أثار تقديم فريق العدالة والتنمية، باسم فرق الأغلبية، تعديلاً على مشروع قانون المالية 2017 (المادة 8 مكرر)، رفضاً شديداً من قبل عدد من الحقوقيين ونقباء المحامين، في حين وعدت المعارضة بالطعن في دستورية التعديل أمام المحكمة الدستورية في حال إقراره بشكل نهائي. يعود سبب هذا الرفض الشديد لكون التعديل المذكور نص على أنه "لا يمكن في أي حال من الأحوال أن تخضع أموال وممتلكات الدولة والجماعات الترابية للحجز"؛ وهو ما سينتج منه حرمان مئات الآلاف من المواطنين حالاً ومستقبلاً من استرجاع جزء من حقوقهم المسلوبة جوراً من طرف الدولة والجماعات الترابية. يمثل هذا الرقم تقديراً متواضعاً لعدد المتضررين من عدم تنفيذ آلاف الأحكام المكتسبة لقوة الشيء المقضي به التي يرفض مسؤولو الإدارة والجماعات الترابية تنفيذها. إن إقرار المادة 8 مكرر بشكل نهائي سيكون إعلاناً عن تعطيل المغرب للمبدأ الكوني للعدالة: (كل فعل بشري ألحق ضرراً بالغير، يلزِم مرتكب هذا الخطأ بجبر الضرر الذي تسبب فيه). Tout fait quelconque de l'homme, qui cause à autrui un dommage, oblige celui par la faute duquel il est arrivé à le réparer. إذ ستلغى إلزامية جبر الضرر من طرف المتسبب فيه وستصبح اختيارية له يقوم بها متى شاء إن رأى ذلك مناسباً له. يبني أصحاب هذا التعديل مرافعتهم لفائدته على ادعاءات منكرة دستورياً وقانونياً من جهة، وعلى عدم دراية مريع بالقواعد الفنية الخاصة بالمالية العامة والمحاسبة العمومية وتدبير الجماعات الترابية، من جهة أخرى. 1- إن الأحكام المكتسبة لقوة الشيء المقضي به الصادرة لفائدة المواطنين في مواجهة الدولة أو الجماعات الترابية لا تضع المصلحة الفردية في مواجهة المصلحة العامة: بل هي تصحيح لسلوك منحرف للدولة والجماعات الترابية التي اعتدت على حق من الحقوق الأساسية للمواطنين. إن أغلب الأحكام القضائية التي ترفض الدولة والجماعات الترابية تنفيذها هي تعويضات قضت بها المحاكم مقابل الاعتداء المادي أو نزع ملكية عقارات من عشرات الآلاف من المواطنين هم في أمس الحاجة إليها ولعائداتها. ولا داعي للتذكير أن من أبجديات الفهم الدستوري والقانوني أن معيار المصلحة العامة في أفعال الدولة والجماعات الترابية لا يرتبط بصفة شخص القانون العام لهذه الأخيرة فقط، وإنما يلتصق التصاقاً بتحقيق المصلحة العامة الخاضعة لتدقيق القضاء ورقابته. إن القضاء عندما يحكم ضد الدولة والجماعات الترابية بتعويض للمواطنين فإنه يخلص بشكل ملزم للجميع بأن الضرر ناتج عن شطط في استعمال السلطة تجاه المواطنين وأملاكهم، أو نتيجة تبخيس قيمة أملاكهم؛ وهو تجريد صريح لأفعال الدولة والجماعات الترابية من صفة المصلحة العامة. وإلا سيكون علينا أن نعتبر أفعال بعض موظفي الدولة وبعض رؤساء الجماعات الترابية الذين أدانهم القضاء بالسجن من أجلها أفعالاً تحقق المصلحة العامة أيضاً. 2- ليس من النزاهة التلويح بتهديد استمرارية المرفق العام في مواجهة إلزامية تنفيذ الأحكام: القول إن الحجز على أموال ومنقولات الدولة والجماعات الترابية من أجل تنفيذ أحكام قضائية نهائية لفائدة المواطنين يهدد استمرارية المرفق العام فيه تجن كبير على الحقيقة، وهو لجوء العاجز إلى فزاعة تخيف خصومه وتحميه من تحمل تبعات أفعاله الطائشة. لكي نصدق أن تنفيذ الأحكام النهائية ضد الدولة والجماعات الترابية يهدد استمرارية المرفق العام يجب تقديم الدليل القاطع على أن تنفيذ هذه الأحكام عن طريق الحجز على بضع من أموال وأملاك الدولة والجماعات الترابية سيتسبب في انقطاع مؤقت لخدمات أساسية عن المواطنين، كالأمن والدفاع والصحة والتعليم والتقاضي، أو انقطاع نهائي للخدمات العامة التي تقدمها الدولة أو الجماعات الترابية المعنية، لأن الحجوزات المذكورة ستتسبب في إفلاسها. وهذا ما لن يصدقه عاقل، لأنه كلام يلقى على عواهنه، في حين يجب إثبات أثر كل أمر بالحجز على حدة، والذي لا يتجاوز بضعة ملايين من الدراهم في أغلب الحالات (حالات الأحكام بمئات الملايين من الدراهم حالات قليلة جداً) على سير المرفق العام المعني، وهو أمر يرجع للقضاء وحده الفصل فيه عند اللجوء للمساطر الملائمة، كالصعوبة في التنفيذ أو غيرها. إن العدالة لا تتحقق بسن قواعد تشريعية بناء على الاشتباه وتقديرات بالجملة دون تمييز دقيق بين الحالات، وإلا فإننا سنكون بصدد عدالة المسلخة. إن الإقرار النهائي للمادة 8 مكرر سيمثل افتئاتا صارخاً على صلاحيات السلطة القضائية من طرف السلطة التشريعية، في خرق صريح لمبدأ فصل السلط الذي نص عليه الدستور. 3- إن إشهار القواعد الفنية الخاصة بالمالية العامة والمحاسبة العمومية في وجه المواطنين المتضررين من عدم تنفيذ أحكامهم، ينم عن الجهل الذريع بأصول هذه القواعد: أولا: لا يمكن الاحتجاج بالقواعد الفنية الخاصة بالمالية العامة والمحاسبة العمومية في مواجهة تنفيذ الأحكام القضائية من طرف الدولة والجماعات الترابية، لأن هذه القواعد الفنية ملزمة للدولة ومؤسساتها ووزرائها وموظفيها وللجماعات الترابية ومسؤوليها وموظفيها فقط، ولا يحتج بها أمام الغير من أجل تعطيل قوانين أخرى مثل المسطرة المدنية، أو من أجل هضم حقوق المواطنين. سيكون من غير المناسب أن يحتج مسؤول في الدولة أو في الجماعة الترابية لدى محامي الأرملة التي صادرت الدولة أو الجماعة الترابية منذ عشر سنوات قطعة الأرض الوحيدة التي تعيل منها أيتامها بأنه لا يتوفر على الاعتمادات اللازمة من أجل صرف مبلغ التعويض الهزيل لها، ولأن قانون المالية والقانون التنظيمي للجماعات الترابية والمرسوم الملكي الخاص بقواعد المحاسبة العمومية تمنعه من صرف مبالغ خارج الاعتمادات المرصودة. وسيكون تقصيراً من هذا المحامي ومن القاضي الذي سيلجأ إليه إن لم يستصدر حجزاً على أموال أو منقولات الدولة أو الجماعة الترابية المعنية من أجل تعويض الأرملة المسكينة. إن القاضي الذي يصدر أمراً بالحجز على أموال ومنقولات الدولة والجماعات الترابية من أجل تنفيذ حكم قضائي هو على دراية تامة بهذه القواعد الفنية، ولو كانت صالحة للاحتجاج بها لما أصدر أمره بالحجز. فكفى من الافتئات على سلطة القضاء. ثانيا: أليس حريا بالمتباكين على عدم استجابة القواعد الفنية الخاصة بالمالية العامة والمحاسبة العمومية للتنفيذ الجبري للأحكام القضائية أن يعملوا على ملاءمة تلك القواعد مع القاعدة الدستورية التي تنص على وجوب تنفيذ الأحكام القضائية. وفي هذا الباب ما الذي منع أصحاب المادة 8 مكرر من تعديل وتتميم المادة 58 من القانون التنظيمي للمالية وجعل الاعتمادات المتعلقة بالنفقات المرتبطة بتنفيذ القرارات والأحكام القضائية الصادرة ضد الدولة ذات طابع تقديري يمكن تجاوز المخصصات المرصودة لها في بنود الميزانية على غرار ما هو معمول به بالنسبة للاعتمادات المتعلقة بالنسبة للنفقات المرتبطة بالتسديدات والتخفيضات والإرجاعات الضريبية التي تستفيد منها المقاولات، والتي لا تحتاج لأمر بالصرف مسبق ولا تحتاج إلى توفر إعتمادات كافية. وهنا وجب التذكير أن الدولة التي تتنصل بشراسة من أداء بضعة مئات الآلاف من الدراهم لأرملة فقيرة صادرت أرضها التي تعول منها أيتامها، هي الدولة نفسها التي لم تجد حرجاً في تعديل مدونة الضرائب في قانون المالية لسنة 2015 من أجل أن تمكن كبريات الشركات من شيكات تصل قيمتها إلى 500 مليون درهم لكل شركة على حدة، دون التوفر على اعتمادات بذلك ودون أمر بالصرف مسبق، من أجل استرجاع استثنائي للرصيد المدين لدى الدولة من الضريبة على القيمة المضافة (butoir). إن مجموع المبالغ التي استفادت منها بشكل استثنائي الشركات المذكورة، والتي تقدر بعشرات الملايير من الدراهم في سنة واحدة، توازي مجموع المبالغ المتضمنة في الأحكام القضائية المكتسبة قوة الشيء المقضي به الصادرة لفائدة عشرات الآلاف من المواطنين الفقراء، والتي ترفض الدولة تنفيذها منذ سنوات خلت. إن التساؤلات حول عدم ظهور آثار النمو الاقتصادي على المغاربة تجد جزءاً من أجوبتها في مثل هذا السلوك التمييزي القهري تجاه المواطنين الضعفاء لفائدة الآخرين الأقوياء. 4-إن الاحتجاج بالقواعد الفنية لتدبير الجماعات الترابية في وجه المواطنين المتضررين من عدم تنفيذ أحكامهم يدل على عدم كفاية تدبيرية لدى رؤساء هذه الجماعات: يجب التذكير أن أغلب هذه الأحكام هي ناتجة عن تفاقم الاعتداء المادي على أملاك المواطنين من طرف الولاة والعمال، مع تحميل المسؤولية القانونية للجماعات الترابية التي يتدخلون باسمها؛ وذلك تنصلاً من المسطرة القانونية لنزع الملكية التي توفر حماية (على تواضعها) للمواطنين. هنا يجد أغلب عمداء المدن أنفسهم عاجزين عن مواجهة موظفي الداخلية وقليلي الحيلة من أجل ابتكار حلول تفاوضية أو قضائية ضد وزارة الداخلية، إذ بإمكانهم مثلاً المطالبة بالتعويض عن المبالغ المحكوم بها ضد جماعاتهم عن طريق تحميل المسؤولية لوزارة الداخلية، فيعوضون هذه النقائص بتخطي الحائط القصير الذي لن يكون سوى المواطن، وذلك برفض تنفيذ أحكام القضاء. 5- إن المادة 8 مكرر استعملت قانون المالية كحصان طروادة (cavalier budgétaire)، من أجل تمرير مقتضيات تهم المسطرة المدنية وتشريعات نزع الملكية ونصوص أخرى: وبالتالي حدت من سلطات البرلمان في التشريع خلافاً للدستور وللمادة 6 من القانون التنظيمي للمالية التي تنص حرفياً على أن قانون المالية لا يمكن أن يتضمن إلا أحكاماً تتعلق بموارد الدولة وتكاليفها وتحسين شروط تحصيل مداخيلها ومراقبة المالية العمومية. وسيكون من التذاكي على المختصين قراءة المادة 6 من القانون التنظيمي للمالية بمعزل عن مقتضيات المادة الأولى من القانون التنظيمي نفسه التي تنص صراحة على أن المداخيل والنفقات المعنية هي مداخيل ونفقات الدولة حصراً ولا يمكن توسعتها لتشمل مداخيل ونفقات المؤسسات العمومية والجماعات الترابية، وإلا كنا أمام قوانين للمالية يصادق فيها البرلمان على مداخيل ونفقات المؤسسات العمومية والجماعات الترابية أيضاً. وحتى إذا قبلنا جدلاً توسيع مفهوم المالية العمومية ليشمل مالية الجماعات الترابية فإننا في هذه الحالة لا يمكن أن نضمن قانون المالية إلى أحكاماً تتعلق بتحسين الشروط المتعلقة بمراقبة مالية الجماعات الترابية، وهو ما لا يمكن أن يستوعب بأي حال من الأحوال مقتضى تشريعياً يرمي إلى منع الحجز على أموال وممتلكات الدولة والجماعات الترابية. أما القول إن المادة الأولى من قانون المالية لكل سنة تنص في صلبها على مقتضى يهم الجماعات الترابية، وقد صادقت على ذلك المحكمة الدستورية في قرارات سابقة، فهذا قول مناف للحقيقة، ويسهل التثبت منه بالرجوع إلى الطعون السابقة في قوانين المالية، والتي لا تتعدى أربعة على كل حال، إذ سنجد أنه لم يسبق أن طلب رأي المحكمة الدستورية في هذا الأمر. وفي الأخير، لا بد من التنبيه إلى إن المسؤولية التشريعية تتطلب استحضار روح العدالة ومضامين الدستور بشكل عميق، بالإضافة إلى التمتع بالحس السياسي القوي، إذ من دون ذلك ستتحول العملية التشريعية إلى تدابير مسطرية تصاغ بالموظف نفسه الذي يعمل على حل إشكالياته التدبيرية المحدودة. وفي هذا السياق حبذا لو اهتم أصحاب التعديل بإشكاليات نزع الملكية وعملوا على إقرار قانون لنزع الملكية جديد، وإنهاء العمل بقانون رقم 81-7 المتعلق بنزع الملكية لأجل المنفعة العامة وبالاحتلال المؤقت الذي صادق عليه مجلس النواب في 22 دجنبر 1980، وهي الفترة السياسية المتوترة التي ستشهد أحداث يونيو 1981، والتي سمى البصري شهداءها آنذاك "شهداء كوميرا". إن القانون المذكور أقر تحت دستور 1972، الذي ستليه دساتير 1992 و1996 ثم 2011. إن التعامل مع الحق في الملكية لازال يتم في المغرب من طرف الإدارة وفق منظور السبعينيات من القرن الماضي، وهي الفترة المطبوعة بتوترات سياسية ودستورية عميقة بين المواطنين والسلطة الممسكة بدواليب الدولة؛ وهو مخالف لدستور 2011 الذي عمل على تأهيل منظومة الحقوق الأساسية للمواطنين. ولا بأس من الاسترشاد بالمبادئ التالية في حالة ما اتفقنا على ضرورة سن قانون جديد لنزع الملكية: - لا يمكن نزع الملكية في منطقة تتوفر الدولة والجماعات الترابية على وعاء عقاري مملوك لها. - ضرورة اللجوء إلى المسطرة التفاوضية قبل اللجوء إلى نزع الملكية كحل أخير. - لا يمكن اللجوء إلى نزع الملكية قبل التوفر على الاعتمادات المالية اللازمة من أجل اقتناء الأرض. - لا يمكن بأي حال اعتماد تقويم أولي من طرف الإدارة لأثمان العقارات المزمع نزع ملكيتها يقل عن التقويم المعتمد من طرف إدارة الضرائب، والتي هي ممثلة أصلا في لجنة التقويم. هذا هو الحد الأدنى المعمول بها في كل التشريعات المقارنة في العالم، بالإضافة إلى وجوب تحميل المسؤولية الجنائية للوزراء والمنتخبين والموظفين العموميين الذين يرفضون تنفيذ أحكام القضاء.