تجري في فرنسا استعدادات الانتخابات الرئاسية، وكل الكلام يدور حول انتظارات فرنسا ذات الأولوية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدبلوماسية والإستراتيجية.البرنامج الحكومي المتداول على طاولة النقاش المدني والإعلامي في فرنسا لا يمت بصلة لإشكالية التحالفات والخصومات والخوف من البلوكاج السياسي.النقاش حول مسؤولية الرئيس القادم عن فرنسا،هي الأهم .؟ كيفية اختيار الرئيس بروفايل الرئيس ثقافة الرئيس،تجربة الرئيس ،مؤهلاته وكفاءته، كتبه ( التي ألفها طبعا ) وأبحاثه، ونظرته للوضع عموما وكيفية تدبيره للإشكالات المطروحة ومنهجه في حل المعضلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدبلوماسية التي تشكل خريطة الحكم في الجمهورية.أما نقاش التحالف الحكومي فيشعل حيزا صغيرا من الاهتمام وتدور أسئلته في مدار بعيد عن أولويات الرئيس وأولويات الحكومة وأولويات الاقتصاد والصناعة والموقف من أمريكا ومشكل الهجرة والأقليات وما يجري في الشرق الأوسط. عودتنا الانتخابات في الدول الديمقراطية أنه غالبا ما يتم سحب قناعة المشاركة الحكومية بسبب عدم التلاؤم السياسي الذي ينتج عدم التوافق ولو على أجزاء صغيرة من البرنامج الحكومي، ليحدث ما يسمي ب"البلوكاج" السياسي وهي تسمية، ليست جديدة على الاصطلاح السياسي، ولا تخص الشأن السياسي المغربي وحده، بسبب انها استعملت حديثا في قاموسنا الإعلامي مع العديد من المصطلحات الأخرى المرتبطة بالعلوم السياسية ك"الدولة العميقة" و" لوبيات المصالح السياسية والاقتصادية" وغير ذلك، فهي مصطلحات معيارية تأسست على منظور معرفي مبني على ثقافة الاقتصاد السياسي وعلومه،بيد أنها آلية للتحكم توجد في سائر الأنظمة السياسية في العالم. لكن بكل تأكيد تنتهي كل التكهنات والاحتمالات العابرة بالانتهاء من فرز الأصوات وإعلان النتائج وصعود الرئيس إلى منصة الحكم وتبدأ توا تعيينات الوزراء نتيجة طبيعية لما أفرزته خلاصة النقاش من قبل بين الفرقاء ويكون الاختيار على مبدأ الاقتناع. لقد فاق حد التخمة نقاش المتبارين على الرئاسة الفرنسية وافرز تضاربا في الآراء ونقدا ونقدا مضادا وتشريحا ومقارنات بين الأشكال المتعددة للخطط والاستراتيجيات الحكومية التي سيعتمدها الرئيس المفترض للجمهورية الفرنسية،وكل ذلك من خلال الندوات واللقاءات والحوارات التلفزية والاستجوابات.امتلئ الرأي العام الفرنسي بكم هائل من المعلومات وأصبح كل فرد يمتلك فكرة جيدة عن مستقبل بلاده وامتيازات التدبير وفوائده على يد هذا الرئيس أو ذاك ،بل إن المواطن الفرنسي يعرف بالتدقيق ما يوجد في خبيئة كل وزارة من إشكالات وما ستقدمه من جديد يخدم المواطنين في حياتهم الاجتماعية.زبدة البرنامج الحكومي القادم تم تقديمها على بساط أحمدي لكل الفرنسيين بعد تقييمها وتشريحها أمام الرأي العام، من يتأمل السباق المارطوني الذي قطعه العثماني في نصف شهر تقريبا والنفس المقطوع الذي باشر به الرجل عمله ،يجد أن الأولوية كانت للتشكيل الحكومي على أساس التوافق والتراضي بين شركاء يصعب كثيرا إيجاد الرابط التواصلي النوعي بينهم خارج الحديث عن مصالح الحزب والأشخاص،فموضوع المشاورات انصب على هذا الموضوع والحق في الاستوزار ووزن الاستوزار وإكراهات التشكيل وما إلى ذلك.وفي خضم التطارح الواضح للمصالح الحزبية، يقفز سؤال الأولويات وبرنامج الحكومة الاستعجالي ومحلهما من الاهتمام الحزبي أثناء المشاورات وبعدها. فهل كانت هناك أولوية أثناء النقاش الذي دار في مداولات التشكيل، للبرنامج الحكومي؟ في المغرب وفي التجربة الحكومية المنتخبة الثانية سنة 2016 وفي سياق تجربة الانتقال الديمقراطي، عاش التعثر حوالي نصف سنة ولم يكن السبب إشكالية التصور المسبق للأطياف السياسية لبرنامج حكومي يلقى الضوء على الإشكالية الاقتصادية مثلا ؟ أو كيفية وضع إستراتيجية لتسريع مخطط يتجاوز الأزمة، حين لا يليق برئيس الحكومة (أي الحزب ذي الأغلبية) أن لا يوافق على مشاركة حليف ما،ويخلع نفسه منه ويبحث عن غيره ؟ فما يتناوله الشركاء خلال الحوار ينم بوضوح عن فكر سياسي سطحي ورؤيا ضيقة للواقع ؟ المارطون التحالفي الحكومي في نسخته الأولى والثانية،هو فعل سياسي هيمنت عليه روح الصفقة السياسية بمفهوم من يقول ؛ رابح – رابح،لا يمكن أن يدخل أحد حلبة الصراع من أجل لا شيء، الأولوية لكيفية التشكيل والتوافق وللأحزاب..؟ لا أعتقد أن أحدا من المشاركين في حوار التشكيل الحكومي في شهر مارس/أبريل 2017، طرح وفق المقاربة السابقة على رئيس الحكومة موقفه من بعض الإشكالات والقضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي بني عليها الحزب السياسي برنامجه الانتخابي ويشترط تنفيذها ؟ السياق الحواري دار حول الامتيازات السياسية والإرضاء والاستوزار؟ يصعب كثيرا تبرير موقف إيجابي من ذلك،خصوصا في سياق المصاعب التي واجهت الرئيسين الأول الذي تم إعفاؤه والثاني الذي توصل إلى تشكيل حكومي بالغ الصعوبة ؟ الأكيد أن تطارح هذه الإشكاليات الحكومية والأولويات،كان مبرمجا إلى ما بعد التصريح الحكومي. غير أن الأولويات الحكومية تفرض نفسها في كل نقاش وخصوصا في نقاش مشاورات التشكيل الحكومي، ليرى كل فريق الفريق الذي يلائمه ويمكن له أن يدعم مشروعه السياسي الحزبي في الحكومة. سياسيا إشكالية التعليم طرحت منذ سنوات معضلة حقيقية على عاتق الدولة بسبب الميزانية الهائلة التي تقتطع من برامج التنمية وتخصص للتعليم دون أن يكون لها أثر إيجابي على المجتمع، بل لها نتائج سلبية وتداعيات سيئة مستقبلا وخطيرة.لم يتم تداول هذا القطاع وكيفية إصلاحه بين الأحزاب المشاركة في التشاور الحكومي ولا مع رئيس الحكومة الجديد، لمعرفة أيها يمتلك مشروعا متكاملا لإنقاذ التعليم من التردي الذي وصل إليه وأيها مؤهل لتولي مسؤولية هذه الوزارة ؟ أما الإشكالية الاجتماعية فهي أعقد المشاكل،بما لها من تشعبات في كل قطاع وما يكتنفها من تطورات سلبية وبالأخص مستقبلها الغامض حول الشباب والتعليم والدراسة والصحة والشغل؟ أما بالنسبة للقطاع الفلاحي في المغرب، فقد كان من الضروري لرئيس الحكومة أن يقيم سياسة الوزارة طيلة مدة خمس سنوات الماضية ويتطارح إشكالاتها مع الفريق الحزبي الذي تحمل حقيبة وزارة الفلاحة، ويبدي نظره في البرنامج المستقبلي الزراعي وخصوصا المخطط المسمى "مخطط المغرب الأخضر" وما هي آثاره على الفلاح الصغير وفقراء البادية في المغرب ؟ وهناك العديد من النقط ذات الأهمية في مجالات وزارية أخرى تشكل نقاط عمل في مركز الثقل بالنسبة للحكومة لم يتم التداول بشأنها خلال التشكيل الحكومي ولم تطرح على مستوى النقاش الوزاري بعد وليست على قائمة الأولويات ولم ترد في التصريح الحكومي أمام البرلمان يوم الأربعاء 19 أبريل 2017. هناك تدبير حكومي سيمشي على أثر البرنامج الحكومي السابق، مما سيجبر الحكومة الحالية على التعايش مع التناقضات السياسية الماضية أولا وعند استئناف العمل الحكومي سيتم التعامل مع القضايا ذات الأولوية بمنطق الحاضر الغائب والمساندة النقدية من قبل الأحزاب ودعم الدولة المركزي.الحكومة التي سبقت حكومة العثماني لم يكن لها برنامج حكومي ذي أولوية، وكذلك هذه الحكومة التي يرأسها العدالة والتنمية مرة أخرى،لم تفصح لحد الآن عن أولوياتها.لعلها ستعتمد العمل الحكومي الروتيني العادي المتداول الذي يمشي وفق شروط فرضتها توازنات المرحلة سياسيا وتم تطبيقها على أنها برنامج حكومي ذي أولويات. الذي يتأمل خمس سنوات من العمل الحكومي التي مضت، يجد أن رئيس الحكومة السابق قضاها في الكلام والردود والخطابات الجوفاء والصراع الطيفي الحزبي، حتى داخل حكومته نفسها كان هناك صراع خفي على مستقبل كعكة الانتخابات. ولم يهتم بعمل وزرائه ولم يمارس رقابته عليهم،حتى أن بعض وزرائه اقتنص صلاحياته وهو في غفلة عن ذلك وقام بتنصيب بعض المقربين منه مدراء في وزارته دونما إذن من رئيس الحكومة وبعيدا عن إجراءات التنافس والتباري.وصلت القضية إلى يد القضاء الإداري الذي أنصف المتضررين وأسقط قرار الوزير بحكم غريب، أعاد من خلاله القضاء الإداري الاعتبار لرئيس الحكومة الذي كان في يده كل الصلاحيات للتدخل ولم يفعل. البرنامج الحزبي الذي قدم في انتخابات 2012 كان خارج التداول ولم يتم تفعيل أي فقرة منه، خصوصا الأولويات الاقتصادية والاجتماعية والإصلاح،وبرنامج حكومة العثماني يتحدث عن أولويات من بينها الإصلاح ، إذا لم يمر إلى التعامل معها في بداية مشواره الحكومية ،فسنعتبر ذلك مجرد كلام وخطاب سياسي انتخابي .أفتح القوس لأشير إلى مفهوم الأولية في التعريف الاصطلاحي والمعنى كي لا يقع خلط بين الأولوية وخطة العمل الحكومي،فالأولوية ليست خطة فقط وليست إستراتيجية وحسب وليست برنامج عمل حكومي استعجالي،بل هي"إشكالية" Problématique حسب المفهوم الفبري،وتوجد على رأس القضايا ذات الأسبقية الموجبة للتفكيك والحل والتنفيذ، لأن مستقبل البلاد يتوقف على تحقيق ولو نسبة من مجمل برامجها القابلة للتحقيق. هناك من يتحدث عن الأولويات الحكومية من باب تنشيط النقاش الإعلامي،وهي مقاربة تتعلق بالضمير السياسي والقيم الأخلاقية،وهو شيء لا علاقة له بمضمون برنامج الأولويات الحكومية في علاقته بتفعيل مضمون الديمقراطية التشاركية،التي بقيت حبرا على ورق. المجتمع المدني كان واعيا بذلك المرة السابقة ولم تنطلي عليه حيلة جره إلى نقاش فارغ باسم "المواطنة والشراكة الديمقراطية"، لذا رأينا كيف استقال في الولاية الحكومية الأولى من دوره في الحكامة المحلية ولم يسهم في حوار ما يسمى بالمقاربة التشاركية، لم يحمل يوما عرائض ويقول للمجالس الجهوية المنتخبة ولا للحكومة؛ هذا هو الإشكال وهذا هو الحل،لأنه يعلم مسبقا أن الصراع الدائر حكوميا ليس صراعا من أجل الأولويات الحكومية،ولكنه صراع من أجل الاستباقات والأسبقيات الانتخابية..؟ الآن يدعو رئيس الحكومة في خطابه قبل أيام مجلسه الوزاري إلى التفاعل والتعامل مع المجتمع المدني والأخذ باقتراحاته واجتهاداته في إطار مبدأ الشراكة في الحكامة والتدبير المحلي والمركزي؟ *أكاديمي باحث في العلوم السياسية [email protected]