صار حال المجتمعات العربية اليوم انفصاما على انفصام، بعضها مع مشروع النهضة والحداثة اللتين تمثلهما الدولة، ولكنه ضد الممارسة الاستبدادية التي تمثلها الدولة أيضا، فينتصر ضد الدولة للديمقراطية والحرية ممارسةً تتماشى مع روح الحداثة والنهضة التي تمثلها، مع ذلك، الدولة هي هي؛ وبعضُها مع الممارسة ولكنه ضد المشروع، فينتصر، ضد الدولة، لفكر الظلامية والأصولية، روحا يتماشى مع واقع الممارسة الاستبدادية التي تمثلها الدولة هي هي أيضا. إن فشل مشاريع النهضة العربية يرجع إلى كونها لم تر أن الحل الحقيقي يكمن في تعديل الحداثة بالحرية وتعديل الحرية بالحداثة، أي في لقاء النهضة العربية بالإنسانية. لا يمكن بناء الحرية على الخصاص والفقر والضرورة والأوبئة والجهل وانعدام الكرامة. ولا يمكن بناء الحداثة من دون التحرير التدريجي للإرادة، تحريرا يعطي للمبادرة دورها في صنع التاريخ. لكن هذا الاختيار يظل موسوما بالعطالة؛ فثمة إعاقات خطرة ينبغي أن يكون هناك وعي بها، لأن غياب المشاريع الحضارية سيجعل أي عمل فاقدا المعنى، ولا يمكن أن يلقى سوى نفس مصير التجارب السابقة. وهنا تأتي حاجتنا الملحة، أكثر من أي وقت آخر، إلى شعب متفلسف. وليس المقصود بذلك الانغراس في المعنى الميتافيزيقي، وإنما ضرورة الفلسفة من حيث هي سؤال أو أسئلة تطرح من خلالها الأسئلة التأسيسية، والانتظارات الكبرى للإنسان المغربي، ومن حيث هي محاولة لإسقاط الطابع التقديسي والأسطوري والخرافي عن كل ما هو لا تاريخاني، ومتعال؛ أي إنها التمكن من معرفة الاختيارات الكبرى، ومعرفة الأنا ومساءلتها وتحديدها في علاقاتها المتعددة والمختلفة؛ لأننا في حاجة إلى طرح الأسئلة، ولسنا في حاجة إلى الأجوبة الجاهزة المستوردة.. كما أنها مشروع منفتح على البعدين الزمنيين، الماضي في تعدده وتجلياته من حيث هو مكون أساس للأنا، والمستقبل من حيث هو صيرورة ومآل وعلاقات مع الذات والآخر. إن الأسئلة تعلمنا كيف أن الفلسفة هي نشاط عقلي وتعقل ومعولٌ للحفر في الطبقات المعرفية التي تشكِّلُ الثقافة..كما تعلمنا أن أي مشروع تحديثي أو أي معالجة لقضية كبرى، في راهِنِنَا، وآنِيَّتِنَا وإِنِّيتنا/النحن، لا يمكن أن تكون إلا عبر مدخل البحث في تلك السلط الدقيقة التي تشتغل في لاوعينا، والتي من الممكن أن نقبض عليها. إنها البحث في الإواليات التي تنسج تصوراتنا للأشياء وللعالم وللكون. إنها قضية الكينونة، والوجود، والوعي بهما في صيرورتهما. كما تعلمنا أن ذواتنا مسكونة بأصوات الآخرين، وأننا لا يمكن أن نعالج قضايا الراهن إلا انطلاقا من البحث في "الهناك" زمنيا ومعرفيا، ومن خلال علاقات واضحة ومحددة. لقد ضيعنا الكثير وأجهضنا كل شيء كان بإمكانه أن يساعدنا على التغلب على الكائن السوداوي، بفعل تعدد ممارسات القتل والتهميش والحذف لكل أنواع المساءلة العقلانية. وأصبح الوطن جسدا فاقد العقل يلهث وراء كل أنواع اللذات الحسية والمساومات والعبث! ويبقى من أهم ما يتهددنا اليوم، في ظل "البرامج" الاستعجالية الاقتصادية والسياسية والمجتمعية، التي تُغيِّب المشاريع الثقافية والتربوية القوية والعميقة الجادة، هو الاهتمام الأعمى المتزايد بالتقنية من حيث هي أداة قابلة للاستهلاك، وتمكن من ركوب سكة العولمة، وليس من حيث هي فلسفة ونتيجة لصيرورة فلسفية تتماشى واحتياجات المجتمع الذي أنتجها. لأن التقنية هي فكر وفلسفة قبل كل شيء، وإذا كان تعلم تكنولوجيا جديدة أمرا سهلا، فإن استيعاب الأفكار الاجتماعية الجديدة وتمثلها تمثلا باطنيا صميما يبقى جد معقد ويتطلب زمنا طويلا وثورة ثقافية جذرية. إن العالم العربي ليس في حاجة إلى التكنولوجيا، أي إن مشكلتنا لا تكمن في العمل على تضييق "الفجوة الرقميةّ" أو نهج تجارب الآخر، بقدر ما أن المشكل يوجد فينا. فلا تنمية، ولا حداثة، ولا تطور، ولا ديمقراطية ولا انتقال حداثي، إلا وينبغي أن يكون عبر بوابة أساسية هي الفكر. فلسنا في حاجة إلى مهندسين ولا إلى معاهد الهندسة، بقدر ما نحن في أمس الحاجة إلى كليات الشريعة والآداب، ذلك أن المهندسين والتقنيين يمكنهم أن يتقنوا استعمال أو إصلاح تقنية أو آلة، ويمكنهم أن يغيروا مجرى نهرٍ، أو تحويل أرض إلى بناية ضخمة أو الجبل إلى حفر، ولكن الفكر والفلسفة، بالأساس، هي التي تغير مجرى الفكر ومجرى التاريخ. أليست التقنية تجلٍّ من تجليات الفكر فقط؟ أَوَلَمْ تكن النهضة الأوربية نهضة فنية، في بدايتها، ثم فلسفية، انتهت تكنولوجياً؟. فالخطاب المهيمن يمارس الإقصاء والتغييب والإحراق. إذ أصبحنا -كما يرى محمد محجوب- نواجه قضايا كبرى بأفكار ميتة ومشوهة، وأصبحنا نعيش الوهم الحضاري الكبير، إما وهم ماضينا المشرق، أو وهم استهلاكنا لأحدث التقنيات. لكن في الحالين معا، نظل نحفُر قبرنا. وفي الحالين معا نظل نقعِّرُ أنَانَا. إنه الموت الحضاري الذي ينبغي أن نتخلص منه بأحد أكبر الأدوات التي ساهمت في صناعة الراهن، وهي الفلسفة. وعليه، فإن من الاستنزافات الخطيرة التي تقع في صمت، والتي يتعرض لها العالم الثالث، والوطن العربي بشكل خاص، هي استقطاب كفاءاتها عن طريق التأشيرة وعن طرق أخرى كثيرة، لأن البلدان الغربية تعوِّل على القيمة المضافة التي تأتي بها الهجرة حتى تكون أداة فاعلة في التنمية، وعنصرا من عناصر التفوق والرفع من الرأسمال البشري. وقد بلغ الأمر بالولايات المتحدةالأمريكية أن جعلت من الهجرة مذهبا في التنمية وصورة من صور الاقتصاد، وذلك بالاستفادة من المنتوج وقد اكتمل، أي إنها تستفيد منه عندما يصبح منتجا في أرفع مستوى دون أن تكون قد ساهمت في النفقة على المسار الذي أوصله، وهنا يصبح التشجيع على الهجرة سطوا على استثمار الدول الضعيفة، وهو ما يعني أن أمريكا تستفيد من خبرات لم تنفق عليها ولكنها تجلبها بما توفره من ظروف. فأمهر الكفاءات تهاجر مخلفة من ورائها فراغا يتعذر تعويضه أمام استفحال هذا الاستنزاف، ما يجعل مصير المؤسسات العلمية والثقافية والسياسية أقرب إلى الفراغ؛ وهو ما يقوي من تراجعها ومن كارثية وضعها على المستويين الراهن والمستقبل القريب. إذا كان الأمر يقتضي تلازما في النمو بين بنية الإنتاج وإدارة المؤسسات التعليمية، وبين طاقات الاستيعاب، فإنه من الواضح أن طبيعة التنمية العربية (المغرب) المشوهة في خططها وبرامجها وتطبيقاتها التي تعتمد بالأساس على استيراد السلع والبرامج الجاهزة تقف حجر عثرة دون حصول تطور متوازن بين مجموع القطاعات؛ وهذا ما أسهم في وأدِ المثقف الفاعل ذي التوجه العقلاني المتحرر من التاريخ القديم وما يشكله من قيم وتقاليد. هكذا، فإن طبيعة التفكير المهيمنة لا تعمل سوى على إعادة إنتاج نفس النمط الفكري المتهالك، لكن في صورة أكثر اضمحلالا وتقهقرا، ما يحجب عنا إدراك العالم والعلاقات كما ينبغي أن تدرك. فتمركز الوهم بامتلاك الحقيقة، إلى جانب ضعف التواصل مع الواقع وتشخيصه فكريا ومفاهيميا، في كل تعقيداته، يجعل عائق التحديث يكبر ويزداد تضخما وتجذرا في كل البنيات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، لأن المسألة لم تعد، في عالمنا المعاصر، تكمن في تفاضل بين هذا المعتقد أو ذلك المذهب، بل كيف يجري تداول الفكرة، أو صرف المقولة على أرض الواقع؟ أو ما هي الإمكانات التي تخلقها المفاهيم والمآلات التي تقود إليها؟. إننا مدعوون إلى خلق تصالح مع ذاتنا، من خلال البحث فيها من حيث هي تراث يخترقها ولا يتوقف عن التجلي والاختفاء في كل الممارسات. وينبغي إنتاج الأسئلة الباحثة عن ماهية هذه الذات وانتظاراتها؛ لأن مفهوم الزمن لدينا لا يحضر إلا باعتباره بعدا واحدا، دون أدنى وعي بالأبعاد الأخرى. فإذا كانت الأبعاد الزمنية الثلاثة هي الحاضر والغائب (الماضي) وما يحمله من وجود قوي في كل حاضر، وزمن ممكن هو المستقبل بكل تنويعاته وإفرازات الحاضر وما يصير إليه، فإنه ينبغي البحث في طبيعة الزمن الحاضر في علاقته بالماضي وتطلعاته المستقبلية. ومن دون هذا الوعي، فإنه يتم تغييب حلقة تمثل أحد أسرار المعادلة التي تقربنا أكثر من سؤال الحداثة، وبناء المشروع الحضاري؛ لأن مسألة الانكماش أو الاختزال السريع لبعدي الزمان والمكان، كما يرى هارفي، تشكل سمة رئيسية في عالم ما بعد الحداثة، وهي تتصل بمدى القدرة على التحدي والضبط والتحكم في الزمان والمكان، لأن ذلك هو ما يشكل مصدر القوة الاجتماعية؛ إذ بإمكان القدرة على إجراء تعديلات في خصائص المكان والزمان أن تحقق في الآن نفسه منافع مادية.