: المادة 97 من قانون الصحافة والنشر نموذجا معلوم من الفكر الدستوري الحديث بالضرورة، أن الأنظمة الديمقراطية الحديثة، تقوم على ثلاث سلط أساسية: البرلمان كسلطة تشرع القوانين التي من شأنها تنظيم الشؤون العامة والخاصة داخل الدولة، والحكومة باعتبارها سلطة تعمل على تنفيذ تلك القوانين، والقضاء بنوعيه، الدستوري والعادي، باعتباره سلطة تقضي بتطبيقها ونفاذها، مع ما في ذلك من مراقبة للسلطتين الأوليتين. وليس هناك من شك، في أن الاضطلاع بمهام كل سلطة من تلك السلط الثلاث، يتطلب من القائمين عليها نوعا من الدقة والإتقان في التعاطي مع مختلف القضايا التي تدخل في صميم أدوارها المحددة وفق مقتضيات الدستور. ولما كان الاعتقاد، في أوساط المهتمين بالمجال الدستوري، أن دور القضاء لا يستقيم بمعزل عن شرطي الدقة والإتقان المومأ إليهما، فإن الأمر خلافه بالنسبة للحكومة والبرلمان، باعتبارهما مجالين خصبين للتجاذبات السياسية والاستقطابات الحزبية والإيديولوجية، التي أضحت تفتقد بطبعها الاعتراف بمبدأي: الكفاءة والتكوين. وأجلى ما يتكشف فيه هذا المعطى الواقعي، هو مجال التشريع الذي يتراوح عمله بين الحكومة في إطار إعداد مشاريع القوانين، وبين البرلمان الذي يصادق على هذه الأخيرة، أو فيما يقدمه من مقترحات قوانين أخرى. فإعداد تلك المشاريع والمقترحات، ليس بالأمر الهين كما قد يبدو من خلال مسطرتها الدستورية التي أمست، في غالبها، من الناحية العملية، إجراءات شكلية روتينة لا تتطلب سوى بعض الوقت لاستنفاذها. ولعل من الأمثلة الحية على ذلك، هو القانون الصادر بتاريخ 10 غشت من سنة 2016، المتعلق بقانون الصحافة والنشر، والذي قُدم إلى البرلمان من طرف الحكومة كمشروع قانون، مع ما صاحب ذلك من نقاش ومشاورات بين هذه الأخيرة ومهني الصحافة والإعلام. وبالقراءة المتخصصة الحصيفة لمقتضيات هذا القانون، لا يسع قارئها إلا أن يسجل جملة من الملاحظات، سواء على مستوى الصياغة أو المضمون، والتي يبقى أهمها، ما سجلناه بخصوص المادة 97 منه، الناصة في فقرتها الأولى على ما يلي: "تحرك الدعوى العمومية باستدعاء تبلغه النيابة العامة أو الطرف المدني قبل تاريخ الجلسة ب 15 يوما على الأقل، يتضمن هوية مدير النشر وتحديد التهمة الموجهة إليه، ويشار إلى النص القانوني الواجب تطبيقه على المتابعة، وإلا ترتب على ذلك بطلان الاستدعاء". فمما يؤخذ من هذه الفقرة، هو أن طريقة رفع الدعوى العمومية أمام المحكمة في قضايا الصحافة والنشر، تتمثل في استدعاء مباشر يبلغه إما وكيل الملك أو الطرف المدني، على أن يتضمن ذلك الاستدعاء بعض البيانات تحت طائلة الحكم ببطلانه، أهمها: بيان "هوية مدير النشر". بيد أن ما قد يثار بخصوص هذا البيان، هو: كيف السبيل عندما يتعلق الأمر بارتكاب فعل مجرم بمقتضى قانون الصحافة والنشر، وبواسطة إحدى الوسائل المنصوص عليها في المادة 72 منه، والتي لا تتوفر على "مدير للنشر" ؟ وقبل معالجة هذا الإشكال، نورد مجموع الوسائل المشار إليها، والواردة بالمادة 72 المذكورة لارتباط مضمونها به، وهي كالتالي: الخطب، والصياح والتهديدات المفوه بها في الأماكن أو الاجتماعات العمومية، والمكتوبات والمطبوعات المبيعة أو الموزعة أو المعروضة للبيع أو المعروضة في الأماكن أو الاجتماعات العمومية، والملصقات المعروضة على أنظار العموم، ومختلف وسائل الإعلام السمعية البصرية أو الإلكترونية، وأية وسيلة أخرى تستعمل لهذا الغرض دعامة إلكترونية". وعودة إلى ذات الإشكال، ونزولا عند طبيعة هذه الوسائل، نورد بعض المفاتيح الكفيلة لتفكيكه، وهي كالتالي: حصَرَ المشرع، في المادة 97 أعلاه، طرق رفع الدعوى العمومية في قضايا الصحافة والنشر أمام المحكمة، استثناء من المبدأ العام المنصوص عليه في المادة 384 من قانون المسطرة الجنائية، في طريق واحد لا ثاني ولا ثالث له، وهو تبليغ "الاستدعاء المباشر" إلى المتهم، سواء صدر هذا الاستدعاء عن النيابة العامة أو الطرف المدني. يشترط المشرع في ذات المادة، ضرورة تضمين "هوية مدير النشر" في هذا الاستدعاء، وإلا ترتب عن الإخلال بذلك بطلان هذا الأخير، واعتباره والعدم سيان ؛ وبالتالي بطلان المتابعة من الأصل. وهذا النوع من البطلان، يوصف ب "القانوني" حيث لا مجال لإعمال سلطة المحكمة في تقدير إقراره، إذ يظل عملها كاشفا له ليس إلا، بخلاف البطلان "القضائي". وإذا كان هذا الشرط لا يثير كبير إشكال بخصوص الأفعال الجرمية المرتكبة عبر مختلف وسائل الإعلام ومؤسساته ؛ الورقية منها والإلكترونية والسمعية البصرية ؛ فإن الأمر خلافه بالنسبة لبعض الوسائل الأخرى، والتي نصت عليها المادة 72 أعلاه، ولا سيما: "الخطب أو الصياح أو التهديدات المفوه بها في الأماكن أو الاجتماعات العمومية"، أو "الملصقات المعروضة على أنظار العموم"، و"أية وسيلة أخرى تستعمل لهذا الغرض دعامة إلكترونية". وما يؤكد هذا الأمر، هو كون الجانب الزجري في قانون الصحافة والنشر، لا ينصب على قضايا الصحافة فقط كما يُتَوَهّم، وإنما يشمل قضايا النشر والطباعة أيضا (المادة 1 منه) دونما أي إطار إعلامي أو صحفي، مما تبقى معه تلك الوسائل المشار إليها في النقطة السابقة مندرجة ضمن: "قضايا النشر أو الطباعة". ومراعاة لهذه النقط جملةً، وجوابا عن الإشكال موضوع المعالجة، لا يمكن تحريك الدعوى العمومية في قضايا الصحافة والنشر أمام المحكمة، سواء من طرف النيابة العامة أو الطرف المدني، كلما ارتكب فعل من الأفعال الجرمية المعاقب عليها بمقتضى قانون الصحافة والنشر، مهما عظمت خطورته، بواسطة وسائل لا تتوفر على مدير للنشر، من قبيل: الخطب، والصياح، والألفاظ، والملصقات، وبعض الوسائل الإلكترونية كمواقع التواصل الاجتماعي: "فايسبوك"، و"تويتر". وبيان ذلك من عدة وجوه: إن المادة 97 المذكورة، جعلت من بيان "هوية مدير النشر"، أمرا شكليا لازما في كل استدعاء مباشر، سواء انصب على قضية من قضايا الصحافة، أو تعداها إلى قضايا النشر أو الطباعة. رب معترض على هذا المنحى، يعلل اعتراضه بنص البند 2 من المادة 95 من نفس القانون، والذي جاء فيه: "يعتبر الأشخاص الآتي ذكرهم فاعلين أصليين للأفعال المرتكبة عن طريق الصحافة، وذلك حسب الترتيب التالي: 1- (..) ؛ 2- أصحاب المادة الصحفية إن لم يكن هناك مديرون للنشر (..)". وهو ما لا يستقيم من وجهة نظرنا، لعدة اعتبارات أهمها: إن هذا المقتضى المُعترض به، يعتبر قاعدة موضوعية تهم جانب المسؤولية الجنائية، ولا علاقة له بالمساطر الإجرائية الواجب اتباعها لاقتضاء حق الدولة في العقاب، وهو ما اختصت به المادة 97 وبعض ما يليها من مواد. فضلا عن ذلك، فإن المشرع، ووفق ذات المقتضى، كان واضحا في تنظيم تراتبية المسؤولية الجنائية بخصوص الأفعال الجرمية المرتكبة عن طريق وسائل الإعلام، دون المسؤولية عن قضايا النشر والطباعة، بدليل استعماله للجملة التالية: "يعتبر الأشخاص الآتي ذكرهم فاعلين أصليين للأفعال المرتكبة عن طريق الصحافة"، ومفهوم الصحافة محدد على سبيل الحصر بالمادة 2 من نفس القانون، باعتبارها مهنة منظمة تتولى: "جمع الأخبار أو المعلومات أو الوقائع أو التحري أو الاستقصاء عنها بطريقة مهنية قصد كتابة أو إنجاز مادة إعلامية مكتوبة أو مسموعة أو سمعية بصرية أو مصورة أو مرسومة أو بأية وسيلة أخرى كيفما كانت الدعامة المستعملة لنشرها أو بثها للعموم". ومعلوم من قواعد علم الأصول بالضرورة، أن "السكوت في معرض البيان يفيد الحصر"، مما يدل على أن إرادة المشرع في المادة 95 الآنفة، اتجهت إلى عدم شمول تلك التراتبية لقضايا النشر والطباعة، وإلا ذكرها في معرض بيانه لتراتبية المسؤولية الجنائية في قضايا الصحافة. وترتيبا على ما سلف، يمكن الجزم بأن اختيار المشرع لإلزامية بيان "مدير هوية النشر"، كمقوم أساسي للاستدعاء المباشر، كان خطأ فادحا ؛ لما قد يُسببه من إفراغ جملة من النصوص القانونية المنصوص عليها في قانون الصحافة والنشر من محتواها النفعي، وذلك من قبيل، مثلا، التجريمات التي نصت عليها الفقرة الثالثة من المادة 72 من نفس القانون: التحريض المباشر على ارتكاب الجرائم المتعلقة بالقتل، أو الاعتداء على الحرمة الجسدية للإنسان، أو الإرهاب، أو السرقة، أو التخريب ؛ الإشادة بجرائم الحرب، أو الجرائم ضد الإنسانية، أو جرائم الإبادة الجماعية، أو جرائم الإرهاب ؛ التحريض على الكراهية أو التمييز. لذلك نقترح حل هذا الإشكال –الخطأ- وفق إحدى الصور الثلاث: إما حذف بيان إلزامية تضمين "هوية مدير النشر" في الاستدعاء المباشر، وترك الأمر إلى القواعد القانونية العامة المعمول بها، والتي كرسها القضاء بكل درجاته في أكثر من مناسبة ؛ وإما تغيير هذا البيان بما يتلاءم وتلك القواعد المكرسة، واستعاضته باشتراط تضمين "هوية المتهم" بالاستدعاء المباشر على صفة العموم دون تخصيص ؛ وإما تقييد هذا البيان بما يفيد عدم شموله كل قضايا الصحافة والنشر والطباعة، وذلك، مثلا، بإضافة عبارة "عند الاقتضاء" إلى المادة المذكورة، وجعلها على الشكل التالي: "تحرك الدعوى العمومية باستدعاء تبلغه النيابة العامة أو الطرف المدني قبل تاريخ الجلسة ب 15 يوما على الأقل، يتضمن تحديد التهمة الموجهة، ويشار إلى النص القانوني الواجب تطبيقه على المتابعة، وكذا هوية مدير النشر عند الاقتضاء، وإلا ترتب على ذلك بطلان الاستدعاء".