هذه رابع مقالة ضمن سلسلة "أخلاق الإسلام وسلوكيات المسلم". وسأحاول، من خلال هذه المقالة إن شاء الله، أن أتطرق إلى العلاقة بين الأخلاق الإسلامية وبين الأخلاق أو القيم الإنسانية. فهل تختلف الأخلاق الإسلامية عن الأخلاق الإنسانية؟ هل ما يستحسنه الإنسان بطبعه وفطرته من أخلاق وقيم هو نفس ما يستحسنه الإسلام؟ وما يستقبحه الإنسان هو كذلك ما يستقبحه الإسلام؟ أم أن هناك فرقا بين الأمرين؟. الإسلام دين الفطرة التي فطر الله الناس عليها. ولأن الإسلام دين الفطرة، لا بد أن يراعي في أحكامه وأخلاقه وقيمه خصوصيات هذه الفطرة وأحوالها ومتطلباتها. كيف لا، والذي أنزل الوحي (مصدر الإسلام) هو الله نفسه الذي خلق الإنسان وزرع فيه هذه الفطرة؛ فالوحي من الله، والإنسان بفطرته إنما خلقه الله. فلا بد إذا أن تتلاءم وتتماشى مقتضيات الوحي مع فطرة الإنسان. فاصطدام الوحي مع فطرة الإنسان يعني أحد أمرين: إما أن مُنزل الوحي جاهل بحقيقة هذا الإنسان المخاطب بوحيه، لذلك أنزل وحيا لا يتلاءم مع فطرته. أو إما أنه عالم بحقيقة الإنسان، ومع ذلك أنزل وحيا يصطدم مع فطرته لأنه يريد أن يشق عليه. وكلا الأمرين باطل في الحقيقة؛ فالله الذي خلق الإنسان وزرع فيه هذه الفطرة، عالم بحاله وعالم بكل خباياه، بل هو أعلم بالإنسان حتى من نفسه. قال تعالى: (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِير) الملك:13-14. والله، كذلك، لا يريد أن يشقّ على عباده أو يكلّفهم أمورا فوق طاقتهم. يقول جل شأنه: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْر ) البقرة: 185، ويقول أيضا: (مَا يُرِيۡدُ اللّٰہُ لِيَجۡعَلَ عَلَيۡکُمۡ مِّنۡ حَرَجٍ ولٰکِنۡ يُّرِيۡدُ لِيُطَہِّرَکُمۡ ولِيُتِمَّ نِعۡمَتَہٗ عَلَيۡکُمۡ لَعَلَّکُمۡ تَشۡکُرُوۡنَ) المائدة:06. والنتيجة، إذا، أنه لا يمكن لتعاليم الإسلام أن تصطدم مع فطرة الإنسان. وإذا وقع أي اصطدام فإن هناك خللا، إما في فهم الإسلام أو في فطرة ذلك الإنسان. أما الإسلام الصافي النقي فلن يصطدم أبدا مع فطرة الإنسان السوية. يقول الله تعالى في ملاءمة تعاليم الإسلام للفطرة: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) الروم: 30. من جهة أخرى، فقد سبق أن مر بنا ضمن هذه السلسلة حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق". هذا الحديث يؤكد أيضا أن أخلاق الإسلام لا تتعارض ولا تصطدم مع الأخلاق الإنسانية؛ فالنبي لم يأت ليعلن انقلابا ولا ثورة على كل القيم والأخلاق التي كانت موجودة قبله أو في زمانه، وإنما جاء ليحسّن حسنها ويتمّمه ويقبّح قبيحها ويصحّحه. وكما أكد النبي صلى الله عليه وسلم هذا المسلك بقوله، أكده كذلك بفعله، عبر مشاركته ومساهمته صلى الله عليه وسلم قبل البعثة في الكثير من الأنشطة وانخراطه في المبادرات الإنسانية التي عرفها مجتمعه. ومن الأمثلة على ذلك مشاركته في حلف الفضول وهو في الخامسة عشرة من عمره. وسبب هذا الحلف أن رجلا من اليمن قدم مكة ببضاعة فاشتراها منه العاص بن وائل (أحد أعيان مكة) ومنعه حقه، فاشتكاه هذا المظلوم الذي ليس من أهل البلد إلى أشراف قريش، فلم يعينوه لمكانة الظالم فيهم، فوقف عند الكعبة واستغاث بأهل المروءة بمكة فقام الزبير بن عبد المطلب فقال: ما لهذا مترك، فاجتمع بعض الأخيار آنذاك ممن رفضوا هذا الظلم (ومن بينهم الشاب محمد بن عبد الله)، فتعاقدوا وتحالفوا بالله ليكونُنّ يدًا واحدة مع المظلوم على الظالم حتى يُرد إليه حقه، ثم مشوا إلى العاص بن وائل، فانتزعوا منه سلعة الزبيدي، فدفعوها إليه وأبرموا هذا الحلف الذي سمي بحلف الفضول. بعد بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم وبعد تلقيه الوحي من الله تعلى، قال معقبا على مشاركته في ها الحلف: "لقد شهدت حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو دعيت به في الإسلام لأجبت". إن حلف الفضول كان تجمعا وميثاقا إنسانيا تنادت فيه المشاعر الإنسانية لنصرة الإنسان المظلوم والدفاع عن الحق. وإن تعاليم الإسلام وقيمه التي تلقاها النبي صلى الله عليم وسلم بعد نزول الوحي، لم يكن بينها وبين القيم الإنسانية التي كانت وراء عقد حلف الفضول أي عداوة ولا اختلاف ولا تعارض. لذلك، افتخر النبي واعتز بمشاركته في هذا الحلف الإنساني وقال إنه مستعد للمشاركة في مثله حتى بعد البعثة. من تجليات كون الإسلام دين الفطرة، أنه يراعي خصوصية الإنسان وغرائزه وحاجياته التي فطره الله عليها؛ فالإسلام، مثلا، لم يأت لكبت غرائز الإنسان الفطرية وقتلها فيه وإنما جاء ليهذبها ويوجهها الوجهة الصحيحة. فلا رهبانية ولا تبتل (انقطاع عن الزواج) في الإسلام كما هو معلوم. يقول صلى الله عليه وسلم: "يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنْ اسْتَطَاعَ منكُم الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ .." (البخاري). ومما يؤكد أيضا أن الإسلام يراعي حاجيات الإنسان الفطرية ما سيأتي من قول النبي صلى الله عليه وسلم في نهاية هذه القصة: فعن حنظلة الأسيدي رضي الله عنه قال: (لقيني أبو بكر رضي الله عنه فقال كيف أنت يا حنظلة؟ قلت: نافق حنظلة، قال: سبحان الله ما تقول؟ قلت: نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالجنة والنار كأنا رأي عين فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وعافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيرا. قال أبو بكر رضي الله عنه: فوالله إنا لنلقى مثل هذا، فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت نافق حنظلة يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وما ذاك؟" قلت: يا رسول الله نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة كأنا رأي العين فإذا خرجنا من عندك وعافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيرا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده، لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم ولكن يا حنظلة "ساعة وساعة".. ثلاث مرات) رواه مسلم. من الجوانب التي يراعيها الإسلام كذلك في فطرة الإنسان، جانب الضعف البشري الذي لا ينفك عن أي إنسان، يقول الله تعالى: (رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ...) البقرة:286. وفي الحديث: "إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" (رواه ابن ماجَهْ والبيهقي وغيرهما). وسواء كان الضعف الذي يعانيه الإنسان ملازما لفطرته البشرية أم ضعفا طارئا نظرا لعاهة جسدية أو عقلية أو ظروف خاصة، فإن الإسلامي يراعي هذا الضعف ويقدر هذه الظرف الخاصة. يقول الله تعالى: (لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَىٰ وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيم) التوبة:91. ومن صور هذه المراعاة لضعف هذه الفئة من الناس أن الله خفف عن المرضى بعض التكاليف وربط الكثير من التكاليف بالاستطاعة. بالعودة إلى الجانب الخلقي والقيمي، أستطيع القول بأن كل الأخلاق والصفات الحميدة التي تستحسنها وتقرّها فطرة الإنسان، فهي أخلاق إسلامية. وكل الأخلاق والصفات التي تستقبحها وتشجبها فطرة الإنسان، فهي أخلاق مستقبحة في الإسلام أيضا، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "البر حُسن الخُلق، والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس" (رواه مسلم). وعن وابصة بن معبدٍ رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "جئتَ تسأل عن البر؟" قلت: نعم، فقال: "استفتِ قلبك، البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتَوْك". (رواه أحمد والدارمي). ففي هذين الحديثين، يوصي النبي صلى الله عليه وسلم الصحابي وينصحه أن يستفتي نفسه ويحكّم فطرته. فالفطرة هي الميزان، وما استحسنه الإنسان فهو حسن وما استقبحته فه قبيح. والنبي لم ينصح الصحابي بذلك، إلا لثقته صلى الله عليه وسلم بأن الفطرة السليمة لا بد أن تهتدي إلى الحق ولا يمكن أن تصطدم معه. عندما نتحدث عن الفطرة، فإننا نقصد الفطرة السليمة النقية ولا نقصد الفطرة التي أعمتها الأهواء والشهوات. فالإسلام دين الفطرة طبعا، لكنه ليس دين الأهواء والشهوات. يقول الله تعالى: (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِن) المؤمنون:71. نعم، إن فطرة الإنسان قد تفسد وتتشوه. وإذا فسدت الفطرة، لن يستطيع الإنسان التمييز بين حق وباطل ولا بين خير وشر، بل قد يرى المنكر معروفا والمعروف منكرا. يقول الله تعالى: (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَّا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا) الأعراف:146. ومتى ساءت فطرة إنسان بهذا الشكل، فقدت أهليتها لتكون حَكَما أو ميزانا فصلا في التفريق بين الحق والباطل وبين الطيب والخبيث. وعلى صاحب هذه الفطرة الفاسدة أن لا ينساق وراءها؛ بل أن يبحث عن أسباب فسادها وطرق إصلاحها لعلها تستعيد سلامتها ونقاءها من جديد. ومما تفسد به فطرة الإنسان: سوء التربية وتأثير البيئة السية واتباع الأهواء والشهوات. إن سلامة الفطرة من أجلّ نعم الله على الإنسان. وبقدر سلامة الفطرة يكون قرب العبد من الله ومن تعاليم دينه الحنيف. ولا يمكن أبدا لسيء الفطرة أن يكون أكرم عند الله، مهما أقام من شعائر التدين الظاهرة. وإن فساد واعوجاج فطرة بعض المسلمين، ليظهر من تحت عباءة تدينهم المغشوش؛ فالصباغة قد تغير الألوان والأشكال، لكنها لا تقوّم أصل الاعوجاج! وما فائدة تدين انطوى على نفس جمعت كل الرذائل والمساوئ البشرية؟ّ إن الذي ميّز سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بعثته وجعله أفضل أهل زمانه حتى قبل اتصاله بالوحي، هو سلامة فطرته الإنسانية. هذه الفطرة بلغت أوج طهرها وصفائها لما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم سن الأربعين، وبالضبط، أشهرا قليلة قبل نزول القرآن، حيث ما كان يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح! إنها أسرار الغيب التي بدأت تنعكس على فطرته الصافية وروحه الزكية كما تنعكس الأضواء على المرآة. ثم نزل الوحي بعد ذلك ليضيف إلى كمال محمد الإنساني الكمال النبوي. فخلاصة ما يمكن قوله واستخلاصه، من خلال هذه المقالة، هو أن الأخلاق الإسلامية لا تتعارض مع الأخلاق الإنسانية. ولمزيد من التأكيد أختم المقالة بهذا الحديث العجيب الذي لا يقف عنده الكثيرون مع الأسف، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تجدون الناس معادن فخيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا.." (متفق عليه). ففي هذا الحديث يبين النبي صلى الله عليه وسلم أن خير المسلمين وأكرمهم هم أولئك الذين كانوا خير الناس وأكرمهم قبل الإسلام. وما كانوا ليكسبوا تلك الخيرية وتلك المكانة لولا مروءتهم وأخلاقهم الإنسانية التي عرفوا بها بين أقوامهم قبل اعتناقهم للإسلام. وإن رسل الله عليهم السلام كانوا أيضا أفضل الناس قبل أن يختارهم الله لرسالاته. ولو لم يكونوا رسلا لكانوا قمما في الكمال الإنساني.