منذُ وُلدتُ عشتُ أبحثُ عنكِ، عن البلادِ التي عادةً نولدُ فيها وتولدُ فينا. كنتُ أنتظرُ أن ألقاكِ وأنا صغير، أحلمُ لو مرةً تتجسدين بين يديّ، أنظرُ إليكِ وتنظرين إليّ. وكلما كنتُ أكبرُ كانت المسافةُ في ذهني بيني وبينكِ تصغرُ إذ يكبر إثرَها الحلْمُ بلقائك. تعبتُ طويلا وتحمّلتُ ما يكفي يا بلادي كي نلتقيَ، لكننا لم نلتقِ. عشتُ طويلاً ألقاكِ في الرواياتِ وأتنهّد، أردّد اسمك ببلادةٍ في النشيدِ، أطاردكِ في الأغاني، وأقتفي عطركِ في كثير من الأشعار، ولمْ أجدكِ أبداً. ومن يأسي توقفتُ عن البحث، واخترتُ أن أمضي بعيداً عنكِ، أبحث عن بلادٍ تشبهُك في بلاد أخرى لا تشبهني، قد تكون لي الوطنَ أو تكون ليَ المنفى. ابتعدتُ عنكِ مضطراً يا بلادي لأني كنتُ في حاجة إلى وطنٍ حقيقيّ يُشعرني بالأمان والكبرياء. يئستُ منكِ ورحلتُ، ولا أقول هاجرتُ لأن الهجرة سيرٌ في معلوم، وأنا رحيلي كان هروباً إلى مجهول. والآن، وبعد كلّ هذه السنين من الغياب اليائسِ وجدتُك، ولو متأخراً عثرتُ عليكِ. يااااه... من كان يظنّ بعد كلّ هذا الزمنِ أراكِ أخيراً، بعد أن هرمتُ واشتعلَ الرأسُ يأسا؟ وحدَه الربيعُ العربيّ حرّضني على البحثِ عنك ثانيةً، ووحده الإنترنيتُ جعلني أراكِ، أراكِ يا هذه البلادُ التي كانت لا تُرى، فأدركتُ أخيراً أنك حقيقةٌ ولستِ وهماً، وأدركتُ أيضاً أن كبارَ القبيلة كانوا عني يُخفونكِ، وعنكِ يُبعدونني. فهل أقولُ شكراً لهذا الربيع العربيّ الذي أزهرتْ فيه الثوراتُ واستعادَ بها كل مواطن عربيّ ذاكرتَهُ، فتذكرتُ أنا أيضاً أنّ لي بلادا تسكنني دون أن أسكنها؟ أمْ أقول شكراً للفايسبوك الذي صاغَ للبلدانِ المنسيةِ عناوينَ وملامحَ جديدة، فأعطاك يا بلادي كهذي البلدانِ اسماً ورائحةً أشعلت أشواقا منطفئةً كانتْ؟ الآن، صرتُ أفتحُ حاسوبي كي أراك. أنتظر بشغفٍ انتصافَ الليل كي أخلدَ إلى نفسي وألتقيكِ على اليوتوب والفايسبوك وهسبريس، أرى أخبارَك وأندهش، أستمعُ إلى أنفاسك اليوميةِ ويشبّ الشوقُ إلى عناقك. بدأتُ أشعرُ وأنا بعيدٌ عنكِ بالغربةِ رغم كثافة الوجوه حولي، أتحسّس مذاقَ العزلةِ رغم كل هذا الصخبِ الجميل الذي أحياه هنا. لم أكنْ أعرفُ أنك جزءٌ هائلٌ من ذاتي إلا في الأيام الأخيرة يا خطيرة. لذا، حينَ أشاهدكِ يا بلادي تتشظّيْنَ في الشوارعِ ، يتشظىّ قلبي خوفاً عليكِ. وحين أسمعكِ تتألمين أتألم. وودتُ لو كنتُ في البلادِ قريباً منك يا بلادي كي أمدّ إليكِ يدي لتنهضي، أو أقبّلَ جرحكِ حتى يلتئم. هل تعلمين؟ منظر كبارِ القبيلة وهم يواصلون حجبَكِ عنّي يوجعُني. لم أكنْ أعرفُ أني هشٌّ أمام آلامكِ إلى هذه الدرجة، لكنني حقّاً كذلك. غاليتي، تحمّلي الألم قليلاً فلا بدّ يوماً ينتهي، وأنا سأتحمّل البعدَ عنكِ قليلاً فلا بدّ يوما نلتقي. وإذا ما طلبتِ مني أن أوقّع شعراً على الجبيرة التي تلفّ رجلكِ ليكونَ شاهداً على لحظةِ العصفِ هذه، لن أجد أفضل من بيت غزليٍّ يحبّه كل العاشقين: إذا الشعبُ يوماً أرادَ الحياة فلا بدّ أن يستجيبَ القدرْ