محاولة لفهم متى بدأت جذور هذه الأزمة؟ حين تقع الضحية في شَرَكِ الصياد، بالرغم من أنها قد رأته، فإن ذلك لا يعني أن الصياد ذكي؛ بل إن الفريسة غبية. وما يصدق على عالم الحيوان يصدق على عالم الإنسان في كثير من الأحيان، وقد أحسن صاحب كتاب "كليلة ودمنة" في التعبير عن كثير من صور المجتمع البشري، عبر أبطال قصص الحيوانات التي أوردها في كتابه، كي يستخلص منها ذوو الألباب من البشر الدروس والعبر. منذ سنوات والمغاربة، دولة ومجتمعا، على علم بمخططات الأعداء الفوضوية والتقسيمية اتجاه المملكة الشريفة. وقد نشرت تلك المخططات على صفحات الجرائد الوطنية والدولية؛ وهو الأمر الذي يستدعي أن تكون قد اتخذت بموجبه كامل التدابير والإجراءات، مع درجة عالية من النباهة والذكاء والبقاء على أهبة الاستعداد من قبل جميع المسؤولين وعلى أعلى المستويات في هذا البلد لإفشال تلك المخططات كلما لاحت في الأفق إمكانية تنزيلها من قبل الأعداء على أرض الواقع. متى نصب "الصياد الشراك"؟ وكيف نجونا؟ في الواقع، فإن تلك المخططات التي تستهدف أمن ووحدة واستقرار دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. وهنا، أتحدث عن الدولة القُطْرية بما لها وما عليها، والمغرب من ضمنها بطبيعة الحال، ترجع إلى نظرية "الفوضى الخلاقة" التي تعني حسب موقع وكيبيديا (الفوضى الخلاقة Creative Chaos : هو مصطلح سياسي - عقدي يقصد به تَكَوُنِ حالة سياسية بعد مرحلة فوضى متعمدة الإحداث يقوم بها أشخاص معينون (منظمات أو دول) بدون الكشف عن هويتهم وذلك بهدف تعديل الأمور لصالحهم ). لقد جرى الإعلان عن نظرية "الفوضى الخلاقة" رسميا في مطلع عام 2005 على لسان كوندوليزا رايس، وزيرة الخارجية الأمريكية، في حديثها الصحافي مع جريدة واشنطن بوست الأمريكية، حيث عبرت عن نية الولاياتالمتحدة في نشر "الديمقراطية بالعالم العربي" والبدء بتشكيل ما يُعرف ب"الشرق الأوسط الجديد". و كل ذلك، بطبيعة الحال، عبر نشر "الفوضى الخلاقة" في الشرق الأوسط برعاية الولاياتالمتحدةالأمريكية؛ غير أنه في الحقيقة كان تطبيق تلك النظرية على أرض الواقع قد بدأ فعلا سنتين قبل ذلك مع الغزو الأمريكي للعراق سنة 2003. يمكن القول، إنه وبالنسبة إلى المغرب، تطبيق تلك النظرية قد بدأت محاولاته الأولى مبكرا مع أحداث سيدي إفني 2008، ومع أحداث أكديم إيزيك 2010، حيث كان من المتوقع أن تكون تلك الأحداث الشرارة الأولى لانطلاق ما اصطلح عليه ب"الربيع العربي". ومن ثمّ، يتم الانتقال إلى باقي دول المنطقة قبل أن تفشل تلك التجربة وتستعيض عنها الأطراف المعنية بتدبير "الفوضى الخلاقة" بواقعة "بوعزيزي" تونس ويشهد المغرب بعدها حراك 20 فبراير والبقية معروفة. خلاصة القول، ومن كل ما سبق، فإنه، وعلى مستوى المغرب، رأينا كيف نصبت الفخاخ لنا لنقع في الفوضى، وكان قدر الله أن نجونا منها، بفضل الله ثم بفضل اجتماع مجموعة من العوامل الأخرى. كان أبرزها التعامل الذكي والمسؤول للمؤسسة الملكية التي تحملت المسؤولية كاملة حينها، مستفيدة من أخذ العبرة من تراكم حوادث محاولات خلق الفوضى داخليا، إضافة إلى ما آلت إليه الأمور خارجيا، في كثير من بلدان المشرق العربي طيلة شتاء 2011، ليتم الإعلان عن رزمة من الإصلاحات السياسية والدستورية، مع الوعود بإحداث إصلاحات اقتصادية واجتماعية في القريب العاجل تروم تحسين ظروف عيش المغاربة عبر تبني إستراتيجية التنمية الشاملة، ودمقرطة وتخليق الحياة السياسية، وربط تولي مناصب المسؤولية بالمحاسبة؛ وهو ما أدى في النهاية إلى تبني خيار "الإصلاح في ظل الاستقرار" من قبل جميع مكونات الدولة والمجتمع في المغرب، لنصبح بذلك نموذجا للدولة المستقرة في محيط إقليمي عربي مضطرب تعيش إلى حد الآن كثيرا من مجتمعاته ويلات ومآسي مخرجات الفوضى الخلاقة الأمريكية. كالتي نقضت غزلها من بعد قوة انكاثا !! لقد شبه القرآن الكريم حال الذي يعطي عهدا ثم ينقضه بحال المرأة تغزل غزلها وتَفْتُله محكما ثم تَحُله. فهل يكون حال الدولة المغربية في تعاملها مع "حراك الريف" بعد الجهود التي قامت بها لتخطي الكثير من شِراك "الفوضى الخلاقة" طيلة السنوات الماضية كحال تلك المرأة التي ضرب الله لنا بها المثل في سورة النحل؟ إذا كنا كدولة قد نجحنا، بفضل الله، في النجاة من الوقوع في شراك "الفوضى الخلاقة"، خاصة عقب احتجاجات حركة 20 فبراير. وقد كانت قوية إلى حد ما عبر تشديدها على ضرورة تبني الدولة إصلاحات سياسية ودستورية عميقة؛ وعلى رأسها مطلب الملكية البرلمانية، بسبب تبني أعلى سلطة في البلد مقاربات متعددة ومندمجة الأبعاد للمعالجة والتعامل مع تلك الاحتجاجات، عبر عنها بكل قوة ووضوح خطاب الملك في 09 مارس من عام 2011. والتي قطعا لم يكن من بينها المقاربة الأمنية/ البوليسية، كالذي يتم تبنيها اليوم، في التعامل مع "حراك الريف"؛ وهو "الحراك" الذي إلى حد الآن لم تخرج مطالبه عن إطار تحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية لساكنة المنطقة التي لا تزال تعاني من التهميش والإقصاء، الذي طالها عبر سنوات خلت، يجمع الجميع على أنها مطالب مشروعة يتقاسمها معهم جميع المغاربة. فإذا لم نستفد من كل المكاسب التي حققها بلدنا من خلال ما تبناه من مقاربات وإصلاحات جنبتها ويلات الفوضى والفتنة التي وقعت فيها بلدنا عربية أخرى فإننا فعلا سيكون مثلنا كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا. يمكن القول، إن بداية ما يجري من أحداث بمنطقة الريف/ الحسيمة، منذ حادثة مقتل الشاب محسن فكري عبر فرمه بشاحنة نقل النفايات كانت مع ظهور أولى مؤشرات النكوص عن الاستمرار في الطريق الذي اختار المغرب السير فيه منذ إقرار دستور 2011؛ وذلك عبر تبني جملة من الاختيارات الخاطئة التي دخلت فيها الدولة منذ سنتين خلت. ويمكن إجمالها في نظري في ما يلي: - التخلي عن خيار دمقرطة الحياة السياسية التي عبر عنها بكل وضوح دستور 2011، وذلك من خلال: الانحياز إلى طرف سياسي معين، يدعي تمثيلته لأبناء منطقة الريف، ومساعدته للسيطرة على المجالس القروية والحضرية ومجالس عمالات وأقاليم المنطقة، عقب الانتخابات الجماعية التي شهدتها البلاد في شتنبر 2015، إضافة إلى تمكينه من الحصول على مقعدين برلمانيين عن مدينة الحسيمة، في اقتراع 07 أكتوبر، شهدت كل مكونات الأحزاب السياسية المحلية عن فظاعة التزوير التي عرفته مكاتب الاقتراع حينها على طول وعرض الدائرة الانتخابية لمدينة الحسيمة؛ غير أن تطورات الأحداث في منطقة الحسيمة منذ خريف 2016 أثبت زيف دعوى التمثيلية تلك كان ذلك الطرف السياسي منذ ظهور على الساحة السياسية قبل عشر سنوات حين باع قادته الوهم للدولة على أنهم يمثلون ساكنة منطقة الريف فتبين في الأخير على أنه أكبر غائب عن المساهمة في تهدئة الأوضاع المشتعلة نظرا لعدم توفره على أية مصداقية فعلية لدى السكان هناك تمكنه من أن يكون جزءا من الحل فيما يجري من أحداث قد تتطور إلى ما لا يحمد عقباه لا قدر الله!. - إخراج حكومة لا تعبر حقيقة عن نتائج اقتراع 07 أكتوبر 2016 بعد ستة أشهر، من "البلوكاج السياسي" أدخل البلاد في حسابات سياسوية ضيقة كلفت وستكلف الدولة المغربية كثيرا من مصداقيتها داخليا وخارجيا. وكان أبرز كلفة داخلية ندفعها إلى حد الآن هو عدم الانتباه لما يختمر من أحداث في منطقة الريف منذ مقتل الشاب محسن فكري في خضم انشغال الجميع في تتبع مسلسل "البلوكاج السياسي" سيء الذكر. كما أن ذلك يفسر لنا أيضا لماذا غياب الحل السياسي لقضية "حراك الريف" في مقابل تبني الخيار الأمني إلى حد الآن، بعيدا عن مؤسسة رئاسة الحكومة؟ كما أنه يبين بالملموس أن التعامل مع ملف "حراك الريف" يتم بعيدا عن حكومة الدكتور سعد الدين العثماني. - التخلي عن المبدأ الدستوري المتمثل في ربط المسؤولية بالمحاسبة، من خلال عدم محاسبة جميع المتدخلين المكلفين والمسؤولين عن توقف إنجاز الأوراش والمشاريع التنموية الكبرى التي خصصتها الدولة لمنطقة الريف التي تدخل في إطار برنامج التنمية المجالية لإقليم الحسيمة (2015-2019) "الحسيمة، منارة المتوسط "الذي أشرف الملك على إعطاء انطلاقة إنجازه في أكتوبر 2015. البطء في إنجاز وتنزيل ورش الجهوية الموسعة الذي أتى به دستور 2011 وعدم القدرة على توفير الوسائل المالية واللوجيستية الكفيلة بجعله حقيقة واقعية الذي سيكون له، إن نجحت الدولة في التغلب على إكراهات ومعوقات تنزيله، القدرة على تجنيب المغرب الكثير من المطبات السياسية والاجتماعية من خلال العمل على توزيع المشاريع التنموية على جميع جهات المملكة مع تمييز وأفضلية لصالح الجهات ذات الخصاص الكبير في هذا المجال. - ممانعة الجهاز الإداري وقدرته على مقاومات التعليمات الملكية والقوانين والتشريعات التي تم تبينها لإصلاح هياكله وعدم خضوعه للمسار الذي تبنته الدولة القائم على المفهوم الجديد للسلطة، واعتماد مبدأي الشفافية والحكامة الجيدة في كل قراراته، والقرب من المواطنين وخدمة مصالحهم بالشكل الذي يضعف من حدة الاحتقان الاجتماعي الناجم عن الشطط في استعمال السلطة من قبل مختلف المصالح الإدارية المعنية. خلاصة القول إنه ليس مسموحا في المغرب أن يعود القهقرى إلى ما قبل دستور 2011 في التعامل مع جميع القضايا والملفات السياسية والاقتصادية والاجتماعية لجميع جهات المملكة؛ وعلى رأسها ملف "حراك الريف"، الذي يرخي بظلاله على حياة وأمن واستقرار الدولة والمجتمع إذا أراد أن ينجو فعلا من فخاخ أعدائه الكثيرين الذين لا يزالون يلقون شباكهم علينا وحولنا ممنين أنفسهم بإمكانية أن تقع الدولة المغربية فيها بعد ما رأتها وعلمت بها.