كنت دائما أتحاشى الخوض في موضوع التعليم العالي والحالة المتدنّية التي وصلت إليها وضعية الأساتذة الجامعيين وأنا واحد منهم بحكم الانتماء إلى جامعة محمد الأول بوجدة ، ولكن أجدني اليوم مدفوعا للحديث عن هذا الموضوع بدافع الانتماء أولا ثم الغيرة الشديدة على مصير التعليم العالي بهذا البلد العزيز في يوم الخميس 18 ماي الجاري قام السادة أساتذة جامعة محمد الأول بإضراب عام مساندة لزملاء لهم في كلية العلوم ، الذين تعرضوا إلى اعتداء سافر لا أخلاقي من عصابة من الغوغائيين المحسوبين جزافا على طلبة كلية العلوم، حيث قاموا باحتجاز مجموعة من الأساتذة لساعات طوال ومنعوهم من الخروج والالتحاق ببيوتهم. لم استغرب هذا التصرّف لأن السيبة الموجودة في الجامعات المغربية ومنها جامعة وجدة ليست وليدة ظروف آنية وإنما تعود إلى أكثر من عقدين من الزمن : أن يتظاهر الطلبة في ساحات الجامعة هذا شيء طبيعي وأن يرفض الطلبة الامتثال لبعض القوانين والمساطر هذا شيء عادي ولكن أن يعتدي الطلبة بشكل مباشر وجبان على الأساتذة فهذا ما لم نكن نتصوّره لأنه إذا فُقد الاحترام بين الطلبة وبين الأساتذة لم يبق للتعليم أي معنى، وما على الوزارة الوصية إلا أن تغلق الجامعة وتعوّضها بمشروع تجاري يدرّ الأرباح على الدولة بدل الإنفاق الذي لا يُثمر. العيب فينا نحن الأساتذة وليس في طلبتنا فنحن الذين أوصلنا الأمور إلى ما هي عليه اليوم ولو أننا أخذنا الزمام بأيدينا وابتعدنا عن الجري وراء الترقيات والمنح والامتيازات... ولو أننا لم نناصب العداء لبعضنا البعض، تاركين الإدارة تفعل فينا ما تريد لما وصل الأستاذ الجامعي إلى الوضعية التي آل إليها . أتذكّر جيدا عندما عدت من فرنسا مع مجموعة من الزملاء وساعدنا الحظ وبعض الأيادي البيضاء على الالتحاق بهيئة التدريس بكلية الآداب. كان يحدونا شعور جارف بالتغيير وإلى أن نكون من المساهمين في النهوض بهذا القطاع الحيوي من داخله ولكن سرعان ما اكتشفنا حقيقة مُرة هي أن هناك عادات وطقوسا وتقاليد في التدريس وفي تسيير الشّعب لا يمكن تجاوزها أو تغييرها. حاول الزملاء "اصحاب الدكتورة الفرنسية" كما كانوا يسموننا على مقاومة التقليد ولكنهم لم يستطيعوا إلى ذلك سبيلا لأن التيار كان أقوى منا . كان الأساتذة الجامعيون في كلية الآداب كما في الكليات الأخرى موزعين إلى فرق وشيع فمنهم الأساتذة المحسوبون على التيار الإسلامي ذوو المرجعية الدينية يعتبرونها هديهم ومنارتهم في كل ما يفعلون، منهم من كان صادق النية ومنهم من كان مندسّا بينهم يتحسّس الفرص لينمو ويترعرع كالنبتة الشيطانية، وكان منهم الأساتذة التقدميون، بعضهم يرفض الدين كمرجعية ونهج في الحياة ويعتبره أثقالا تعرقل حركة التقدم والتنوير الفكري وكان منهم الأساتذة الفرنكوفونيون المتشبّعون بالثقافة الفرنسية، وكنا نحن "اصحاب الدكتورة الفرنسية" الذين تخرجوا من الجامعات الفرنسية في التسعينيات وجعلتنا وزارة التعليم العالي ظلما في منزلة بين المنزلتين. خضنا صراعا مريرًا من أجل معادلة الدكتوراه الفرنسية على غرار باقي الأساتذة المتخرجين من الجامعات الأخرى في العالم وكان أوج النضال الإضراب عن الطعام لأكثر من شهرين دون نتيجة. كل مجموعة من هذه المجموعات كانت تدافع عما تعتقده مبادئ صحيحة ومثلى. كان الأساتذة الإسلاميون يخوضون صراعا قاسيّا مع الأساتذة التقدميين ويصفونهم بالعصاة وكان التقدّميون يدافعون عن معتقدهم ويصفون الإسلاميين بالمتزمتين و الظلاميين، أما الأساتذة الفرنكوفونيون فكانوا يجعلون أنفسهم في درجة أعلى ويعتبرون البقية الباقية من الأساتذة متخلّفين، وكنا نحن بدورنا في خصومات دائمة مع أساتذة السلك الثالث الذين كانوا حجرة عثرة أمام تحقيق مطالبنا المشروعة في معادلة الدبلوم، وكثيرا ما كانت الخصومات والتجاذبات تصل إلى درجة التشابك بالأيدي في الاجتماعات النقابية التي من المفروض أن تكون في صالح الأساتذة والتعليم العالي، كل مجموعة من هذه المجموعات كان لديها طلبتها المجنّدين من أجل تحقيق مآربها وحين يصل الأمر إلى أن يشرك الأساتذة الطلبة في صراعاتهم ويهيجونهم ضد مجموعة أخرى، يقل حين ذلك الاحترام وتنكشف عورات الأساتذة أمام طلبتهم فلا يبقى الأستاذ ذلك المربي الذي يحتذي به الطالب وإنما مصارعا في حلبة يحتاج إلى من يسانده. كل هذا كان يقع على مرأى ومسمع من الإدارة، التي كانت تتفرج على ما يقع من شنآن بين الأساتذة دون أن تتدخل ربّما لم يكن من مصلحتها أن يتوحّد الأساتذة فيما بينهم للدفاع عن مهنتهم ولتصحيح المسار المعوجّ الذي يسير فيه التعليم العالي . هذا الانقسام انعكس سلبًا على النقابة الوطنية للتعليم العالي فصارت النقابة نقابات : هياكل فارغة لا تمثل حتى الأسماء التي سميت بها. فمن يدافع عن كرامة الأستاذ الجامعي ؟. عادت الغلبة للأساتذة الإسلاميين لإيمانهم الشديد بمرجعيتهم وحسن تنظيمهم، وانكفأ باقي الأساتذة على أنفسهم لا يقوون على المواجهة وعندما جاء آخر إصلاح يحمل بين طياته برامج جديدة تتعلّق بتكوينات الماستر والدكتوراه وامتيازات لمن ينخرط فيه. انكب الأساتذة عليه في شغف حول من يظفر بماستر أو بتكوين من تكوينات الدكتوراه. وبدأ صراع جديد لا علاقة له بالإيديولوجيات بل بمصالح نفعيّة وأصبح كل أستاذ يفتح "ماستر" وكأنه يفتح باب السعد لعشرات الطلبة المجازين وهنا ظهر شدّ الحبل بين الأساتذة من جهة وبين الطلبة من جهة أخرى حول من يحق له الولوج إلى هذا التكوين العالي من البحث العلمي. وبدأت الزبونية والمحاباة تظهر عند بعض الأساتذة في اختيار الطلبة المترشّحين. ورأينا العجب العجاب في نتائج امتحانات الولوج وغاب الضمير واستتر، وساءت العلاقات بين الطلبة والأساتذة وشاعت في وسائل الإعلام الإلكترونية وفي مواقع التواصل الاجتماعي أخبار حول خروقات سافرة قام بها أساتذة مسؤولون على تكوينات الماستر فتشوّهت صورة الأستاذ الجامعي وأصبح الكل في نظر الطلبة غشّاشا وانتهازيّا وضاعت بين هذا وذاك مجهودات الأساتذة الأكفاء المعروفين بنزاهتهم وكفاءتهم في مجال التأطير و البحث العلمي. حتى طلبة الإجازة تجرؤوا على أساتذتهم وتحَدّوا الإدارة فعمدوا إلى تأخير الامتحانات فاستجابت الإدارة ونفذ الأساتذة الأوامر بل تجاوز الطلبة كل الحدود فطالبوا بتصحيح النقطة فتساوَوْا بذلك مع الأساتذة وأصبحنا بعد كل نتائج امتحان في مهرجان هزلي يسمى تصحيح النقط . في ظل هذه السيبة أصبحت الفصائل الطلابية الآمرة الناهية في الجامعة تًعقِد الحلقات وتقرّر في كل شيء : في طريقة التدريس وتواريخ الامتحانات وكيفية إجرائها وفي نتائجها ناهيك عن الفساد المستشري ليلا في الحي الجامعي، والإدارة نائمة عن كل هذا نوم أهل الكهف والسلطات العمومية تتصنّت وتتحسّس وتراقب من بعيد خشية الاصطدام ووقوع الضحايا في صفوف الطلبة، وما كابوس محسن فكري والبوعزيزي عن مخيّلاتهم ببعيد، مع كل هذا لا نستغرب ما وقع لزملائنا في كلية العلوم وربما يقع أكثر من هذا فيما يُستقبل من الأيام. إن كرامة الأستاذ الجامعي خط أحمر لا يجب لأي كان تجاوزه مهما كانت وضعيّته أو منصبه أو انتماؤه، لأن كرامة الأستاذ هي الشيء الوحيد الذي لا يمكن أن نفرط فيه، فنحن لسنا ملاك أموال وأطيان، وإنما ملاك أفكار ومشاريع ثقافية. إنهما حُبّان لا يجتمعان في قلب رجل التعليم العالي . الأستاذ الجامعي إطار سامي من أطر الدولة، وهو يُعدّ من النخبة ومن الطبقة الراقية من مثقّفي هذا البلد. على هذا الأساس يجب أن يتصرف الأستاذ الجامعي وهو يدرّس لطلبته أوفي تعامله مع إدارة المؤسسة الجامعية التي ينتمي إليها . وعلى هذا الأساس يجب على الأستاذ الجامعي أن يكون له دوره في النهوض بقطاع التعليم العالي والبحث العلمي، وأن يساهم في تصحيح المسار فلا يترك بذلك الساحة فارغة لأناس لا علاقة لهم بهذا القطاع الحيوي في حياة الأمة، يعبثون به كيف يشاؤون. ثم إن الأستاذ الجامعي ركن أساس في النهوض بثقافة مجتمعه وفكره، وعليه تقع مسؤولية الدفاع عن قضايا الأمة ومواجهة كل مساس بمكتسباتها مهما كلّفه ذلك من ثمن، بهذا كلّه يمكن للأستاذ الجامعي أن يصون كرامته .