بالإضافة إلى تحريكه للماء الآسن في عالم السياسة الداخلية، فإن أهم ميزة للحراك "الريفي" هي تعريته عن سلوك مغربي محض طالما أثار انتباهي: القسوة التي تميزنا في التعامل مع بعضنا البعض. يكفي أن تقرأ الصحف وترى تعليقات القراء لتستشف غنى قاموسنا في رمي بعضنا البعض بأشنع النعوت. كل له حقيقته التي لا يدخلها الباطل أبدا يلقيها في يم إنترنت الهائج علها تجمع ما يسر الله من "لايكات" ومشاهدات. لذلك أقول من الآن إن ما سأكتبه هنا هو مجرد ملاحظات تعبر عن رأي شخصي قابل للخطأ. فحتى لو كان وضعي يسمح لي بأن أقول وبهدوء: "بيناتكم أشيشاوة"، إلا أن "لي فينا ما كايهنينا". فتلك بلادنا وأولئك إخوتنا ولا يمكن لمثلي (من بعيد لبعيد) سوى أن يقلق للمسار الذي نحاه المغرب خلال السنوات الأخيرة، وما "الحراك" في هذا المسار سوى انعكاس لوضع متأزم لم يحسن "موالين الحال" معالجته في الوقت المناسب. الملاحظة الأولى: الظاهر أن كل المغاربة خونة. فمعارضو "الحراك" يرون في حاملي الأعلام الريفية خونة، ومساندوه يمتحون من النبع نفسه لمهاجمة "عبيد المخزن". خبير كبير له معلومات دقيقة (لا يهم من أين استقاها) تفيد بأن ناصر الزفزافي ومناصريه شيعة يأتمرون بأوامر جزائرية. خبيرنا (ومع احتراماتي الشخصية له) لم يكن ينقصه سوى أن يجد أيادي ماسونية صهيونية شيوعية لتكتمل شروط المؤامرة. ناصر الزفزافي ولله الحمد "ماشي من العاكزين". يكفي أن يختلف معه المرء في جملة بل في كلمة لكي يرميه بسوط لسانه ناعتا إياه بخيانة الشعب وأبناء الشعب وكل ماله علاقة بالشعب (من هو هذا الشعب وما هو المقصود بهذه الكلمة الهيولية؟ لا يهم). بل لم يتوان الزفزافي في إحدى تسجيلاته الفيسبوكية من وصف إحدى الزميلات ب"الجارية". قالها بازدراء كبير ينم عن ضيق صدره ونفاد صبره أمام أي رأي مخالف. الملاحظة الثانية: لدي انطباع أن الحديث عن "المخزن" يجب أن يكون أكثر دقة. فعوض الحديث عن "مخزن" واضح المعالم تتجلى صورته في "مول المظل"، كما يقول الأستاذ خالد الجامعي، ربما آن الوقت لتفكيك بنية هذا الكائن الغامض الذي قد يخفي صراعا داخليا بين حرس قديم محافظ يؤمن بأن المغاربة "كامونيين"، وبين حرس جديد يرى أنه لا مناص من التغيير. المؤسسة الملكية واعية بهذا الصراع وتنحاز مع الغالب. واضح جداً أن السنوات الأخيرة شهدت انتصارا كبيرا للحرس القديم تمت ترجمته بالتراجعات الكبيرة في كل المجالات. هذا الحرس له شعار واحد أوحد: "لي ما عجبه الحال ها البحر". فهم يصنفون المغاربة قسمين: "موالين الدار" وهم قلة قليلة اصطفاهم الله من بين خلقه، وأصحاب الإيجار الذين لا حق لهم في الدار لكي يطالبوا به. الملاحظة الثالثة: لا يمكن لأي ديمقراطية أن تجد لها موطئ قدم في مجتمع تنعدم فيه الشروط الدنيا للعدالة الاجتماعية. المغرب هو نقيض أي شيء له علاقة بتحسين ظروف عيش ضعفائه. بل إن أردنا أن نكون موضوعيين وجب أن نعترف بأننا دولة مبنية على الظلم. في وضع كهذا لا يمكن للطبقة الحاكمة سوى استعمال العنف المادي أو المعنوي لكي يستتب الأمر. لا يوجد خيار آخر. "الحراك" الحالي و"الحراكات" القادمة لن تتوقف إن لم يتم إصلاح الأساس الذي يمر عاجلا بتقويم التعليم المجاني وخلق ثورة حقيقية للنهوض به وضمان حق التطبيب والصحة. إنها المرحلة الأولى التي يجب الانطلاق فيها فورا وبصدق بعيدا عن الاستراتيجيات والتكتيكات والتدشينات "الخاوية" التي تهدف فقط إلى ربح الوقت ودر الرماد على الأعين. الملاحظة الرابعة: ما قام به التلفزيون المغربي بزج صور مقترنة بأحداث شغب كروي وتقديمه كفعل قام به أنصار "الحراك" هو فضيحة بكل المقاييس. ليس لكونه يتلاعب بالحقيقة، وهو جرم في حق مهنة بكاملها، بل للطريقة الفجة التي تمت بها العملية. العمل الاعلامي اليوم يمكنه أن "يتصدى" للأكاذيب التي يعج بها عالم الإنترنت فقط إذا حافظ على مصداقيته. ما قامت به القناة الأولى في هذا المجال هو آخر مسمار يدق في نعش الإعلام الرسمي الذي يجر مواطنيه للجوء إلى "تيلي كوماند" بحثا عن قناة أكثر مصداقية. تلفزيون الدولة، الذي يموله حتى مناصرو الحراك، يفترض فيه أن يكون أكثر موضوعية (ولو بالعاني) لكي تتم مشاهدته من طرف الجميع. أما إذا تم لفظه، فإنه لن يفيد حتى "موالين الحال" ما دام لن يجد أحدا أمامه لكي يمسح دماغه. الملاحظة الخامسة: آن للعاهل المغربي أن يتكلم. هذه الأزمة لن تمر بسلام إذا لم يتم إيجاد أجوبة حقيقية. إنه منعطف خطير يحتاج إلى حكمة وشجاعة. على الملك أن يستعيد دوره كوسيط بين مختلف شرائح المجتمع. لا يمكنه الاستمرار في تسيير الدولة عبر حكومة ظل وحكومة صورية وأحزاب كرتونية لا وجود لها في الساحة، كما اتضح وبشكل نهائي، خلال هاته الأحداث. لتكن البداية بعفو سريع على المعتقلين الذي سيفسر كخطوة في اتجاه التهدئة. من ينصح باستعمال القوة والصرامة في وجه المحتجين لإثبات هيبة الدولة يرتكب خطأ فادحا فيه مجازفة لا يمكن التكهن بعواقبها. لنجعل من هذا "الحراك" نقطة بداية لتحول حقيقي يتجاوز الاتهامات بالخيانة إلى رهان نحو المستقبل. لنتحمل مسؤولياتنا جميعا كل حسب اختصاصه ودوره. ليتوقف بعض "خدام الدولة" عن استنزاف البلاد وحلبها (ما شبعتوش أصاحبي؟)، ليكن النقاش المفتوح اليوم فرصة للتأمل الصادق في الطريقة المثلى لتجنيب البلاد كوارث لا تحتاج إلى مؤامرات خارجية لتأجيجها. فالاختلالات موجودة بالداخل. ليكف "موالين الحال" عن تهديد أي تذمر طبيعي في أي مجتمع حيوي وتصويره كفتنة شبيهة بتلك التي أصابت دول أخرى بالمنطقة. لنبني دولة تعتني بمواطنيها كي يخافوا على فقدان ما هو بين أيديهم، أما وأغلب المغاربة يعيشون وضعا مزريا، فإنه ليس لهم في الواقع ما يخسرونه. المعادلة أبسط مما نتصور ولا تحتاج إلى خبراء ولا إلى نوستراداموس للتكهن في أي اتجاه نسير. هذه المرة يحتاج المغرب إلى تنازلات حقيقية من طرف الذين "عندهم كلشي" لصالح الذين "ما عندهم والو"، تنازلات يجسدها دستور يتم تطبيقه "بلا تحراميات"، وليس إنشاء جميلا للاستهلاك الخارجي. *إعلامي مغربي مقيم في إيطاليا