لم يحدث وأن وقعت ضحية لعملية سرقة منذ حداثة سني، ولكن لكل شيء بداية وكانت البداية في الشهر الماضي وأنا أغادر مكتب المحامي مع زميل لي. استغل اللص انشغالي في الحديث مع رفيقي، ومدّ يده إلى جيب المعطف ونشل منه هاتفي المحمول. لم يكن الهاتف ذا قيمة مالية كبيرة، ولكن قيمته في كونه هدية من قريبة عزيزة على قلبي، ثم إنه كان سهل الاستعمال وشاشته لا تتعب بصري. اعتدى عليّ شخص لا أعرفه ولا علاقة تربطني به. كان اعتداؤه مزدوجاً : استولى على شيء هو ملك لي، ثم أنه حرمني من جهاز أنا في أمس الحاجة إليه في تواصلي مع الناس. إنه النوع الأول من اللصوص : أشخاص يعيشون على فتات الناس، يسرقون جيوبهم وغسيلهم وأثاثهم وأشياء أخرى. أفعال تؤْذي ولكن ضررها محدود في الزمان والمكان، وعندما يسقطون في الفخ لا يرحمهم أحد، لا المارة ولا الشرطة ولا القضاء يُرمى بهم في السجون لمُدد قصيرة وبعد انقضائها يخرجون ليعاودوا الكرّة من جديد وهكذا دواليك. مهمّشون وقوارض يعيشون على فضلات المجتمع. ومن المفارقات العجيبة أنه في نفس اليوم الذي سُرِق فيه مني هاتفي المحمول، كنت أغادر مكتب المحامي وقد استدعاني مع ثلّة من زملائي الأساتذة إلى مكتبه لمناقشة منطوق الحكم الذي أصدرته المحكمة الابتدائية في قضية رفعناها ضد زميلنا رئيس الجمعية الاجتماعية. وكانت التهم الموجّهة إليه هي : خيانة الأمانة والتزوير في محضر رسمي والعبث بأموال الجمعية. تُهم أثبتتها النيابة العامة بالدلائل والحجج القاطعة. حكم القاضي بالتقادم. وقع هذا الحكم علينا كالصاعقة لم نصدّق أن القاضي حكم بالتقادم رغم أنه لا أثر له البتة. لم نرد أن نشك في نزاهة القاضي، ودفعنا بفرضية الخطأ في التقدير وعدم الفحص الجيّد لملف القضية. نصحنا المحامي بأن نحث النيابة العامة على الاستئناف قبل أن يفوت علينا الأجل المحدّد لذلك. ولكن بحمد الله وجدنا النيابة العامة قد فطنت لسوء تقدير القاضي وقامت بإجراءات الاستئناف. لقد استغل رئيس الجمعية ثقة المنخرطين وأعضاء المكتب الذي شكّله بنفسه ونهب أموال الجمعية وعندما طلبناه بردّ ما أخذه من أموال لم يأبه لنداءاتنا المتكرّرة مما دفعنا للجوء إلى القضاء. لا وجه للمقارنة هنا بين اللص الذي سرق مني هاتفي المحمول ورئيس الجمعية الذي سرق أموالنا. فأما الأول فلصّ صغير، يقتات من جيوب المارّة وأثاث بيوتهم أو من غسيلهم المنشور على السطوح. ضرره قليل وغالبا ما تقبض عليه الشرطة ويحاسبه القضاء حسابا عسيرا بدون رحمة أو شفقة، وأما اللص الثاني فهو من طبقة اللصوص الكبار يعيش بيننا، ويحترمه الجميع ويقدّرونه. ماهر في التنكّر ولبس الأقنعة، يتقدّم الصفوف الأولى للمصلين في المساجد ويتصدّر المجالس للوعظ والإرشاد إذا ما دعي إليها. لسانه لا يتوقف عن ذكر الله والاستعاذة به من الشيطان الرجيم يبدأ كلامه بالبسملة وينهيه ب إن شاء الله، بذلته الرسمية الجلباب الأبيض والطاقية البيضاء والبُلغة ولحية مرخاة لا يفتأ يداعبها بأنامله. إنه يمثّل نوعا من اللصوص الجدد الذين تقمّصوا دور التقي الورِع الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وكثيراً ما يسقط الناس في فخ الثقة بهم فيسلبونهم أموالهم بدون وجه حق هؤلاء اللصوص الجدد منتشرون في جميع القطاعات ولا يستثنى منها قطاع التعليم بمختلف أسلاكه. لهم شبكة من العلاقات تصلهم بأصحاب النفوذ مما يمكّنهم من الإفلات من العقاب وكثيراً ما يعجز القضاء على توجيه التهم إليهم ومحاسبتهم. هم أكثر الناس زيارة لبيت الله الحرام وبين كل حج وحج عُمرات وعُمرات يذهبون إلى الكعبة لكي يغسلوا عظامهم كما يقولون، وكأن الكعبة أصبحت مصبنة لغسل ذنوب هؤلاء وآثامهم. ومن يُدقّق في الأمر سيجد بأن الهدف من تلك الزيارات المتكرّرة إلى البيت العتيق هو هدف تجاري محض لقب واحد يجمعهم هو "سِيد الحاج" ومعه تنتفي باقي الألقاب الأخرى مهنية كانت أو غيرها. لا يتردّدون في دفع هبات مالية مهمة للمشاريع الخيرية لدرء غضب السلطات الدينية أو الإدارية الرسمية لكثرة معاملاتهم المشبوهة لقد اكتسبوا مهارات في فنون النصب والاحتيال حتى أصبحوا ينافسون غيرهم من اللصوص التقليديين الكبار بل وتفوقوا عليهم. كيف لا وقد جعلوا من الدين وثقة الناس بهم مطايا لقضاء مصالحهم. حتى الأحزاب لم يتركها هؤلاء بسلام. انتشروا في هياكلها وفي لجنها ومجالسها الوطنية، انتشار الوباء في جسم الإنسان، مستفيدين في ذلك من دروس الدعم التي وفّرها لهم اللصوص التقليديون الكبار ذوو التجربة الكبيرة في الانتخابات ودهاليز البرلمان. ويبدو أن الاستفادة كانت متبادلة بين هاذين الفرعين من اللصوص الكبار : أموال تضخّ في خزائن الأحزاب وسمعة طيبة مُفعمة بنفحات الدين الإسلامي الحنيف ونجاح مضمون في الانتخابات. كل هذا مقابل برستيج المقعد البرلماني وقضاء المصالح وحصانة برلمانية من كل عقاب أو متابعة والناس على دين آبائهم يثقون في المرشّحين المتديّنين الأدعياء ويصوتون عليهم ولعل أكثر الأحزاب التي عانت وتعاني وستعاني من أذى هؤلاء الأدعياء هي تلك الأحزاب ذات المرجعية الدينية، إنها بقبولها لعضوية تلك الشرذمة من اللصوص تُعرّض نفسها ولا شك لانتقادات لاذعة من الناخبين الذين منحوهم أصواتهم ومن خصومها من الأحزاب المنافسة. ولكن سرعان ما ينكشف المستور ويظهر أولئك الأدعياء على حقيقتهم ولا يبقى من الزّيف إلا تلك الصورة المشوّهة والممسوخة التي حاولوا من ورائها خداع الشعب والقيادات الحزبية والوطن. إنهم ليسوا كُثراً، أقلية قليلة من بين عشرات الملايين من المسلمين المغاربة الذين يحترمون تعاليم دينهم ويعملون جاهدين على الالتزام بها وحاشا أن نخلط بين هؤلاء اللصوص الملتحفين بالدين وغيرهم من المسلمين الآخرين وكم يؤاخَذُ تجار متديّنون وأرباب عمل ملتزمون وموظّفون سامون أتقياء بجريرة أولئك اللصوص الأدعياء. حتى أنه أصبح يُنظر إلى كل تقي ورعٍ على أنه متديّن دعيّ مزيّف وفي هذا إجحاف وظلم شديد لكل نزيه ملتزم بتعاليم دينه في هذا البلد. إن أخطر عدّو يترصّد بلدنا ليس هو إرهابيو داعش ولا الحركات المتديّنة المتشدّدة الأخرى فهؤلاء قد خبرت مؤسساتنا الأمنية بفضل يقظة وحنكة رجالها كيف توقفهم عند حدّهم. ولكن الخطر الحقيقي يكمن في أولئك اللصوص الكبار بمختلف ألوانهم السياسية والإيديولوجية، الذين ينهبون خيرات البلاد ويمتصّون دم الشعب إنهم دولة داخل الدولة واجتثاثهم يتطلب منا جميعا اليقظة والحس الوطني والشجاعة على الوقوف في وجه المفسدين. وصدق الله العظيم إذ يقول :"إن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم".