا لا نبدأ السير في هذا الطريق (الموسيقى) أيضا؟ أن موسيقانا الحالية لا تماثل حقيقتنا بأي وجه من الوجوه، وإني أعدها وصمة في جبين المغرب المتحضر". ما اعتبره الطريس "موسيقانا" إنّما يقتصر على تلك "الموسيقى الرفيعة" التي جاءت مع المورسكيين من الأندلس وترعرعت في حواضر المغرب الكبرى، مثل تطوان وفاس، مكرساً بذلك لتراتبية ذوقية وأخلاقية سادت لقرون بين فن للعامة، متداول في الأرياف والأسواق، مثل فن العيطة والطقطوقات الجبلية ونغمات وشطحات الصوفية الشعبية (عيساوة وحمادشة، وجذبات كناوة)؛ وفن للنخبة رائج داخل القصر السلطاني وفي الأوساط الأرستقراطية للحواضر الإسلامية العتيقة. أما بالنسبة للأوربيين، فقد كانت الموسيقى العسكرية السلطانية هي الأقرب إليهم على عكس موسيقى المغاربة. يقول كازمير بلون، مدير "المجلة الموسيقية لشمال إفريقيا" في مقال منشور بتاريخ 1 حزيران 1911: "لقد حظيت بفرصة الاستماع لموسيقى سلطان المغرب خلال زيارة صاحب الجلالة الإمبراطور فيلهلم الثاني لطنجة (...) إنّ موسيقى السلطان استثناء، حدث عارض (...) أكرّر القول إن الهارموني لدى المغاربة (Les maures) لا توجد إلا في المرافقة الوزنية للآلات الإيقاعية". في هذه المرحلة، كانت تتشكل في المغرب معالم موسيقى شعبية منبوذة أخلاقيا، خرجت من رحم فن الملحون، ووجدت لنفسها موطأ قدم داخل مجتمع مهزوم سياسيا وموجه جماليا. هكذا، ولما كانت الثقافة السمعية للمجتمع المغربي تتطور وتغتني، كان القصر السلطاني كمؤسسة شرعية مسلوبة السيادة، حبيس معزوفات فرقة الموسيقى العسكرية للحرس الشريفي التي اعتنى بها الفرنسيون، وعلى رأسهم القبطان ليو مورغان مؤلف لحن السلام الشريفي الذي سيصبح لحن النشيد الوطني بعد الاستقلال. تزامنا مع نشوء موسيقى محلية، شعبية خصوصا، ستظهر أغاني مستوطنين يساريين وجنود فرنسيين تدعو لمغادرة المغرب وجلاء الحماية، من بينها "تحت السّماء المغربية" (1925)، "المغرب للمغاربة" (1925)... أما السلطان بن يوسف (محمد الخامس)، العاهل الهادئ والورع والعصري في آن، فقد كان متابعا للراديو، بالإضافة إلى عشقه للابتهال والسماع الديني وقراءة ورش عن نافع بصوت المقرئ عبد الرحمن بنموسى. في الثلاثينات، مع ازدهار الأغنية الشعبية وظهور أسماء مثل زهرة الفاسية والحسين السلاوي ومحمد فويتح... سيُقدم السلطان على تأسيس الجوق الملكي ليصير "ذراعا إعلاميا" للبلاط، خاصة بعد احتدام الصراع مع الحماية الفرنسية، وسينبثق منه الجيل الجديد لما أضحى يعرف بالأغنية العصرية، الملتزمة والترفيهية، بريادة الموسيقار أحمد البيضاوي صاحب الأغنية الشهيرة "يا صاحب الصولة والصولجان". بندير المايسترو وآكورديونه تتمتع صورة الحاكم لدى العرب والمسلمين بحظوة رمزية كبيرة، حتى أنها تبلغ منزلة "القداسة"، وفي ذلك استدعاء لجلالة الملامح الإلهية. وفقا لهذا المنطق، وهي قاعدة ترفيع الحاكم عن أي شائبة تجعله مطابقا للرعايا في الصفات والأفعال، ما دام ممثلا لسلطة فوقية، عارض السلطان محمد الخامس أي علاقة لابنه الحسن، ولي العهد حينئذ، بالموسيقى. تذكر شهادات متعددة وقوف الأب في وجه ابنه فعلا وقولا: منعه من متابعة دروس البيانو والصولفيج وكسّر أسطواناته الموسيقية وآكورديونه عندما كان طالب قانون في جامعة بوردو... حتى أنّ الحسن الثاني صرّح مرّة: "لم يكن جائزاً أن أجمع بين الحكم والموسيقى". كيف يمكن فهم قرار السلطان وهو يصادر رغبة وريث عرشه؟ أتفسد الموسيقى اتزان الحكم كما قد يُخرج الشِّعر الحقيقة عن قِوامها؟ إنّ رغبة الحسن الثاني في ولوج بريّة الحُكم، وفي يده صولجان وبندير، كانت جامحة بل متطرفة، ورافقته طيلة فترة حكمه. فهل تصحّ مقارنة تلك النزوة الفنية لدى الحسن الثاني بنظريتها عند القيصر الروماني نيرون؟ قبيل وفاة محمد الخامس، سينتقم الابن لنفسه بالرقص والعزف مع فرقة أحواش الأمازيغية، خلال زيارة رسمية لإقليم ورززات عام 1957م، بحضور والده. لم يكن الحسن بن محمد غربيا ولا شرقيا في أذواقه السمعية، فعلى الرغم من معرفته بالموسيقى الكلاسيكية الغربية وتقديره لرموز الطرب المشرقي، إلا أنه كان مغرقا في المحلية. والحقيقة إنّ محليته الجمالية لم تكن نابعة من عزمه السياسي على تشكيل هوية وطنية مستقلة فحسب، محترزا تارة من مركزية إيديولوجية شرقية وممتعضا من وصاية أوربية نوستالجية تارة أخرى، وإنّما كانت أيضاً تعبيرا عن هوس مضمر بضبط الإيقاع، في سياسات الفن والحكم معاً. كما لو كان يصرخ في الرعية: "أنا مايسترو الصدى والسكون". ومثلما فعل نيرون، مع فوارق تفصيلية، تاريخية وتقنية، حوّل الملك نفسه، سنوات قبل المواجهة مع الجيش ثم الشعب، إلى أبولون مغربي بامتياز: يُغيّر كلمات الأغاني، يفرض الألحان، يرفع من شأن المؤلفين والمطربين ويحطّ، يُمسك قصبة قائد الجوقة الموسيقية في سهرات خاصة، ويجعل الشعراء يكذبون بركاكة داخل المساجد. منتصف سبعينات القرن الماضي، بعدما أحكم الحسن الثاني قبضته على السياسات الإصغائية للبلد، مُخضعا كلّ مصدر محتمل لصوت أو ضجيج، في الأحزاب السياسية والأرتال العسكرية والإذاعة الوطنية والأجواق العصرية والزوايا الدينية، تناسلت مجموعات غنائية بديلة تنبش في التراث الشعبي مانحة لنفسها لعب دور تثقيفي، وتحريضي أحياناً، بعدما انهمك المطربون والمغنون في تمجيد الملك وتعظيم مناقبه. لقد كانت علاقة البلاط بهذه الفرق، وفي مقدمتها ناس الغيوان ولمشاهب وجيل جيلالة، علاقة متوترة نظرا لاستراتيجيتها الجمالية المبهمة (الصوفية) وتكتيكها الشعبوي المتمرد (الثوري)؛ إذ أن معظم أعضاءها انحدر من طبقات اجتماعية صعبة، وتميز أغلبهم إما برومنسية حالمة أو بوهمية زاهدة استعصى معها على البلاط ضبطها أو احتواؤها بسهولة. نتيجة لذلك، تكوّنت بروليتاريا غاضبة ومسيّسة، خارج اليسار واليمين، ستكون في مقدمة الاحتجاجات الشعبية والعمالية: انتفاضة 1981 بالدار البيضاء، انتفاضة الريف والشمال ومراكش عام 1984، وإضراب 1990 بفاس. يكتب ابن خلدون: "وقد يساوق ذلك التلحين في النغمات الغنائية بتقطيع أصوات أخرى من الجمادات". آنذاك، قطّع الحسن الثاني دفاتر العزف وأوتار الآلات وحناجر الشّادين، وانقلب من سطوة اللّحن إلى جبروت الرصاص ولعلعته. محمد السادس.. الانفتاح وأقفاله كيف يتسنى لنا التطرق للانفتاح باعتباره مسببا لانغلاق وتقهقر حضارة أو ثقافة أو مجتمع ما؟ قالوا قلوبنا غلف. والغلفة هي القلفة. القفل اللحمي الذي يحكم إغلاق النزوات. الجلد المنطوي على قضيب النبي، إبراهيمُ الأرغل والصّامت، الذي لا يسمع من صراخ السّماء وحيا ولا رعدا. في رسالة وجهها المولى سليمان (1822-1760) إلى أعيان عصره عنونها ب"آلات الموسيقى"، وكانت بمثابة فتوى للنهي عن "التقرب إلى الله بالغناء والشطح"، أعلن السلطان الزاهد حربا على من أسماهم أهل الأهواء: "طهروا من الدنس إيمانكم، واعلموا أن الله صرّح بذم اللهو...". أربعة قرون على تلك الفتوى، طلع الملك الثالث للإيالة العلوية الشريفة، ليرد على شيوخ ادعوا أن كل من يسمع الموسيقى تبلعه الأرض ويُحشر مع الشيطان. لم يكتف محمد السادس، أمير المؤمنين، بعرض رأيه الفقهي المخالف للآراء السلطانية التقليدية والمتشددة، السابقة على الوهابية، وإنّما كرّس لقوله (وهو القول الديني الأسمى في المملكة) وفرضه بسلطة الدين والسياسة والمال. نهج محمد السادس إذن سبيل "انفتاح" سياسي وجمالي، يتوافق مع الصورة التي روجت لها المؤسسة الملكية، غداة بيعة أهل الحل والعقد: عاهل شاب، يتبادل المودة مع الشعب، ويتصالح مع ماضي والده، ويعطي للحشود الخبز والألعاب (Panem et circenses). في تصريح ليومية فرنسية، سنة بعد وصوله لسدّة الحكم، يقول: "أحبّ كثيرا موسيقى الزمن الذي أعيش فيه. الرّاي والروك. أعترف بأنّ لي أذواقا موسيقية تجارية للغاية. لكني أسمح لنفسي أن تُحمل مع مختلف التيارات المعاصرة". على عكس أبيه، لم يختر محمد بن الحسن تسييج الفن داخل القصور، بل أقام له المهرجانات وأشاعها، لتكون بصمته وتجارته. وهو بذلك، في واقع الأمر، عبر دفاعه عن ليبرالية فنية عبثية، يحاول تدجين الأذواق وتوجيهها وفقا لميولات السوق وجشعه. هكذا تتحول الموسيقى من ثالث علم ناظر، حسب ابن خلدون، بعد الهندسة والآرتماطيقا، إلى أداة تخريب للمقاصد الإبداعية اللطيفة. ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم. يحدث كثيراً، حينما أفكر في الصوت بشكل عام، أن تخطر على بالي صورة الأعمى. الهالة المهيبة للعميان في التاريخ: هوميروس، بشار بن برد، المعري، بيتهوفين به صمم، بورخيس، البردوني، وبيت من قصيدة بودلير: "أخ الصمت الأبدي هذا، آه أيتها المدينة!" الأعمى، أكثرنا قدرة على التقاط الصوت وتهذيب ارتداداته. وفي المغرب، كما في الشام، يشيع استعمال عبارة "العمى" عند سماع أمر جلل. شو؟ العمى! لعلها الآن العبارة الأدق لوصف عيوب سمعنا وسماعنا، بعدما تهشمت آلات النفخ وذوات الأوتار وأدوات القرع، ولم يبق غير التأوه موسيقى وصبرا.