حوار بالسيف والقلم (5) إن جوهر الخلاف مع الشيخ الفيزازي هو تكفيره لمخالفيه ولعموم اليساريين والاشتراكيين والديمقراطيين ، ثم التحريض على قتلهم بحجة تنزيل حكم الله في المرتد . ولا فرق في القتل أكان بيد السلطان/ولي الأمر أم بآحاد التكفيريين . فالقتل بسبب العقائد والأفكار مرفوض ومدان فكيف إذا كان بالشبهات أو تصفية الحسابات . فحين كفر الفيزازي الديمقراطيين واليساريين والاشتراكيين هل كان يستحضر خطورة فتاواه ؟ ولما حرض على قتلهم هل اهتزت مشاعره من هول الدماء وجز الرقاب ؟ أي مصير ينتظر المغاربة إذا افترضنا جدلا قتل "الكفار والمرتدين" ؟ ألا تكفر التيارات الدينية بعضها لبعض ؟ ألا يكفر السلفيون الصوفية والشيعة ؟ ماذا سيتبقى من المغاربة إذا طبق الفيزازي "حكم" القتل في اليساريين والاشتراكيين والديمقراطيين والصوفية والشيعة ؟ ألا يشكل هؤلاء جميعا غالبية الشعب المغربي ؟ هل من العقل أن يُكفر أحد جزءا من أبناء الشعب ويطالب بقتلهم ؟ ما الفرق بين ما جاء في البيان الذي وزعه التكفيريون قبل أحداث 16 مايو الإرهابية وبين فتاوى الفيزازي ؟ ألا يكفر جميعهم الديمقراطيين والحكومة ويحرضون على قتلهم؟ هل يمكن أن ينكر الشيخ الفيزازي ما أذاعه على قناة الجزيرة في موضوع تكفير الديمقراطية والديمقراطيين ؟ هل ينفي أنه هو من أجاب بتكفير الحكومة في حواره بموقع إسلام أون لاين ؟ إن الواقع لا يرتفع ؛ وما على الفيزازي إلا أن يكون واضحا في مواقفه لأن المراوغات ما عادت تجدي ولا حتى الترهات ، وهذه واحدة منها جاءت على يد الفيزازي ولسانه (إن البيان المشار إليه الذي وزع قبل ثلاثة أيام من التفجيرات ليس بيانا أصوليا ولا سلفيا ولا إسلاميا. هو بيان ما أراه إلا من صناعة الكحل أو أحد من أمثاله ليدخلونا السجن. وقد أفلحوا في ذلك ) . إن السجن أدخلك إليه لسانك وتنطعك يوم نصبت نفسك قاضيا وسولت لك نفسك تكفير الأبرياء وحببت لك التحريض على قتلهم تعطشا إلى الدماء . فأنا لم أتهمك بإصدار البيان إياه ولكن طلبت موقفك من مضامينه . وحسنا فعلتَ لما أقررت بعظمة لسانك ( البيان يا هذا ضلال في ضلال. وهو مكتوب مكذوب، إن لم تكن أنت الفاعل أو أحد الاستئصاليين الآخرين، فهو من بنات أفكار جاهل مجهول ليس له نصيب في علم ولا فقه ولا عقل... (فتاوى) من هذا النوع أولى بها مستشفى الحمقى والمجانين، لأنها ليست علما أصلا وصادرة عن شخص مخبول فاقد لوعيه... وأنا يا لكحل أكبر من أن تسألني التبرؤ من فتاوى المجانين !) . ولا بد هنا أن أبدي بعض الملاحظات : أ : أن البيان نشرته بعض الصحف الوطنية وبينت خطورته على أمن الدولة والمجتمع . فلم يكن منشورا سريا . ب : لا يعذر من يهتم بشؤون الدين والوطن بعدم الإطلاع على مضمون البيان . ج : عدم التصدي للبيان في حينه هو إجازة له أو تواطؤ مع مصادره ، لأنه ليس جهالة تستدعي الإجابة عنها بالسكوت . في كل الأحوال ، الشيخ الفيزازي حدد موقفه وإن متأخرا من البيان وأبدى براءته منه ؛ لكنه يظل مطالبا بتراجعه عن تكفير الحكومة وجزء من الشعب إن لم يكن معظمه حتى لا تنطبق عليه الأوصاف التي رمى بها أصحاب البيان من مثل "الضلال" ، "الحمق" ، "الجنون" ، "الخبل" "فقدان الوعي" . فالبيان والفيزازي كلاهما يكفران الحكومة ويحرضان على قتل "الكفار" من المواطنين . فانظر مع من تريد أن تكون ياشيخ الفيزازي!!! ولا بد هنا أن أذكّر الفيزازي بما سبق وكتبه في رده على جريدة المساء(25/5/2007) في موضوع التكفير بقوله ( أفيدكم علما بضرورة التفريق في الحكم بين الفعل والفاعل ، فقول "السلفيين" في تكفير الديمقراطية ليس واحدا . منهم من يكفر الفعل والفاعل ، أي الديمقراطي والديمقراطية ، ومنهم من يستعمل قواعد التكفير كما استعملها قضاة الإسلام قبل الحكم بالردة والكفر على صاحب الفعل . بمعنى آخر أن من أتى بكفر لا يحكم بكفره إلا إذا توفرت شروطه وانتفت موانعه ، ولذلك يقولون : ليس كل من وقع في الكفر وقع الكفر عليه ) ؟ فهل التزم الفيزازي بما أفاد وبيّن وهو يكفر اليساريين والاشتراكيين والحكومة ؟ فلماذا الإصرار على تكفير الحكومة وكل المخالفين في الرأي ؟ علما أن الأمر يتعلق بالرأي لا بالعقيدة ، إذ لم يجاهر أحد بكفره أو ردته .ولماذا الإصرار على لعب دور القاضي لا الداعية ؟ ألم يسأل الفيزازي نفسه هل دولنا وشعوبنا مطالبة بإيجاد أسباب الحياة الكريمة لكل المواطنين أم بنصب أعواد المشانق ؟ لنفترض جدلا أن ولي الأمر يستجيب لدعوة الفيزازي فيأمر بضرب أعناق الوزراء والموظفين السامين وكل المنتمين للأحزاب المشكلة للحكومة "الكافرة" وعلى رأسها الأحزاب الاشتراكية واليسارية والهيئات الحقوقية وخاصة اليسارية منها التي ظلت ولا زالت تطرح ملف المعتقلين السياسيين والجهاديين . ماذا سيتبقى من المغاربة ؟ وماذا سيكون عليه وضع المغرب في علاقاته الدولية؟ أليس من الخبل ما يقوله الفيزازي هنا ( وما نقلته هنا عن الإمام مالك في شرحه للحديث الصحيح يقطع دابر كل معارض أو معترض، ذلك لأن الاستشهاد بما في المذهب الرسمي للدولة هو عين الصواب وروح الحكمة. أعلم أن هناك من يدندن حول تطويع الخصوصية للدولة المغربية لصالح كل المواثيق الدولية أي سلخ هذه الأمة عن إسلامها وعن إمارة المؤمنين فيها وعن المذهب المالكي المرتضى بالإجماع الوطني لهوى في أنفسهم) ؟ هل يعلم الشيخ الفيزازي أن الشعوب الإسلامية قطعت مع ثقافة التكفير منذ قرون خلت ؟ وهل يدرك أن الثورات الشبابية قامت لتعصف بكل أنماط الاستبداد أيا كانت مرجعيته؟ سيكون من الأفيد دعوة الشيخ الفيزازي إلى الانفتاح على ما يكتبه مفكرون إسلاميون في موضوع الديمقراطية وحقوق الإنسان وتطبيق الحدود . ومن هؤلاء الدكتور فهمي هويدي الذي كتب مقالا بالسفير اللبنانية بتاريخ 4/7/2011 تحت عنوان " محاربة الكفار أم محاربة الفقر؟ " جاء فيه (أن تطبيق الحدود له شروط تكاد تكون مستحيلة وتعجيزية (كما في الزنى مثلا). وفى حالة السرقة، فإن تمام الوفرة لكل شخص شرط لتطبيق الحد، علما بأن بعض فقهائنا يذهبون إلى أن الحدود التي كانت ضمن آخر ما نزل في الإسلام. هي للردع والزجر بأكثر منها للتطبيق) .وأقول بالمناسبة للفيزازي ما قاله فهمي هويدي لمحاوره (وليته قبل أن يخوض في تفاصيل الأحكام فتح كتابا في الفقه ليدرك القاعدة التي تقول بأن الأصل في العبادات هو الإتباع وأن الأصل في المعاملة هو الابتداع. ولربما قرأ شيئا عن تغير الأحكام بتغير الأمكنة والأزمنة والأحوال، وغير ذلك من آيات عبقرية وحيوية الفقه الأصولي.). فالمذهب المالكي نفسه ليس مذهبا جامدا ولا مذهبا دمويا ،بل فيه من اليسر وسعة الاجتهاد والانفتاح على المذاهب الأخرى ما يسمح بتفاعله مع قضايا المجتمع ونوازله . ولنا في الاجتهادات الفقهية التي أغنت مدونة الأسرة في جوانب أساسية لترفع الحيف الاجتماعي والظلم القانوني اللذين عانت منهما المرأة لعقود طويلة بسبب فقه البداوة الذي حول الأعراف الاجتماعية إلى عقائد وأحكام فقهية . وعلى مدى عقود من النضال الذي خاضته المرأة المغربية لرفع الظلم الاجتماعي عنها ، لم نقرأ للشيخ الفيزازي إسهاما ولا اجتهادا يعضد جهود المرأة بفتاوى فقهية مستنيرة تشد من أزرها وتقوي حظوظها في التحرر من فقه البداوة وفتاوى النخاسة التي تتم باسم الشريعة الإسلامية السمحة إن الفقهاء مفروض فيهم أن يكونوا ضمير المجتمع ولسان حال فئاته المظلومة . والمذهب المالكي يؤسس لقيم الحرية والمساواة والكرامة . لهذا فإن خاصيتي الانفتاح واللين اللتين تطبعان المذهب المالكي سمحتا للاجتهاد المغربي بالأخذ من مذاهب أخرى وخاصة المذهب الحنفي فيما يخص ولاية الرشيدة على نفسها في الزواج الذي عارضته كل التيارات الإسلامية والسلفية الوهابية. وعلى اختلاف العصور كانت للمسلمين اجتهادات حتى مع وجود النص ، سواء اجتهادات منفتحة أو اجتهادات متشددة . ويهمنا هنا الاستشهاد بالنماذج المنفتحة التي تتطلع إليها الأمة لأنها تيسر لها أمور دنياها ودينها دون تعسير أو مغالاة ؛ وهذا ما فعله عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما خالف فعل الرسول (ص) في تقسيم سواد خيبر على الفاتحين بينما عمر لم يفعل لما فتح العراق . كما خالفه في أقساط الجزية ، إذ كان الرسول (ص) يأمر معاذ بن جبل بأن يأخذ من كل حالم دينارا كجزية . أما عمر فقسم الجزية إلى أقساط : الأعالي يدفعون 40 ، والأواسط يدفعون 24 ، والأداني 12 انسجاما مع أوضاعهم الاجتماعية والمادية . وكان لحس عمر الواقعي أثره في التشريع الإسلامي بفضل اجتهاداته ولو مع وجود النص كما في حالة استثناء المؤلفة قلوبهم من الصدقات رغم أن الآية القرآنية تشملهم . وكذلك في موضوع مساواة الأخ للأم بالأخ الشقيق في نصيبهما من الإرث رغم أن الأول يرث فرضا والثاني يرث تعصيبا . وغيرها من الاجتهادات التي أغنت الفقه الإسلامي وأبانت عن حكمة عمر في تعاطيه مع واقع أمته. لقد عالج فقهاء الأمة قضية الاجتهاد وضرورته علاجا مستفيضا ، وقعَّدوا له بما يخدم المصلحة العامة للأمة حتى وإن تعارض النص وتلك المصلحة كما نجده عند الفقيه الطوفي الحنبلي بقوله ( إذا تعارض النص مع المصلحة قُدِّمت المصلحة على النص ، قيل هذا افتئات على النص ، قال : هو تحقيق للنص ، لأن النص إنما أنزل ليحمي مصالح الناس ، قيل النص أدرى بالمصلحة لأنه جاء من عند الله أو من عند الرسول ، قال : النص ثابت والمصالح متغيرة ، وأخذها في الاعتبار اعتبار للنص كله وللحديث النبوي القائل : "أنتم أعلم بشؤون دنياكم" ) . ورصد التغير بالاجتهاد هو المطلوب في كل زمن . يقول ابن عابدين الفقيه الحنفي ( كثير من الأحكام يختلف باختلاف الزمان يتغير عرف أهله ولحدوث ضرورةٍ أو فساد الزمان بحيث لو بقي الحكم على ما كان عليه لزم منه المشقة والضرر بالناس ولخالف قواعد الشريعة الإسلامية المبنية على التخفيف ورفع الضرر ) . فهل الشيخ الفيزازي يتوخى مصلحة الأمة ويسعى لرفع الحيف عن الفئات المهمشة لما يفتي بالكفر ويحرض على القتل ؟ وهل يدرك أن المغاربة يطالبون بمحاربة الفقر والجهل والهشاشة ولم يخرجوا إلى الشوارع للمطالبة بتطبيق الحدود وجز الرقاب ؟ لنفترض جدلا أن الفيزازي تقدم للانتخابات التشريعية ، وهذا ما أتوقعه فاعله مع حزب العدالة والتنمية ، فأي برنامج سيتقدم به للناخبين؟ هل سيطرح عليهم خططا عملية لمحاربة الفقر أم تصورات لمحاربة الكفر؟ 2 سمت الداعية :يقدم الشيخ الفيزازي نفسه داعية ، لكن كتاباته تجعل منه قاضيا يصدر الأحكام ويعنف مخالفيه ، بل يمارس عليهم كل أشكال الإرهاب اللفظي والنفسي عبر التشنيع والتكفير والشماتة . وكلها أساليب لا تليق بالداعية الذي ينبغي أن يكون خلقه الإسلام ، فلا يحقد ولا يشمت ولا يسب ولا يلعن ولا يطعن . في رده على المختار لغزيوي قال الفيزازي (أحب أن أقول لأول مرة، إن الذين أدخلوني السجن سواء منهم من ساهم برأي كاذب أو شهادة زور أو بعملية الاختطاف أو له علاقة بهذا السجن إلا وابتلاه الله تعالى بما لم يكن له في الحسبان: ولا أريد أن أذكر الأسماء فبعضهم مات، وبعضهم في السجن الآن، وبعضهم سجن وفقد وظيفته وأهين وافتضح أمره، وبعضهم تقلص نفوذه إلى حد لا يطاق، وبعضهم عزل وقتل سياسيا لا تسمع له ركزا... حتى وسائل الإعلام التي رافقت الإدانة الكاذبة وتبعت (جيلالة بالنافخ) تحتضر إعلاميا مثل الأحداث المغربية التي سلط الله عليها منافسين مستقلين فقتلوها... كل هذا بفضل القنوت في جوف الليل ودعائنا على الظالمين الذي ليس بينه وبين الله حجاب. والبقية تأتي. فانتظرونا. {ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون، إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار} [إبراهيم: 42]) . وكذلك فعل في رده علي (اللهم من افترى علي في هذا فخذه إليك أخذ عزيز مقتدر، أسألك يارب باسمك الأعظم الذي إذا دعيت به أجبت وإذا سئلت به أعطيت أن تنتقم من الظالم عاجلا غير آجل ). إن الفيزازي هنا يشمت ويفرح بالشماتة . وهذا سلوك يتنافى مع تعاليم الدين وأخلاقه السامية التي تجعل المؤمن حقا لا يفرح شماتة في غيره ؛ وإذا نطق قال خيرا . قد يتعلل الفيزازي بأن هؤلاء الذين يشمت فيهم ليسوا مؤمنين بل "كفار" و "مرتدون" مادام حكمه فيهم هو نفسه قبل ما أصابهم من "مصيبة" أو "قرح" ، لكن حقيقة إيمانهم يعلمها الله وحده الذي يتولى السرائر . فالمؤمن الصادق لا يعنيه ولا يشغله شق قلوب غيره ، ويكفيه قول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم "يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة ثم يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن بره ثم يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن ذرة". ويكفينا نحن المسلمين أن تشغلنا عيوبنا وقلوبنا عن غيرنا ، إذ ليس لنا إلا أن نعامل الناس بما ينطقون به بألسنتهم . وهذا ما قاله خالد بن الوليد لرسول الله – صلى الله عليه وسلم -: "وكم من مُصَلٍ يقول بلسانه ما ليس في قلبه"، فقال – صلى الله عليه وسلم -: "إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم" [مسلم: المحلى ج11 ص220]. وصدق ربنا جل جلاله لما جعل الإطلاع على السرائر أمرا إلهيا لا قدرة للبشر على فعله ولا حق لهم على ادعائه ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ (ق: الآية 16). ومن يفعل خلاف هذا فقد غدا ممن ينسحب عليه قول الرسول الكريم (ص) -: "أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر" متفق عليه من حديث عبد الله بن عمر . ولا أظن الشيخ الفيزازي إلا فجر في خصومته وشماتته وهو يعلم قول الرسول الكرم (ص) » المؤمن ليس بحقود «. قد يحاجج الشيخ الفيزازي بأنه "أوذي" و"ظلم" واتهم بما ليس فيه وما لم يقله . في هذه الحالة هو أدعى إلى دفع التهمة وإثبات البراءة لا إلى السب والقذف والشماتة . وهذا ما ألزمنا به رسولنا محمد(ص) "إن امرؤ عيرك بما فيك فلا تعيره بما فيه" أخرجه أحمد من حديث جابر بن مسلم . وما قلناه عن تطرف الفيزازي وتكفيره لغيره يكاد يجمع عليه غيرنا . ولا يمكن أن تتفق أطراف متباعدة في المكان وزوايا النظر على اعتبار الفيزازي شيخا متطرفا وتكفيريا إلا إذا كان لديها ما يثبت قولها . ويكفي هنا تذكير الشيخ بما كتبته جرائد عديدة ومنها "المساء" التي انتقدها هو نفسه في مقالة من جزأين نشرا بتاريخ 24 و 25 /5/2007. وكان عليه أن يسأل نفسه : ما الذي جعل الصحف ، بما فيها التي يكن لها التقدير والاحترام ، تحشره ضمن شيوخ التطرف ؟ إن استقامة القلب دليل استقامة اللسان مصداقا لقول الرسول الكريم (ص) (لا يستقيمُ إيمان عبد حتى يستقيمَ قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه) رواه الإمام أحمد . وكان حريا بالشيخ الفيزازي ، وهو "يجاهد" لرد الاعتبار لنفسه أن ينأى بنفسه عن الكراهية والمقت ، فلا يقول إلا خيرا تنفيذا لتوجيه رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت) [متفق عليه]. إن الداعية يشرح للناس أمور دينهم ولا يفتنهم أبدا في دينهم ولا في دنياهم . وفتاوى الشيخ الفيزازي وحكمه على مخالفيه إنما هو الفتنة عينها . فكيف لمن يقدم نفسه داعية أن يحكم بالكفر على الحكومة المغربية وكل اليساريين والاشتراكيين ؟ فهل تراجع الشيخ الفيزازي عن تكفيره للحكومة أم لا زال على موقفه؟ لحد الساعة لم يصدر عن الفيزازي ما يفيد صراحة تراجعه عن تكفير الحكومة ؛ وكل ما صدر عنه إعلانه التراجع عن بعض مواقفه وأفكاره خلال فترة السجن دون أن يحدد طبيعتها باستثناء موقفه من الشيخ المغراوي الذي أوغل في اتهامه ، وكذا حزب العدالة والتنمية . ولا شك أن الفيزازي لازال مطالبا بتوضيح موقفه من فتاواه السابقة ضد خصومه وضد الديمقراطية والمؤسسات التشريعية حتى يتبين للمواطنين صدق مراجعاته وتراجعاته ، وأنه غدا مواطنا يدين بالولاء للوطن ولمؤسساته وثوابته بما فيها الخيار الديمقراطي الذي يعطي سلطة التشريع للأمة عبر ممثليها في البرلمان . فالأمة أدرى بمصالحها . أما الفقهاء فهم سوى جزء من الأمة وليسوا أوصياء عليها . مهمتهم شرح أمور الدين . أما تكفير الحكومة لأنها "لا تحكم بما أنزل الله" ، أو تكفير البرلمان لأنه "شريك لله في التشريع" فمسألة تستدعي الفيزازي ونظرائه من شيوخ التطرف إلى المراجعة ، لأن قولهم " لا حكم إلا لله " قول حق يراد به باطل . فمن جهة ، أن الأحكام التي يتضمنها النص الديني لا تتجاوز الستة أحكام بحيث سيواجه المسلمون منذ اليوم الأول من إدارة الدولة فراغا قانونيا فظيعا لا خيار لهم سوى أن يشرعوا لما يواجهونه من نوازل ومشاكل . ومن جهة ثانية يتجاهلون واقعة هامة في التأسيس لإجازة التشريع الإنساني ، بل في طلبه . وهذا واضح في قول الرسول (ص) وهو يوصي بُريْدة ( إذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزل على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله ولكن أنزلهم على حكمك ، فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا ) . فعلى مدى التاريخ الإسلامي قامت الأمة بالتشريع لنفسها من خلال الفقهاء والقضاة الذين أسسوا الفقه الإسلامي الذي هو ليس تشريعا سماويا بقدر ما هو تشريع بشري . أي تشريع الناس للناس . وهذا التشريع نجده في مجالات متعددة تخص حياة الأفراد كالأحوال الشخصية التي اجتهدت فيها الأمة فأنشأت نظام التطليق بواسطة القاضي ، بينما الوارد في القرآن هو الطلاق . كما شرعت الأمة أحوال التطليق ، مثل حالة الإعسار أو الضرر ، أو الغيبة . أما في المسائل المدنية فالأمة شرعت لنفسها كل أحكام المعاملات المدنية والتجارية كأحكام البيوع والإيجار والحكر والانتفاع والرهن والقسمة وغيرها . بل إن الله تعالى أشرك عبادَه في التشريع للدين ، وليس فقط للدنيا بما فيها المجال السياسي . وذلك واضح في الآية الكريمة ( يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حُرم ومن قتلَهُ منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتَلَ من النَّعَم يحكُمُ به ذوا عدل منكم ) المائدة : 95 . في هذه الآية يُنيط الله تعالى بعباده مهمة الحكم والتشريع في أمر ديني يخص علاقة العبد بخالقه . أما مجال التشريع البشري للقضايا الاجتماعية والسياسية وغيرها ، فقد جعله الإسلام شاسعا طالما يحقق المصلحة العامة التي حيثما وُجدت فتم شرع الله . والمصلحة العامة لا يحددها الحاكم أو الفقيه . من هنا وجب التنبيه إلى أن الاعتقاد بأن أحكام الشريعة يجوز أن تتغير أو تتبدل بما يتماشى ومصلحة الأمة ، ليس كفرا ولا شركا . فالمشرع لا يجعل نفسه ندّا لله تعالى ، وإنما هو يجتهد إما لرفع ظلم أو تحقيق مصلحة عامة أو تيسير على الناس . للرد والجدال بقية .