إعفاء عبد الإله بنكيران واختيار سعد الدين العثماني لتشكيل الحكومة هل هي بداية لحلحلة الجليد السياسي أم استجابة لضغوط أحزاب سياسية خسرت الانتخابات والتي نجحت في فرض شروطها. أم هي بداية نهاية العدالة والتنمية ؟ وهل سينجح العثماني في مهمته التي عجز عنها بنكيران؟ يبدو أن مهمة العثماني الذي لا يتكلم كثيرا لن تكون مفروشة بالورود، نظرا لكون الدولة والأحزاب الأخرى لن ترفع "الفيتو" ضد العثماني كما فعلوا مع بنكيران نظرا لكون هذا الأخير بات رقما صعبا في المعادلة السياسية المغربية، وصار يتمتع بشعبية واسعة لدى نسبة مئوية كبيرة من الناس بسبب خطابه السياسي الشعبوي. اختيار العثماني قد يكون ايجابيا، لكنه لن يشكل ازعاجا أوتخوفا أكبر للدولة الذي يعتقد أنها قادرة على التحكم أكثر في شخصيته ، لأنه يفتقد إلى كاريزما وقدرة في التأثير في الناس مقارنة ببنكيران. المتتبع للشأن السياسي المغربي يتبدى له أن الانسداد (blocage) الذي مر به المغرب في عدم تشكيل الحكومة، يعود بالأساس إلى عدم رغبة الدولة في منح فرصة ثانية لبنكيران، حتى لا يتغلغل أكثر داخل السياسية المغربية، بل ومحاولة تحجيمه، وربما السعي إلى تجميده في المرحلة المقبلة، وعدم السماح بحدوث أي تطور من شأنه أن يفقدها قوتها لصالح حدوث منافسة سياسية، والسعي نحو تأجيج الصراع بين تيارين في حزب العدالة والتنمية وإضعافه، وربما إحداث انقسامات داخل الحزب ( يوجد على الأقل تياران داخل العدالة والتنمية: تيار يمثله عزيز رباح)، الذي لعب ببراجماتية عالية ونجح في تقديم صورة ايجابية لدى الغرب. فقد خطا خطوات ايجابية أنقذت البلاد من حالة الفوضى الخلاقة والتصادم بين الدولة وحزب العدالة والتنمية ، ولم يمثل أي مصدر لزعزعة الاستقرار أو تخوف للغرب مقارنة ببعض الحركات الاسلامية الأخرى في المنطقة العربية، مثل حركة "الاخوان االمسلمين". وبموجب الصلاحيات الدستورية المخولة للملك ، فإنه في حالة تعطل تشكيل الحكومة، وحتى لا تتعرض البلاد إلى منزلقات ، فإنه يحق له أن يعين شخصا ثانيا من نفس الحزب الأول الفائز في الانتخابات. وعلى الرغم من سعي بنكيران خلال المدة السابقة وعلى مدار أشهر لتشكيل حكومة مع عد ة أحزاب، إلا أنه فشل بسبب حالة التجاذب والرفض والمصالح الضيقة بين الأحزاب السياسية . السؤال الأساسي المطروح هو هل اختيار الملك لسعد الدين العثماني وإبعاد بنكيران يعود فعلا إلى عجز الأخير في تشكيل الحكومة؟ أم أن هناك أسبابا أخرى وراء الكواليس وأخرى تتصل بشخصية بنكيران نفسه، الذي بات – أعتقد - يمثل شخصية "سياسية" مهمة لها وزنها في البلاد، وتتمتع بشعبية كبيرة داخل الساحة المغربية؟ فهل تصريحاته السابقة التي أزعجت الدولة هي السبب في إبعاده؟ أقصد مفاهيم التحكم والتماسيح والعفاريت ودولة داخل دولة ( الدولة العميقة). إن مفهوم "التحكم" يحمل دلالات متعددة: العرقلة والتضييق أو التشويش والمراقبة من لدن نخبة أشار إليها بنكيران ضمنيا من دون أن يصرح بها؛ نخبة حاكمة متحكمة، فاسدة تحارب من يمثل هذا الشعب، رمز إليها بنكيران بالتماسيح والعفاريت. المعنى الأول (le sens propre) للتماسيح والعفاريت واضح، لكن المعنى العميق كما يرى ناعوم تشومسكي أو معنى المعنى أو المعنى البعيد (le sens figuré) كما يرى عبدالقاهر الجرجاني هو المجاز الذي يقصد به غير المعنى الحرفي؛ يستوجب هذا الاستقطاب خلق عدو للشعب، يزيد من لحمة هذا الشعب وبتعلقه بمن يدافع عنه. فإذا كانت النخبة المتحكمة هي من تحارب الشعب ومن يمثله، فهي عدو لهذا الشعب. ومن ثمّ، يجب الوقوف بجانب بنكيران؛ لأنه يمثل الشعب، ويحارِب ويحارَب من لدن هذا العدو. وهل اختيار العثماني وإبعاد بنكيران، يرجع إلى خلافات بين هذا الأخير والملك نفسه؟ أم أن بنكيران خطط مع أدمغة ومنظري العدالة والتنمية الانسحاب من الحكومة بذكاء حتى يترك الفرصة لحزبه الاستمرارية في تسيير الحكم ويشكل حكومة؟ فإن كان بنكيران شخصيا هو السبب الوحيد في عدم تشكيل الحكومة وتم إبعاده، فإن السيد سعد الدين العثماني بإمكانه تشكيل حكومة في أسرع وقت كما صرح لأحدى وسائل الإعلام الإسبانية. أما إذا استمر الرباعي الحزبي وأطراف أخرى في الدولة في فرض الفيتو ضده، فإن المستهدف هو حزب العدالة والتنمية. مما لاشك فيه أن بنكيران كرئيس للحكومة المغربية السابقة تبنى سياسة اقتصادية ليبيرالية رغم أنه زعيم لحزب مرجعيته إسلامية، لم يتعرض إلى ضغوطات من الغرب. بنكيران نجح ولكن نجاحه ظل محدودا، بسبب هامش المساحة والصلاحيات التي يتحرك فيهما جراء الاكراهات الدستورية،. كما أنه استطاع بشكل أو بآخر، في أن يدخل تجربة الحكم ويفهم ميكانيزمات الدولة المغربية، ويتوغل في مساحات لم تسمح لأي تيار اسلامي أن يلجها من قبله، كما استطاع أن يلعب دورا مهما في الحد من العمليات الإرهابية، رغم وجود المغرب في منطقة تشهد توسعا للجماعات الإرهابية، سواء كان في منطقة الصحراء الكبرى ومالي والنيجر، أوفي تونس والجزائر وليبيا وفي العديد من الدول العربية . كما أن حزب العدالة والتنمية نجح في التكيف مع المشهد السياسي بحيث استطاع تجاوز حالة الصراع الايديولوجي مع "اليسار والعلمانيين"، ودخل في الحكومة السابقة في تحالف مع أحزاب تسمي نفسها يسارية، عكس ما نراه في التجربة التونسية التي لا زالت تشهد حالة عداء كبيرة بين الاسلاميين واليساريين،. بنكيران الذي ساهم في إيقاف " حركة 20 فبراير"، وأنقذ المغرب من موجات "ثورات الربيع العربي"، استغلت الدولة وجوده ومررت ملفات تقشفية (الزيادة في الأسعار والتقاعد ...)، ربما لن يلعب في المرحلة المقبلة دورا سياسيا بارزا وحان الوقت لإبعاده. ومهما تكن الأسباب، فإننا نستطيع القول إن المشهد السياسي في المغرب سيعيش حالة من الترقب، لأن الرئيس المكلف الجديد سعد الدين العثماني لا نعرف مدى قدرته على اقناع الأحزاب السياسية في تشكل الحكومة القادمة. فهل سينجح في تشكيل الحكومة أم أن الرباعي الحزبي الذي أجهض تشكيل حكومة بقيادة بنكيران سيستمر في تثبيت الفيتو ضده؟ في هذه الحالة فالدولة لا تتحمل تكرار تجربة الانسداد، فيلجأ الملك إلى الفصل 42 من الدستور، هذا الفصل فيه ليونة تمنح الملك صلاحيات غير منصوص عليها صراحة في الدستور، وتمكّنه من اتخاذ قرارات باعتباره ضامن دوام الدولة واستمرارها، وستكون الغطاء الذي سيبرر إزاحة العثماني إذا كان هدف الدولة من البداية القضاء على تجربة العدالة والتنمية. أعتقد أن الهدف من إسقاط بن كيران شخصيا و إنهاء تجربة حزب العدالة والتنمية لا يخص المغرب وحده، بل يتجاوزه ليشمل تجربة سياسية واجتماعية عاشها العالم العربي منذ الخريف العربي، ولإعلان آخر تجربة حكم للإسلاميين في العالم العربي كما حصل مع تجارب مصر وتونس و وليبيا خاصة وأن الدول التي كانت تساند الإسلاميين ومنها دول إقليمية كتركيا وقطر بدأت تكف عن دعم التيارات الإسلامية. في هذه الحالة سيلجأ الملك إلى تعيين تكنوقراط متنكر في زي سياسي لتشكيل الحكومة لإنهاء تجربة العدالة والتنمية . * أستاذ جامعي بالكلية متعددة التخصصات / أسفي [email protected]