رغم كل ما حصل بيننا منذ زمن بعيد، لا زال كل واحد منا يعيش سفره الداخلي على إيقاع مجموعة من العلاقات: المخزن-السلطة والمجتمع. وداخل هذا الايقاع، ينمو عند كل واحد منا مزيدا من الغموض الذي قد يتحول أحيانا إلى حقد وكراهية. فهل نحن في حاجة إلى "براديكم" جديد، يمهد لنا انقلابا جذريا على المفاهيم الأساسية التي تخلصت منها حتى أكبر مدارس العلوم الاجتماعية؟ أم يجب أن نستمر في اجترار انجازات غيرنا والافتخار بثوراتهم الزراعية والتكنولوجية والتقنية والرقمية؟ إن الساعة السياسية (l'horloge politique) تؤرخ اليوم لعقل أحمق، يريد كل شيء ولا يريد أي شيء. عقل انطلق من التماهي مع "اليد الخفية السياسية" ليصل حد التوحد و"الاجتياف". صديقي اليساري، إن البعد الأول لتجربتنا هو المدرسة القاعدية، التي كان الكل يمقتها إلا من رحم ربك. ولا زلت إلى حد الآن لا أعرف لماذا؟ سخط عليها النظام، وكل التنظيمات الماركسية اللينينية، وسخطت عليها كل الأحزاب السياسية، الإدارية منها والديمقراطية واليسارية والاشتراكية. (وكل التفاصيل سنقرأها معا في الجزء الثاني من "مسار في تجربة اليسار"). أما البعد الثاني، فهو المساهمة في بناء "الحركة من أجل الديمقراطية" مع ثلة من المناضلين الأحرار، من خيرات أبناء الوطن. هذه الحركة التي اعتبرت "الديمقراطية" و"الاشتراكية" قيما تخلق، وتؤسس، وتكتسب... وأن السلطة السياسية عبر تاريخها أتاحت للبرلمان والنقابات والجمعيات الثقافية والفرق الدينية والصحف دورا في ظهور العمل الحزبي السياسي. وكذلك كان، تمت مواجهة هذه الحركة الفتية، واعتبرت حركة مخزنية، يقودها وصوليون وانتهازيون. (والتفاصيل سنقرأها معا في الجزء الثاني من كتاب "مسار في تجربة اليسار"). البعد الثالث، هو المساهمة في بناء اليسار الاشتراكي الموحد مع جزء ممن كان يعتبر مجموعتنا مخزنية، ووو... إنها مرحلة تحمل دلالة مزدوجة: العودة إلى العمل مع الأشخاص أنفسهم الذين يخونون بعضهم البعض، والانطلاق في رحلة الاكتشاف من جهة أخرى. العودة هنا ليست استعادة، بل هي اكتشاف جديد لواقع النقابة الوطنية للتعليم العالي، وإحباط التجربة الانتخابية بقبيلة بني زروال/ غفساي في انتخابات سنة 2009، حين استعاد العمدة الأزرق كرسي الرئاسة. (والقصة هنا سنحكي عنها بالتفصيل في الجزء الثاني من كتاب "مسار في تجربة اليسار"). صديقي اليساري، في كل هذه المحطات، كانت "اليد الخفية السياسية" تترصدنا، لكن من كان ينوب عنها في سجن علاقاتها النضالية والاجتماعية هم أبناء فصيلتنا. وأنا أسألك اليوم: أين هم؟ وعن ماذا يعبرون اليوم؟ هل لازالوا ثوريين؟ ماركسيين؟ لينينيين؟ اشتراكيين؟ ديمقراطيين؟ لم أعد أسمع عنهم أي شيء، لكن أخبرني بعض الأصدقاء المشتركين بأنهم تزوجوا وأنجبوا ولهم وظائف مهنية في العديد من الإدارات والمؤسسات، ويلتقون بين الحين والآخر لممارسة النميمة في الماضي وفيما جمعهم مع التاريخ من قصص وروايات. صديقي اليساري، تتوحد هذه الأبعاد الثلاثة في مسارات مركبة، ساعدت على تحويل الأشياء إلى صراعات وثنية، لم ترق أبدا إلى الصراع الإيديولوجي الواسع، ولم تستطع إنتاج أدوات العمل الدعوي والتنظيمي الحركي، ولم تأسس مرجعيتها ونموذجها إلا في النزاعات "التكفيرية" وليس التفكيرية. ولعل هذه الرسالة يا صديقي اليساري مقدمة للحديث عن تجربة في سياق الحكي عما عشناه في مساراتنا، نتلمسه من وشم على جسدنا. إنها عودة عبر الممر الذي لا يريد أن يتذكره أصدقاؤنا، ولا أعرف لماذا؟ لا يمكن أن ننسى ما اقترفناه في بعضنا البعض من إهانة وتجريح وتخوين وسب وشتم...لا لشيء، إلا للهروب من واقع الهزيمة والإحباط وإلصاقها على أكتاف الآخرين. صديقي اليساري، أنا الآخر أحترمك وأقدرك، لكن لا فائدة من تحليل الاحتمالات، ولا من تبرير التشريحات. ربما كان من الأفضل أن نحصي موتانا وشهداءنا وعائلات رفاقنا التي شردها القمع وأفزع حياتها، بدل البحث عن العشيرة للتناسخ. أنت تعرف صديقي اليساري...، أن هناك صورا مستحيلة الاختزال، ولا تحتاج مني أو منك إلى تحقق وجودها في فضاء الرؤيا. أبدا، هذا لا أتقنه، لكني قد أدعوك إلى شرب القهوة والحديث عما يجري في العالم ومن حولنا كذلك، لنقول لغيرنا: افهموا أولا ما يقع في الحسيمة (مثلا) قبل أن تحكموا. وإذا كان لا بد من الحديث عن السلطة السياسية في بلادنا، فلا بد من استحضار دلالات "مقارعة الخروف الأبيض بالتيس الأسود"، حتى سار الشورى والاستقلال، وحزب الاستقلال، ثم الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، والحزب الشيوعي المغربي، ثم حركة 23 مارس، وإلى الأمام، ولنخدم الشعب... دروسا للتاريخ ندرسها لطلبتنا في الجامعات والمعاهد العليا. وكم من غضب واجهنا بسبب دفاعنا عن هؤلاء أيام سيروراتنا السيكولوجية في بناء شخصيتنا النضالية. صديقي اليساري، هذه مقدمة لحديث لا ينتهي وإلى فرصة أخرى. من جوار المقبرة مكناس، الأحد 2 أبريل 2017