جذبتني نسمات الصباح العليلة إلى خارج سربي، فاستوقفتني ألوان الأزهار الزاهية، وكأنها نسيج طبيعي حَاكته أنامل العذارى، بدقة منقطعة النظير. أثار انتباهي فرَاشتان تتراقصان في غبطة وسرور، تلتصق أجنحتهما تارة وتنفصل أخرى، تتهاوى إحداهما فتتبعها الأخرى في انسياب سلِس، وكأن سعادة الدنيا تُنشر عبر أجنحتهما، تتابعت حركاتهما في تموج إلى الأعلى ثم إلى الأسفل. صرت في تلك اللحظة شارد الدهن، لا أفكر في تسديد ثمن فاتورة الماء والكهرباء، فتحررت من ضنك نقل الخضروات، واللحم، والأسماك، والزيت ... ألهمني الموقف الرائع، أنني ذَكر الفَرَاش، أراقص فراشة زاهية الألوان، ناعمة الملمس، لها أجنحة شفافة، وغاية سعادتي حينما تكلفني فراشتي بنقل رحيق الأزهار لأضعه برفق بين فكيها. فراشتي لم تحملني مالا طاقة لي به، لم تطالبني باقتناء شقة لأسدد ثمنها بالتقسيط عبر الأبناك التي تبتز الجيوب، كما أنها لم تقحمني في أسواق الأثواب الغالية التي تحاك منها الألبسة النسائية الفاخرة... رأيت في عالم الفراش ذاك، أنه لا حسد، ولا حرب، ولا مسؤولا ينهَب ويسلِب، يعِد ويكذِب، ولا هوس باستعمال الآلات الحديثة... وتساءلت عبر عالم الفراش الذي هو من جملة الحشرات غير الضارة، أسئلة لم أجد لها جوابا في تلك اللحظة، بل وحتى بعدها، ومن جملة تلك التساؤلات، لماذا عجز الإنسان عن تحقيق الأمن الذي يجعل الإنسانية تعيش في سلام ومحبة؟ لماذا لا تدافع الإنسانية جمعاء عن المعطيات التي تكون سببا في الالتحام والتضامن والأخوة ووو، تماما كما يتفق الفراش بغير قصد، ليكون مرعاه واحدا، وقضيته واحدة، لكن ألوانه وأنواعه تختلف؟ فلم عجز بنو البشر، ولم يستطيعوا أن يعتبروا من مخلوقات ضعيفة في مظهرها، لكن طريقتها في التعامل مع الحياة، أحسن بكثير من منهجية الإنسان في تعامله مع بني جلدته. استفقت من غيبوبتي الوردية على زعيق زوجتي، وهي تطالبني بجلب قنينة الغاز، وحفاظات لابنتي الصغيرة، وكيلوجراما من الدقيق الممتاز، فقلت في نفسي: تبا، ياليتني بقيت ذَكر فَرَاش. فسمعت زوجتي بعدها تقول: ياليتني خُلِقت فرَاشة.