حز في نفسي أن أرى مجموعة من الإخوة المدافعين عن استقلال الصحراء وهم يرددون على أعتاب المحكمة التي وقف أمامها مجموعة من المتهمين في قضية اكديم إيزك: "الصحراوي لا يهان والكريكرات هي البرهان". حز في نفسي رؤية شباب يردد كالببغاء شعارات جوفاء لا يفهم معناها. الكثيرون من هؤلاء كانوا يراهنون على حرب يعتقدون خاطئين أنها في صالح قضيتهم. المجازفة بالتصعيد كانت تتوخى إعادة القليل من الروح لأطروحة تحتضرن وتكريس بعض الشرعية لقيادة جديدة قديمة فهمت كيف تعزف على أوتار اليأس القاطن بمخيمات تندوف. هذا كل ما في الأمر. أبطال "الصراع" الحقيقيون: المغرب والجزائر، واعون تمام الوعي بأن المجتمع الدولي لن يقبل (في الفترة الراهنة على الأقل) بفتح أبواب حرب جديدة بالمنطقة. ومن هذا المنطلق تصرفا: أن يستمر الصراع على مستوى ديبلوماسي دون أن يصل إلى مجابهة عسكرية لا يمكن لأي كان التنبؤ بنتائجها. عين العقل إلى أن يصل البلدان في يوم من الأيام إلى حل يرضي الجميع. في انتظار ذلك، آن للإخوة الذين يدافعون على استقلال الصحراء الغربية أن ينظروا إلى الأمور بواقعية أكبر ربما قد تفيدهم في إيجاد مخرج يعطي معنى لنضالهم. البروباغندا لها حدود ومسح الدماغ كذلك. عالم السياسة الدولية لعبة لها قوانين لا تحترم السذج ولا تقبل "أغنان الخاوي". هل خروج البوليساريو من معبر الكريكرات هو إهانة لإخواننا الصحراويين؟ حتى نبقى في مستوى أولئك الذين رفعوا الشعار أعلاه (على فكرة كانوا يصرخون تحت حماية الأمن المغربي وهي نقطة في صالح السلطات المغربية). هل تراجع قوات الغالي ينتقص من قيمة أي كان؟ أبدا. إنه مجرد رضوخ لأمر واقع يفهمه العالم بأسره ما عدا أقلية صغيرة جداً قررت أن تصدق كذبها. ولهذه الأقلية يجب شرح بعض النقاط قبل "ما يفوت الفوت": - الصحراء الغربية ليست أرضا محتلة، بل هي أرض متنازع عليها حسب العرف الدولي. لهذا السبب، فإن مجلس الأمن وضعها في خانة المادة السادسة وليس السابعة التي كانت سترغم الأطراف بقبول حل كيفما كان نوعه. بعد أربعين سنة من النزاع لم يفهم البوليساريو، إلى حد اليوم، (أو ربما لا يريد أن يفهم)، أن التعامل مع الواقع كما هو سيجعله يستوعب أن الحل سيكون عن طريق التفاوض الذي يمر فقط عبر تنازلات. المغرب يبدو في هذه الحالة أكثر مرونة وقدرة على المناورة. فقد مرر خطابه (عن حسن نية أو بدونها فنحن في عالم السياسة وليس في عالم المبادئ) من حديث عن استكمال للوحدة الترابية إلى فتح نافذة الحكم الذاتي. هذا ليس تذبذبا كما تصوره بروباغندا البوليساريو، بل هو تكتيك لعب إلى حد الآن لصالح الأطروحة المغربية. - مقاربة البوليساريو الإيديولوجية لم تعد قابلة لإقناع أي كان. يكفي الاطلاع على مآل اليسار في كل مكان بالعالم لكي يفهم المرء أن هذا المسار يتجه وبسرعة نحو الاندثار (على الأقل بالشكل الذي ألفناه). الإعانات نضبت والدولة المحتضنة تمر بلحظة جد حرجة سياسيا واقتصاديا. الظرفية الحالية لا تصب في اتجاه إبراز العضلات. لذلك كتبت في مقال سابق أن "التبوريدة" التي قام بها "جيش التحرير...الخ" كانت دليلا على ضعف الحيلة، وليس برهانا على عودة الروح في جسد مشلول القرار (كما تبين فيما بعد). - في المغرب قضية الصحراء في يد المؤسسة الملكية. هي الوحيدة صاحبة القرار "ويكذب عليكم الكاذب إذا شي واحد" قال لكم غير هذا الكلام. هذه المؤسسة لها شرعية تاريخية تكفل لها القيام بتنازلات "مؤلمة" إذا عرف المفاوض كيف يناور للبحث على أقل الخسائر. المراهنة على إسقاط النظام، كما فعل عسكر الجزائر، هو ليس فقط رهان خاسر، بل هو لعب فيه الكثير من المجازفة غير محسوبة العواقب. الزمن أبان أن الملكية لا تزيد سوى قوة، وقضية الصحراء، ضمن عناصر أخرى، لها دور كبير في ترسيخ النظام المخزني بإيجابياته وسلبياته. - حينما خرجت إسبانيا فقد فعلت ذلك نتيجة للضغط المغربي عبر المسيرة الخضراء. أدبيات البوليساريو تعمل جاهدة على كتابة رواية أخرى فيها الكثير من الرومانسية بدون أن تولي أي اعتبار لفترة الحرب الباردة التي قسمت العالم إلى قطبين اختار المغرب أحدهما وهو الذي انتصر، واختارت الجزائر والبوليساريو القطب الذي اندثر بسقوط جدار برلين. هذه الاختيارات لها عواقب في الحقل الدولي، أو أن البوليساريو (مثل حاضنتها الجزائر) تعتبر أن التوازنات الدولية يتم تفصيلها على مزاج الجبهة. - اعتماد النموذج الجزائري في نضال شعبه ضد الاحتلال الفرنسي أو محاولة تقمص معاناة الشعب الفلسطيني لمقارنته بما يحصل في الصحراء الغربية هو خطأ منهجي؛ لأنه لا يأخذ بعين الاعتبار تاريخ المنطقة ولا العناصر الثقافية، وهي كثيرة، التي تربط شعوب المنطقة بعضها ببعض. - منطقة النزاع وبسبب ديموغرافيتها الضعيفة ليست لها مقومات دولة تمكنها من الاستقلال. حينما خرج الإسبان تركوا ما يناهز ثمانين ألف نسمة. أكرر: ثمانون ألفا. الأرقام الحالية، بما فيها تلك التي تضخمها البوليساريو، تبقى غير كافية باعتبار المساحة الشاسعة التي ستجعلها في كل حال من الأحوال منطقة غير آمنة في زمن الإرهاب العابر للقارات. هذا يعني أن الحديث عن الاستقلال اليوم هو غير منطقي، ويجب ترجمته على أن هناك فقط خيارين: الولاء للمغرب أو الولاء للجزائر. من خلال استقراء ناضج للنقاط الست المذكورة، يمكن لقيادة البوليساريو، ولأولئك الذين يسافرون في كل مكان بجواز سفر مغربي للدفاع عن استقلال الصحراء، التمعن والتفكير بهدوء تام في معاني الواقعية التي دعا إليها الأمين العام للأمم المتحدة. كلمة أخيرة إلى الأخوة من دعاة استقلال الصحراء الغربية (ليست لدي أي عقدة في استعمال هذا المصطلح الجغرافي)، الذين يحملون معاولهم لمهاجمتي على صفحات "فيسبوك" أو في مقالات دون حتى أن يفهموا النصوص التي أنشرها في الصحيفة "المخزنية" هسبريس، لهم أقول للمرة الأولى والأخيرة: كفى من المراهقة السياسية التي تحجب عنكم أهم حقيقة لا تريدون رؤيتها: الجزائر تدافع على مصالحها وبأقل تكلفة ممكنة، والمغرب موجود على أرض تغيرت معالمها الديموغرافية. المستفيدون من هذا الصراع، في الجهتين، معروفون بالاسم والهوية. "عيقوا أصاحبي" وابحثوا عن مخرج واقعي ينقذ ساكنة تندوف من الجحيم (والإهانة الحقيقية) الذي يعيشونه منذ أكثر من أربعين سنة. الشجاعة والنضج السياسيين يتجليان في القدرة على فهم متغيرات العالم والتأقلم معها. ما عدا ذلك فهو "أغنان الخاوي" الذي إن دل على شيء فإنما يدل على أنكم، مثلنا، مغاربة حتى النخاع. *إعلامي مغربي بإيطاليا