كان لي يوم الثلاثاء الماضي 06-03-2018 شرف المشاركة في يوم دراسي نظمه المجلس الأوروبي للعلماء المغاربة لفائدة الأئمة والمرشدات في هولندا، تحت عنوان: "دور الإمام في نشر ثقافة القيم المشتركة بين الناس". بهذه المناسبة ومن خلال هذه المقالة، أريد أن أشرك القراء الكرام فيما جادت به القريحة واحتفظت به الذاكرة حول هذا الموضوع، فأقول وبالله التوفيق: قبل الحديث حول دور المسلم بشكل عام ودور الإمام في الغرب بشكل خاص في نشر القيم المشتركة بين الناس، لا بد من الحديث كشق أول حول نشر وتجسيد القيم الإسلامية فيما بين المسلمين. لأنني أرى هذا الشق من الموضوع شرطا في حصول الشق الثاني المتمثل في نشر القيم المشتركة بين الناس. فالمسلم الذي لا يعرف قيم دينه ولا يجسد هذه القيم في محيطه الأسري أولا ثم في تعامله مع المسلمين ثانيا، لا يرتجى منه أن يجسد قيم الإسلام بله أن ينشرها بين غير المسلمين. كيف يستطيع المسلمون مثلا نشر قيمة السلم بين غير المسلمين والعالم كله يراهم يقتل بعضهم بعضا ويحاصر أو يعادي بعضهم بعضا؟ وكيف ينشرون قيم العدل والحرية وواقعهم كله ظلم وجور؟ خلال هذا اليوم الدراسي، وبينما أنا أتابع تدخلات المؤطرين القيمة وأسئلة وإضافات الحاضرين، استحضرت تدوينة لي في الموضوع كنت قد نشرتها قبل أيام قلائل على صفحتي الخاصة على الفيسبوك وكنت كتبت فيها: "متى يعلم الدعاة والمصلحون منا أن أزمتنا أزمة فكر وقيم قبل أن تكون أزمة شعائر تعبدية؟" هذه التدوينة لم تأت من فراغ، فالذي ينظر في واقع المسلمين لا يحتاج وقتا طويلا ولا جهدا كبيرا ليستنتج أن القيم الإسلامية ضعيفة أو تكاد تكون منعدمة التجسيد والتمثّل في حياة المسلمين، سواء على مستوى الأفراد أو المجتمعات. بعد نشر هذه التدوينة، تفاعل بعض الأصدقاء وأثروا النقاش حول الموضوع بآرائهم المختلفة. لكن الكل أجمع على أهمية الاثنين (المحافظة على الشعائر والالتزام بالقيم) وأن لا أحد منهما يغني عن الآخر. فالشعائر التعبدية بدون الحفاظ على القيم كالجسد بلا روح والمسلم الذي يقوم بواجباته التعبدية من صلاة وصيام وزكاة، لا بد أن يكون ذا قيم نبيلة وأخلاق عالية. ومن لم تثمرعباداته تحسنا في مستوى التزامه بالقيم الإسلامية، فعليه أن يعيد النظر في تلك العبادات، لأنها لو كانت بالشكل المطلوب لظهر أثرها في قيمه وأخلاقه. أما الالتزام بالقيم بدون الحفاظ على الشعائر التعبدية فهو-من منظور إسلامي- دليل على ضعف الصلة بالله والتفريط في حقوقه التي لايجوز لكل من يرجو الله واليوم الآخر أن يفرط فيها. الواقع أيضا يشهد بحاجة الإنسان إلى الاثنين. فالقيم وحدها لم تستطع منع الحروب العالمية التي حصدت أرواح الملايين من الأوروبيين وغيرهم. كما أن الالتزام بالشعائر وحده لم يمنع "المتدينين" من المسلمين ومن غير السلمين في الحاضر والماضي من ارتكاب الجرائم الفظيعة في حق بعضهم البعض وفي حق الآخرين. ولا يحصل التوازن المنشود إلا بالجمع بين الاثنين. طبعا، لم أكن أقصد بتدوينتي هذه أبدا الاستهانة بجانب الشعائر التعبدية في الإسلام، وخاصة أركانه كالصلاة والصوم والزكاة والحج. الذي قصدته ولا زلت أقصده وأحمل همه هو: كيف نعيد للقيم اعتبارها وننزلها المكانة اللائقة بها ضمن منظومة الدين الإسلامي؟ إعادة الاعتبار إلى القيم ووضعها على أعلى سلم الأولويات ضمن منظومة الدين الإسلامي، لا بد في نظري أن يتم عبر مستويات ومجالات متعددة. أولها، مجال الفهم والتصور. وأعني بهذا: أن يستوعب المسلم أن الالتزام بالقيم شرط للالتزام بالدين وأن لا معنى للتدين الصحيح دون الالتزام بالقيم وأن يستوعب أيضا أن قيم المسلم تعكس مستوى إيمانه وأن ضعف الحفاظ على هذه القيم دليل على ضعف الإيمان. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن. قيل من يا رسول الله؟ قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه" (البخاري ومسلم). هذا الحديث يبين بجلاء أن سوء معاملة الجيران وإيذاءهم دليل على ضعف الإيمان وأن من كمال الإيمان حسن معاملة الجار. ويقول صلى الله عليه وسلم أيضا: "لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له" (رواه أحمد). فغياب قيمة الأمانة والوفاء واحترام الجار والإحسان إليه كلها-وبنص هذين الحديثين- إيذان بغياب الإيمان. وإذا كانت القيم والأخلاق من الإسلام بالمنزلة والمكانة التي ذكرت، يتبين أن وصف من لا أخلاق ولا قيم له بالملتزم أو المتدين –فقط- لأنه يحافظ على الشعائر التعبدية (كما هو شائع بين كثير من المسلمين)، وصف جائر ولا يستقيم أبدا. لأن تقييم التزام المسلم بالإسلام يجب أن يكون بناء على التزامه بقيم الإسلام أيضا وليس بناء على حفاظه على الشعائر التعبدية فقط. إذا ترسخ لدينا هذا المفهوم واستقرت في وجداننا هذه القناعة، وجب العمل والتفكير في كيفية تحويل هذا التصور إلى مآل نرى من خلاله قيم الإسلام وأخلاقه تتجسد في واقع وسلوكات المسلمين في مختلف المجالات. من أجل أن نصل إلى هذا الواقع الذي تتجسد من خلاله قيم الإسلام في سلوكات المسلمين، لا بد أيضا بالإضافة إلى ماسبق من إعادة الاعتبار إلى القيم والأخلاق في مجال البحث والدراسة والتأليف كما في مجال التربية والتعليم والوعظ والإرشاد. في هذه المجالات، يجب أيضا أن تعطى للقيم والأخلاق المكانة اللائقة بها باعتبارها -إلى جانب التوحيد- الهدف الأسمى والغاية القصوى وراء بعثة النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الذي يقول فيه صلى الله عليه وسلم: "إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق" (رواه أحمد). إن عدد المؤلفات والأبحاث والدراسات الإسلامية التي أنجزت في مجال القيم والأخلاق ضئيل جدا إذا ما قورن بما ألف في غير هذا المجال. وحتى في كتب التفسير وفي كتب السيرة النبوية نجد مع الأسف إطنابا وإفراطا مبالغا فيه في جوانب أخرى من منظومة الإسلام على حساب منظومة القيم التي غالبا ما يقع في جانبها الإجحاف والتفريط. في مجال الوعظ والتدريس والتربية أيضا، يجب أن يتناول الوعاظ والدعاة والمدرسون والمربون مواضيع القيم والأخلاق بشكل يتناسب مع مكانة القيم في الإسلام. إذ لا يجوز أن يقل حديثنا أثناء الدروس والخطب والمواعظ حول الحلال والحرام في القيم والأخلاق عن الحديث حول الحلال والحرام في المأكل والملبس مثلا. كما لا يجوز أن نتحدث عن الشعائر التعبدية من صلاة وصوم وحج وزكاة ونسترسل بإطناب في بيان شروطها وهيآتها بينما نتناسى الحديث عن القيم التي شرعت من أجل ترسيخها هذه العبادات. كطهارة النفس بالنسبة للزكاة وترك الفسوق والجدال بالنسبة للحج وتجنب الصخب والخصومة بالنسبة للصوم... كان هذا فيما يخص القيم المشتركة فيما بين المسلمين. أما بالنسبة للشق الثاني المتعلق بالقيم الإنسانية المشتركة بين الناس فأقول: إن الإسلام دين الفطرة التي فطر الله الناس عليها. ولأن الإسلام دين الفطرة، لا بد أن يراعي في أحكامه وأخلاقه وقيمه خصوصيات هذه الفطرة وأحوالها ومتطلباتها. كيف لا، والذي أنزل الوحي (مصدر الإسلام) هو الله نفسه الذي خلق الإنسان وزرع فيه هذه الفطرة؟ فالوحي من الله والإنسان بفطرته إنما خلقه الله. فلا بد أذا أن يتلاءم ويتماشى وحي الله مع خلق الله. وإذا ما وقع أي اصطدام بين قيم الإسلام وقيم الإنسان الفطرية فإن هناك خللا، إما في فهم الإسلام أو في فطرة الإنسان. أما الإسلام الصافي النقي فلن يصطدم أبدا مع فطرة الإنسان السوية. يقول الله تعالى حول ملاءمة تعاليم الإسلام للفطرة: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) الروم: 30. من جهة أخرى، فقد سبق أن مر بنا ضمن هذه المقالة حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه: "إنما بعثت لأتمم صالح/مكارم الأخلاق". هذا الحديث يؤكد أيضا أن أخلاق الإسلام وقيمه لا تتعارض ولا تصطدم مع القيم الإنسانية؛ فالنبي لم يأت ليعلن انقلابا ولا ثورة على كل القيم والأخلاق التي كانت موجودة قبله أو في زمانه، وإنما جاء ليحسّن حسنها ويتمّمه ويقبّح قبيحها ويصحّحه. وكما أكد النبي صلى الله عليه وسلم هذا المسلك بقوله، أكده كذلك بفعله، عبر مشاركته ومساهمته صلى الله عليه وسلم قبل البعثة في الكثير من الأنشطة وانخراطه في المبادرات الإنسانية التي عرفها مجتمعه. ومن الأمثلة على ذلك مشاركته في حلف الفضول وهو في الخامسة عشرة من عمره. بعد بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم وبعد تلقيه الوحي من الله تعالى، قال معقبا على مشاركته في ها الحلف: "لقد شهدت حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو دعيت به في الإسلام لأجبت". إن حلف الفضول كان تجمعا وميثاقا إنسانيا تنادت فيه المشاعر الإنسانية لنصرة الإنسان المظلوم والدفاع عن الحق. وإن تعاليم الإسلام وقيمه التي تلقاها النبي صلى الله عليم وسلم بعد نزول الوحي، لم يكن بينها وبين القيم الإنسانية التي كانت وراء عقد حلف الفضول أي عداوة ولا اختلاف ولا تعارض. لذلك، افتخر النبي واعتز بمشاركته في هذا الحلف الإنساني وقال إنه مستعد للمشاركة في مثله حتى بعد البعثة. فكل القيم والأخلاق والصفات الحميدة التي تستحسنها وتقرّها فطرة الإنسان قيم إسلامية. وكل الأخلاق والقيم والصفات التي تستقبحها وتشجبها فطرة الإنسان قيم مستقبحة في الإسلام أيضا. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "البر حُسن الخُلق، والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس" (رواه مسلم). وعن وابصة بن معبدٍ رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "جئتَ تسأل عن البر؟" قلت: نعم، فقال: "استفتِ قلبك، البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتَوْك". (رواه أحمد والدارمي). ففي هذين الحديثين، يوصي النبي صلى الله عليه وسلم الصحابي وينصحه أن يستفتي نفسه ويحكّم فطرته. فالفطرة هي الميزان وما استحسنه الإنسان بفطرته فهو حسن وما استقبحه فهو قبيح. والنبي لم يأذن للصحابي بذلك، إلا لثقته صلى الله عليه وسلم بأن الفطرة السليمة لا بد أن تهتدي إلى الحق ولا يمكن أن تصطدم معه. وهذا ما يتأكد من خلال هذا الحديث النبوي الشريف الذي يقول فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تجدون الناس معادن فخيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا.." (متفق عليه). ففي هذا الحديث يبين النبي صلى الله عليه وسلم أن خير المسلمين وأكرمهم هم أولئك الذين كانوا خير الناس وأكرمهم قبل الإسلام. وما كانوا ليكسبوا تلك الخيرية وتلك المكانة لولا مروءتهم وأخلاقهم الإنسانية التي عرفوا بها بين أقوامهم قبل اعتناقهم للإسلام. وإن رسل الله عليهم السلام كانوا أيضا أفضل الناس قبل أن يختارهم الله لرسالاته. ولو لم يكونوا رسلا لكانوا قمما في الكمال الإنساني. هذا هو الأصل، أن يتقاسم الناس كلهم نفس القيم الأساسية التي يحتاجها الإنسان من أجل القيام بواجبه المتمثل في إعمار الأرض والاستخلاف فيها، حيث تكون تلك القيم النبيلة التي أودعها الله في فطرة الإنسان هي معيار الفصل والاحتكام فيما يقع بين الناس وما يصدر منهم. لكن اتفاق الناس كلهم على أهمية القيم ومكانتها، لا يعني بالضرورة اتفاقهم حول مفهوم هذه القيم وصور تمثلاتها. فالاختلاف حول مفهوم بعض القيم وصور تمثلها يحصل ليس بين أتباع الديانات المختلفة فحسب، بل هو حاصل أيضا بين أفراد نفس المجتمع وبين أتباع نفس الديانة، ليبقى السؤال المهم هو: كيف نتصرف –خاصة نحن المسلمين في الغرب- عندما نختلف مع غير المسلمين في فهمنا لبعض القيم أو في تمثّلها؟. من أجل الإجابة على هذا السؤال، أرى أن علينا القيام بالآتي: أولا: البحث عن القيم التي لا نختلف حولها والتركيز عليها تنظيرا وتطبيقا. وهذه القيم كثيرة جدا إذا ما قورنت بما قد نختلف حوله. ثانيا: تدبير المختلف فيه من القيم بالاحتكام والرجوع إلى المتفق عليه منها. كتدبير الاختلاف حول بعض القيم التي لها علاقة بحقوق الإنسان مثلا، بمراعاة قيم الاحترام والحرية والحق في الاختلاف. ثالثا: عرض القيم الخاصة بالمسلمين لا يستلزم بالضرورة الطعن فيما يخالفها من قيم غير المسلمين ولا حتى المقارنة. فكما أن لنا قيما نعتز بها ولا نقبل أن تهاجم هذه القيم أو يساء إليها، فإن للغير أيضا قيمه الخاصة التي يجب أن نحترمها مهما كان موقفنا منها. رابعا: لا يحق لنا نحن المسلمين أن نحاكم غيرنا بناء على مدى التزامه بأحكام وتشريعات ديننا بل، بناء على مدى الالتزام بالقيم المشتركة التي تجمعنا. خامسا: علينا في الأخير نحن المسلمين التحلي بالكثير من الحكمة والتأني والموضوعية عندما يتعلق الأمر ببعض القيم الخاصة بنا والعمل على عرض هذه القيم وتجسيدها بشكل يجعل المجتمعات التي نعيش فيها ترى في قيمنا غنى وإضافة لمكوناتها لا تهديدا أو استفزازا لكيانها. وهذا يتطلب من المسلم وعيا كبيرا بمحيطه وفهما واسعا لدينه ونظرا عميقا في مآلات ونتائج ما يدعو إليه وما يجسده من قيم في هذا المحيط الحساس والمتنوع والمتجدد. https://www.facebook.com/charif.slimani.9 [email protected]