حينما تكون منطقة ما غنية بتراثها المادي واللامادي، أصيلة في عاداتها وتقاليدها، عريقة في أعرافها، فلا شك أن هذا التميز سينسحب على كافة الأصعدة، وأن يتمظهر بصفة خاصة على واجهات كثيرة من حياتها الاجتماعية ... تلك حال فجيج بامتياز. فهذه المدينة العريقة، والواحة الجميلة التي تتوسطها مجموعة من القصور، اشتهرت بعادات وطقوس غنية ومتنوعة ، خلال شهر رمضان الكريم، طقوس توارثها الأجيال كابرا عن كابر ... رسخت أصالتها وأبانت عن أبعادها الروحية والجمالية ... صمدت وقاومت لقرون مديدة ، قبل أن يطالها التغيير وتفقد ألقها شيئا فشيئا بفعل تطورات العصر. ومن هذه الطقوس تلك المرتبطة بالصوم الأول للفتاة الفجيجية التي كانت تحظى برعاية خاصة لم يكن يلقاها الذكور. فمنذ الليلة الأولى تتجمع الأمهات ليحنئن أكف وأقدام البنات اللواتي بلغن سن الصوم، ويحضرن زينتهن الباقية للغد، من كحل ولباس وغير ذلك. ففي قصر المعيز مثلا ، يقول الباحث في التراث محمد بوزيان بنعلي ، كانت الأمهات يجهزن بناتهن بأجمل الثياب وأزهاها، ويحلينهن بالذهب والفضة، حتى الفقيرات منهن يستعار لهن ما يدخل السرور على قلوبهن، فيظهرن في صور نساء صغيرات، إشعارا من الأم بأن بنتها بلغت سن التكليف. بعد ذلك تتلاحق الفتيات زرافات ووحدانا، ويتجمعن أمام مقبرة الولي الصالح سيدي محمد بن عمرو، ثم ينطلقن في مجموعة كبيرة متجانسة إلى قبر الولي الصالح سيدي هبة الله، ومنه إلى أماكن مختلفة، أقصاها منطقة (لمراكوب) شمال القصر، ويستمر خروجهن على هذه الشاكلة ثلاثة أيام. ولعل هذا التدبير، يوضح بنعلي، كان يهدف من وجهة نظر التفكير الجمعي إلى ترويضهن على تحمل المشقة، وإشغالهن عن التفكير في الجوع والعطش. لكنه تربويا يحمل حكما أسمى وقيما أعظم، فهو عصمة من الشيطان، ومراقبة متبادلة، وتنمية لروح الجماعة، ونشر للإخاء والألفة بين الناشئات. وفي المساء تحضر للفتيات مائدة متميزة، على أن يكون أول ما يدخل أفواههن هو تمرات معدودات وترا، ومدهونات بالسمن الذي يأتي من القبائل المجاورة... وابتداء من اليوم الثاني حتى آخر الشهر يتناوب على فطورهن الأهل والأحباب والجيران، علما بأن القصر كان بمثابة منزل واحد. ولا تعود الفتاة للأكل في بيتها إلا مع عيد الفطر. وتشتهر البلدة أيضا خلال هذا الشهر الفضيل، بعادة راسخة تتمثل في قيام "إيشمجان" بإيقاظ النائمين بعد منتصف الليل، لا سيما النساء ، من أجل إعداد وجبة السحور. ويجوب هؤلاء الأزقة والحواري، بحيث يقرع الأول طبلا كبيرا "دوندون"، ويتجاوب معه الثاني بآلة أخرى تسمى "تيقرقابين" . ويمتزج الإيقاعان في لحن عجيب، يستهوي الشباب والأولاد الصغار فيتبعونهم فرحين صاخبين، بينما تطل النساء من الأبواب بين متفرجة ومزغردة .. حتى إذا أخذ التعب من صاحب (دوندون) أراحه آخر، وهكذا. ويخصص لهذا الفريق المنسجم "فطرة" أي حصة واحدة من زكاة الفطر، حبوبا أو تمرا، وحاليا نقودا ، تقدم لهم صباح العيد، حينما يجوبون الأزقة والحواري، لآخر مرة، على أمل أن يعودوا في القابل. وبشأن المائدة الرمضانية لدى الفجيجيين ، جرى العرف خلال تاريخ رمضان الطويل أن تتكون المادة الأساسية لهذه المائدة من التمور والحب، "على غير الحالة التي تشاهد عليها اليوم من التفنن في رص ما لذ وطاب من مختلف الأطعمة والأشربة"، على حد قول السيد بنعلي. فأهل فجيج القديمة ، يسجل الباحث والمتخصص في تاريخ فجيج ، لم يكونوا يعرفون إلا التمور المختلفة الأشكال والأحجام، يتناولونها مع اللبن أو الماء. أما الحب - وأغلبه شعير- فكانت الأمهات يحو لنه ،بعد عمليات الطحن أو الجرش في أرحية تقليدية لا يكاد يخلو منها بيت، إلى خبز أو حريرة أو كسكس في غالب الأحيان ،وأجوده ما حضر من دقيق القمح، وفتل بسمن الغنم، وسقي بمرق مطبوخ بلحم وخضر، ولم يكن يقدر على ذلك إلا الطبقات الميسورة. أما أهل الكفاف فإن طعامهم عادة ما يتخذ من الزرع. ولفت الباحث إلى أن ما يعطي نكهة خاصة لرمضان في منطقة فجيج، ما يعرف ب"أحباس رمضان"، التي كانت تهدف إلى إطعام المصلين أثناء ليلة القدر، وتشجيعهم على القيام حتى الفجر، عسى أن يدركهم سلامها، وبركاتها وقدسيتها.. وتختم ب "أحباس البخاري" عصر عيد الفطر. وتابع أن أهل فجيج درجوا منذ قرون خلت، على قراءة البخاري وتفسيره في المساجد بين العصرين، ويكون ختمه بالحديث الأخير منه، ونصه.." كلمتان حبيبتان إلى الرحمان، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان .. سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم"، تنطلق الألسن لاهجة بهذا الذكر العظيم مائة مرة، تختم بالدعاء، وأكل أحباس البخاري... وهكذا يفترق الناس . وسجل الباحث أنه مع ظهور الطقوس التي فرضتها حضارة الأيفون والشبكة العنكبوتية والثورة الرقمية ، تنضاف إليها المتغيرات الحياتية المتسارعة، والإكراهات الاقتصادية الضاغطة، فقدت العادات الرمضانية الموروثة التي ارتبطت بالدين والمحبة والعناية بالإنسان، وقامت على الكفاف والعفاف والتكافل ، أهميتها وألقها. وأتى القرن الواحد والعشرون ،على حد قوله، على البقية الباقية من تلك العادات الجميلة، حتى صارت إلى انقراض أبدي، بعدما صمدت وقاومت إلى آخر القرن العشرين. ثم غدا رمضان "شهرا عاديا رتيبا، ولم نعد نرى حتى تلك الفتيات البريئات الصائمات ،لأول تجربة، يحظين بضيافة جار أو قريب، إلا لماما". *و.م.ع