الدور الأول من الانتخابات الرئاسية يلهب حماس حملة انتخابية تكشف كل يوم عن حقائق جديدة جديرة بفيلم هيتشكوكي. آخر التطورات مرتبطة بالتقدم الكبير الذي أحرزه جان لوك ميلونشون، المرشح اليساري الراديكالي، عن la France insoumise الذي يكسب نقطا إضافية في استطلاعات الرأي ودخل كرقم صعب في معادلة الدور الأول بعدما أصبح يحتل الرتبة الثالثة بعد ماكرون ومارين لوبين مزيحا بذلك فرانسوا فيون، مرشح اليمين. استشعرت الطبقة السياسية هذا الصعود غير المرتقب لمرشح كان يبدو جزءا مألوفا من المشهد الانتخابي لا يشكل تهديدا حقيقيا، إذ لم يحقق في رئاسيات 2012 سوى 11 في المائة. ساعتها، كان يعتبرا سحابة صيف وإعصارا عابرا يسمع معه بعض الدوي وينتهي الأمر. في 2017، سيغير هذ المرشح المزداد بمدينة طنجة سنة 1951 إستراتيجيته، وسيستفيد كثيرا من الماركوتينغ ومن تقنيات التواصل، غير اللهجة العنيفة باستعمال لغة قريبة من الناس يضفي عليها لمسة شاعرية بالاستشهاد بهوجو وبالأبراج المناسبة وغير اللون الأحمر (لون الشيوعية بامتياز) بلون أزرق فاتح ووضع برنامجا قوامه الأرقام والواقعية، برنامج يقطع مع المراكز المالية الكبرى ومع الحلف الأطلسي ومع أوروبا بمحورها الكلاسيكي باريس/ برلين. كانت الصحافة على مختلف تلاوينها تشيد بالتقدم الكبير إلى أن خرج ماكرون، على غير عادته، يهاجم البعبع اليساري وينبه من خطورته. وعلى دربه، سار اليوم فرانسوا هولاند، الرئيس الفرنسي منتهية ولايته، الذي بدا غير مكترث بالحملة إلا فيما كان يرد أحيانا عن القصر الرئاسي من ردود توضيحية (إزاء فيون ومارين لوبين مثلا)، على دربه سار حين انتقد مشروع ميلونشون وأعطى ما يشبه الضوء الأخضر للتصويت على "مرشحه المدلل" ماكرون؛ وهو الموقف الذي اعتبر مجانبا للصواب لاعتبارين اثنين: الأول، لا يليق برئيس الجمهورية الاشتراكي أن يظهر للعلن موقفه ويعبر عن أفضليته لمرشح "بريء" من الحزب الاشتراكي ما دام اختار لنفسه "تحفظا مبهما " ومنذ انسحابه من السباق الرئاسي . الاعتبار الثاني يتجلى في عدم دعم مرشح الحزب الاشتراكي بونوا هامون الفائز في التمهيديات. ويبقى موقف هولاند المتذبذب عسيرا على الفهم؛ لأنه طلب من وزرائه التريث دون أن يعطي توجيها واضحا. ولذلك، فإن بعضهم –وهم أقلية- ساندوا هامون (نجاة بلقاسم وكريستيان طوبيرا مثلا)؛ في حين اتجه الآخرون إلى مساندة ماكرون (فالس وجان إيفا دريان مثلا). هذا التشرذم في المواقف جعل الملاحظين يستبعدون مرور الحزب الاشتراكي إلى الدور الثاني، ويستشرفون نهاية مأساوية لهذا الحزب، ويحملون في ذلك المسؤولية لهولاند بسياسته الهشة (أسوأ نسبة متدنية في شعبية الرجل بل وفي تاريخ الحزب الاشتراكي). لذلك، وانطلاقا من موقفه هذا، سيصعب عليه أن يحدد موقفا إذا أعطى الدور الثاني في النهاية الزوج ميلونشون/ لوبين. سيناريو شيكسبيري بامتياز!!! بذلك تصدق المقولة التي تنذر بنهاية السياسة على أيدي الساسة أنفسهم. من جهتها، لن تبقى اللوبيات المالية الكبرى مكتوفة الأيدي لاقتراب النيران اليسارية من مصالحها، ولن تسمح للدينامية التي خلقتها تجمعات المرشح الراديكالي بأن تذهب بعيدا، خصوصا أنها ترى كيف ينجح في التفاف الشباب بشكل مذهل ومعهم المتقاعدون الذين لم تتحسن أوضاعهم لا مع اليمين ولا مع اليسار التقليدي الممثل في الحزب الاشتراكي. دينامية لا تخطئها العين، ولا يمكن أن يبقى مناهضوها يراقبون دون التحرك بدينامية مضادة لا تجري أطوارها بالضرورة على حلبة السباق الانتخابي. غريب، إذن، موقف هولاند الذي كان يتبجح وإلى عهد قريب بضرورة قطع الطريق على الجبهة الوطنية لكونها العدو الأكبر للديمقراطية الذي يتهدد الجمهورية، فصام دهرا وأنطق حجرا بدعمه الخجول لماكرون ومهاجمته ميلونشون. موقف لا يخدم، في الواقع، إلا استمرارية "العهد الهولاندي" في حلة جديدة. وللتذكير، فإن ماكرون حين غادر سفينة الحكومة الاشتراكية تم نعته "بالخائن". غرائب لن تقوي إلا فيون المحافظ الذي "استعاد" عافيته. التخوين والتهم الجاهزة هي عنوان حملة انتخابية بدون طعم، ابتدأت على وقع فضائح فيون ومارين لوبين المالية إلى درجة الغرق. وحين صحت الطبقة السياسية وعادت إلى الحديث عن البرامج، غطت سحب كثيفة سماء الحملة وظهرت تحالفات غير طبيعية وتم التركيز على "الغول" اليساري وأخرجت من أدراج المتاحف والأرشيفات "قرائن" تدينه كوصفه بالشيوعي وصديق شافيز الفنزويلي والمدافع عن "المتكاسلين والمتقاعسين" وغيرها من القرائن التي لم تذهب إلى برنامجه ولم تشرح خطبه ولم تستفسر عن السر الكامن في تقدمه المريب. الأيام المقبلة ستحمل الجديد بلا شك، وستتغير الأرقام: لن يغضب "ابن مدينة طنجة" إذا لم يمر إلى الدور الثاني، سيتنفس الصعداء وسيقول في قرارة نفسه: سلموني قلما أوقع به على شهادة وفاة حزب الوردة. ربما، وفي تلك اللحظة، سيقول هامون: لو انضممت إلى ميلونشون لكان اليسار في الدور الثاني؛ لكن، في بلاد فرنسا الغرائبية، لا مكان للاحتمالات ولا التاريخ يرحم.