إن القراءة الموضوعية للحركات الاحتجاجية التي تشهدها منطقة الحسيمة ومجموعة من مناطق المغرب تدل على أن هناك أسبابا موضوعية أدت إلى نتائج ملموسة، وهذه الأسباب لم يتم التعاطي معها بالجدية والمسؤولية اللازمتين، ويمكن إيراد الدلالات التالية التي تعبر عن مدى موضوعية ومشروعية المطالب المطروحة. فهذه الاحتجاجات تدل على أن المشكل يتجلى أساسا في فشل السياسات العمومية الاقتصادية والاجتماعية التي تم نهجها لعقود وعدم قدرتها على تلبية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للمواطنات والمواطنين؛ فنسب الفقر مازالت مرتفعة، ومستوى الخدمات الصحية لا يرقى إلى المعايير المطلوبة، وجودة التعليم والولوج إليه ضعيفة، ومعدل البطالة في ارتفاع مهول، ومعدل الدخل الفردي متدنٍّ... كما يمكن تفسير هذه الحركات الاحتجاجية بغياب العدالة المجالية التي تفترض توفر عدد معين من البنيات التحتية الأساسية المرتبطة بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية بمختلف مكونات التراب الوطني (المستشفيات، المدارس، الجامعات، الطرقات...). ويمكن أيضا تفسيرها بعدم قدرة التقسيم الترابي (نظام الجهات) المعتمد على حل المشاكل الاقتصادية والاجتماعية، وهذا ما يطرح إشكالية دور وحدود كل من الدولة والجهات والجماعات الترابية الأخرى في تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية. كما أن هذه الاحتجاجات هي تعبير صريح عن رفض غياب توزيع عادل للثروة، وهي تعبير عن رفض كل مظاهر وأشكال الفساد الإداري والمالي باعتبار أن الفساد هو أخطر عائق يحول دون التمتع بحقوق الإنسان عامة، وبالحقوق الاقتصادية والاجتماعية بشكل خاص. وتؤكد هذه الاحتجاجات أيضا تراجع الثقة في دور المؤسسات الوسيطة، وخاصة الأحزاب السياسية. فالأحزاب السياسية، وإن كانت لازمة للديمقراطية، إلا أنها مع ذلك في الحالة المغربية لم تعد تقم بالأدوار المنوطة بهذا. ويرجع السبب في ذلك إلى إضعاف الأحزاب الحقيقية والتضييق عليها، كما يرجع أيضا إلى تراجع ارتباطها بقضايا وهموم الشعب وضعف التواصل مع المواطنات والمواطنين وتركيز بعض الفاعلين الحزبيين على حماية مصالحهم الشخصية ومراكمة الامتيازات والمنافع، وهو ما يضعهم في وضعية تضارب مصالح يكون الخاسر الأكبر فيها هو الوطن ومصالح المواطنات والمواطنين. كما أن في هذه الاحتجاجات تعبير صريح على ضعف الثقة في المؤسسات المنتخبة، ولهذا نجد بعض قيادات الحراك تعلن رفض الحوار مع المنتخبين انطلاقا من تشكيكها في نزاهة العملية الانتخابية. كل هذه التفسيرات تدعو جميع الفاعلين إلى ضرورة رد الاعتبار للمؤسسات المنتخبة وللممارسة السياسية وللأحزاب السياسية، وهذا ما يتطلب ضرورة احترام وضمان الحقوق والحريات، ونهج الحكامة الجيدة، ووضع سياسات عمومية بديلة قادرة على التجاوب مع المتطلبات الاقتصادية والاجتماعية للمواطنات والمواطنين، ومحاربة كل مظاهر الفساد السياسي والإداري والمالي، واحترام إرادة الشعب المعبر عنها من خلال صناديق الاقتراع، وتفعيل ربط المسؤولية بالمحاسبة، وضمان عدم الإفلات من العقاب. وبالنظر إلى كل ذلك، فالاحتجاجات التي تشهدها مجموعة من مدن وقرى المغرب ليست غاية في حد ذاتها، بقدر ما إنها وسيلة للتعبير عن رفض نمط معين من السياسات العمومية، وهي احتجاجات مشروعة؛ لأن غاياتها محددة في المطالبة بالتمتع بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية (التعليم، الصحة، الشغل، الحماية الاجتماعية). ولذلك، فالتعامل مع هذه الاحتجاجات يجب أن يعتمد على نهج الحوار كخيار استراتيجي يشارك فيه كل من ممثلي الحكومة وممثلي الحراك، إلى جانب المنتخبين وممثلي المؤسسات الوطنية المستقلة، كالمجلس الوطني لحقوق الإنسان ولجانه الجهوية. وبنهج الحوار ينبغي التوقف عن التصعيد من مختلف الأطراف، والالتزام باحترام أحكام ومقتضيات الدستور والقوانين، والتحلي بما يكفي من الحكمة والتبصر تجنبا لكل ما من شأنه أن يمس بوحدة واستقرار المغرب. كما أن التعامل مع الاحتجاجات يجب ألاّ يمس بمبادئ حقوق الإنسان ولا بالسلامة الجسدية للمحتجين، وكذلك الأمر ينبغي لجميع الأطراف من سلطات ومحتجين عدم إتيان أي فعل مخالف للقانون. ويقتضي الوضع الحالي تضافر جهود جميع السلطات والمؤسسات والفاعلين بغية تهدئة الأوضاع، وبناء الثقة، وفتح قنوات الحوار، ووضع خطط عملية لتنفيذ الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية في المناطق التي عرفت حراكا وفي غيرها من المناطق الأخرى؛ وذلك بهدف ضمان كرامة المواطنات والمواطنين أينما تواجدوا عبر مختلف ربوع المملكة المغربية. ومن الضروري التنبيه إلى خطورة ما يلاحظ من اصطفافات بين مكونات الشعب المغربي؛ فالشعب المغربي موحد ومن غير المقبول خلق عوامل التفرقة بين من يؤيد للحراك ومن يعارضه؛ فالنقاش الحقيقي يجب أن ينصب حول المطالب ومدى موضوعيتها ومدى قابليتها للتحقق. كما ينبغي ألاّ يتم نكران المجهودات المبذولة من قبل الدولة على الرغم من أنها تبقى غير كافية، وهذا ما يتطلب ضرورة اتخاذ مجموعة من التدابير الاستعجالية لإنهاء وضعية الاحتقان، ويعتبر الحوار أهم مدخل لبلورة مجموع التدابير العملية التي يمكن أن تشكل حلا آنيا للإشكالات المطروحة حاليا، وأن تشكل أساسا لبلورة سياسات عمومية اقتصادية واجتماعية لمحاربة كل مظاهر الفساد والفقر والتهميش. كما أن استعراض القوة أو النزوح نحو استعمالها لا يمكن أن يشكل حلا بالمطلق، ولهذا فالحوار هو الحل، الذي لن يكون فيه غالب أو مغلوب. وبنهج الحوار والتشبث به مهما كانت الظروف والأحوال، سيكون الوطن هو الرابح في نهاية المطاف. وأرجو أن يكون الوطن فوق كل اعتبار وأن يتم استحضار مصلحة الوطن قبل كل شيء، وأن يتم تكثيف جميع الجهود لإيجاد حلول عادلة ومنصفة لمجموع المشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي تعاني منها منطقة الحسيمة كما تعاني منها مجموعة من أقاليم المملكة المغربية. *أستاذ جامعي – جامعة سيدي محمد بن عبد الله - فاس