أيها الرفيق بعناق جُبلنا عليه معا حين نمسي وحين نصبح، أُقبلُكِ الآن كما قبلتك أمس قبل فراقنا وكعادتك لا تسألني عن حالة البرصة أو عن قيمة العملة، لأن الحرية والوطن والكرامة هي ثرواتك وانشغالاتك. أخي وصديقي ورفيقي عبد اللطيف أنت تعلم و نحن نعلم أن: «في أجمل بلد في العالم تذبح الكلمات قربانا للآلهة.. في أجمل بلد في العالم يجلد الضحك قربانا للآلهة آلهة من لحم ودم.. في أجمل بلد في العالم تداس الحياة وتقدس الحجارة، في أجمل بلد في العالم تمزق جلودنا بعصا من خطوط حمراء.. في أجمل بلد في العالم نعدم بسهام من خطوط حمراء.. في أجمل بلد في العالم دخلنا بوابة الحياة من بوابة الموت.. في أجمل بلد في العالم ها نحن نرابط منذ خمسين عاما في حناجرهم.. في أجمل بلد في العالم قال المستشار للآلهة: كمموا أفواههم ثم اقتلوهم بالجوع أو الظمأ أو بسيوف من خطوط حمراء تنحى شيعتهم وتبقى كلمتكم هي العليا وأنشد يقول: ما شئتَ لا ما شاءتِ الأقدارُ** فاحكُمْ فأنتَ الواحد القهّارُ و كأنّما أنتَ النبيُّ محمّدٌ ** وكأنّما أنصاركَ الانصارُ أنتَ الذي كانتْ تُبشِّرنَا بهِ ** في كُتْبِها الأحبارُ والأخبارُ في أجمل بلد في العالم يُداس الإنسان وتقدس "العمارية" والأصنام ونصلي باسم الموت، أخي عبد اللطيف، في هذا البلد الذي يقولون عنه إنه أجمل بلد في العالم طوقوني رفاقك ورفيقاتك بمسؤولية تأبينك، وأعترف أنه يصعب علي ذلك، لأننا تعودنا تأبين الموتى، وأنت في نظري لم تمت، بل ما زلت حيا تحلق كالنورس عاليا فوق أمواج العبث والميوعة ومستنقعات الرداءة التي لا نؤمن بسخافاتها ولا بطقوسها ولا بجمالها المصطنع، ولذلك لن أقوم بتأبينك بكلمات الحزن، ولن أبكيك بدموعي لأن العين بدون الدموع لن تراك غدا لتتقاسم مع الإبداع وأقلام وجهة نظر. فأنت الغائب الحاضر و لدي اليقين أنك معنا الآن، تراقبنا من مكان مابهذه القاعة، وتشاطرنا بابتسامتك هذا الحفل وليس التأبين. أخي عبد اللطيف، قد يقول قائل إن جسدك غير حاضر معنا، وهذا أمر لا يهم لأن روحك وفكرك حاضران معنا، وعليه سأحاورك وكأنني أراك وأجالسك كما تعودنا على ذلك، أريد تذكيرك بالكيفية التي تصرف بعضهم معك وأنت تعرفهم واحدا واحدا، حين أرادوا إنكار وجودك، والتقليل من شأنك متوهمين أن بإمكانهم محوك من التاريخ، والتعامل معك على أساس أنك مجهول من طرفهم. إنهم هم النكرات، ولست أنت، مهما كانت الأضواء الزائفة مسلطة على أجسادهم ليل نهار، هؤلاء الذين يقال عنهم: إنهم أهل الحل والعقد وأولي الامر. أود في هذا الصدد أن أقول لك ما أدلى إلي به أحد الأصدقاء عندما فاتحته في موضوع هؤلاء النكرات، لقد أنشد يجيبهم بأبيات شعرية كان قد تغنى بها الفرزدق في الإمام علي بن الحسين زين العابدين: هَذا الّذي تَعرِفُ البَطْحاءُ وَطْأتَهُ، **وَالبَيْتُ يعْرِفُهُ وَالحِلُّ وَالحَرَمُ هذا ابنُ خَيرِ عِبادِ الله كُلّهِمُ، ** هذا التّقيّ النّقيّ الطّاهِرُ العَلَمُ وَلَيْسَ قَوْلُكَ: مَن هذا؟ بضَائرِه، ** العُرْبُ تَعرِفُ من أنكَرْتَ وَالعَجمُ ما قال: لا قطُّ، إلاّ في تَشَهُّدِهِ، ** لَوْلا التّشَهّدُ كانَتْ لاءَهُ نَعَمُ أخي عبد اللطيف، أيها السخي المعطاء، أيها الوفي بالوعد والعهد، الجميع يعلم أنك ما نوديت في أي لحظة من اللحظات إلا كان جوابك: نعم، إذا نودي عليك إلى وقفة احتجاجية أو تضامنية أو دفاع عن مظلوم أو تقديم السند لحرية تعبير، كنت تجيب دون تردد بنعم، إذا نودي عليك لإلقاء محاضرة أو المشاركة في ندوة أو المساهمة ببحث أو مقال.. كنت تقول ها أندا.. وإذا كنت لا تبخل بقول لا للتحكم، وللظلم، وللفساد، والاستغلال، والتفاوت الطبقي، ولا لاستعباد المرأة.. فإنك كنت بذلك تقول نعم للحرية، وللعدل، وللمساواة، باختصار شديد كنت تقول نعم للحياة الكريمة لكل الناس دون استثناء. أخي عبد اللطيف، قال في حقك رفيق آخر، لقد أنشأت مجلة وأسميتها وجهة نظر، مضيفا، أن قليلين هم الذين أدركوا أبعاد هذه التسمية، إنها تسمية تدل على تواضعك وإيمانك بالديمقراطية والتعددية والنزاهة الفكرية، وقبولك الرأي الآخر واحترامه، فطبقا لاسم المجلة، فإن ما كنت تنشره فيها، لم يكن، بالنسبة لك، إلا قسطا من الحقيقة، ووجهة نظر من بين وجهات نظر أخرى، فأنت كما قال الرفيق، لم تكن تزعم أنك تمتلك الحقيقة، لإيمانك بأن من يدعي امتلاكها، فإنه يمهد بذلك الطريق لممارسة البغي والطغيان على المختلفين معه في الرأي. ولهذا السبب كانت صفحات مجلتك فضاء فسيحا للجدل، والسجال الفكري العميق بين الذين كانوا ينشرون فيها من مختلف المدارس الفكرية الموجودة، كما أنها شكلت المجال الذي أُتيحت فيه الفرصة المناسبة لجيل جديد من المفكرين الشباب الذين أخذوا على عاتقهم، برفقتك، إطاحة الطابوهات، والتطرق إليها، مثل، الجيش، والمخزن، والملكية، والتشيع في المغرب، والتطرف الديني، والطبقة السياسية الحاكمة في المغرب وما آلت إليه من تفسخ وانحلال وانبطاح.. أخي عبد اللطيف لقد أثارني رفيق مشترك لنا معا عندما قال لي في حقك إن عبد اللطيف كان أحمق، وعندما لاحظ دهشتي واستغرابي أوضح قوله كالتالي: كان عبد اللطيف يتسم بالحمق الثوري، أي ذلك الحمق الذي يؤدي بصاحبه إلى الخروج عن المألوف بغية تغيير العالم ضاربين عرض الحائط بكل المعطيات الموضوعية التي تكون منتصبة في طريقهم وتجعل التغيير يبدو مستحيلا. وأضاف الرفيق: لولا الحمق الثوري الذي يتحلى به البعض لما نجح ماو تسي طونك في مسيرته الكبيرة التي غيرت مجرى التاريخ، ولولا هذا الحمق الثوري لما تمكن هوشيمين، وتشي كيفارا وعبد الكريم الخطابي من انتصارات في ظروف كانت فيها شروط الانتصار مستحيلة ومنعدمة. أخي عبد اللطيف هؤلاء الذين أرادوا تجاهلك نسوا أنك لم تكن تحرث البحر، بل زرعت الأفكار في أجيال وأجيال من الذين درسوا على يدك وقرءوا لك، فأفكارك ستظل تتوارث وتنتقل بين الناس، فمثلك كالنار التي يغذى إشعاعها مئات المصابيح التي تضيء من حولها دون أن ينقص ذلك من نورها شيئا. رفيقي العزيز، يحق لك أن تنشد هذه الأبيات الشعرية وأنت أهل لها: " تُعد ذنوبي عند قوم كثيرة**ولا ذنب لي إلا العلا والفضائل وقد سار ذكري في البلاد فمن لهم **بإخفاء شمس ضوءها متكامل. إلى الذين يدعون إلى نحر حرية الفكر والآراء الحرة وفرض الفكر الظلامي والجزم بأن من اشتدت وطأته وجبت طاعته. إلى الذين يدعون إلى إعدام حرية العقيدة وفصل العنق عن أجساد كل من خالفهم في الفكر والرأي نذكرهم بأشعار أبي فراس الحمداني التي كنت ترددها : "ونحن أناس لا توسط بيننا ** لنا الصدر دون العالمين أو القبر تهون علينا في المعالم نفوسنا ** ومن يبتغ الحسناء لم يغله المهر رفيقي، لم أقل لك كل ما أريد والحديث بيننا لن ينتهي أبدا، ولنا معا ومع حملة الضمير في هذا الوطن مواعد مع التاريخ سنتحدث فيها عن تراثك في الكتابة والثقافة وعلوم السياسة والاجتماع والأنثروبولوجية. اليوم وغدا وإلى الأبد .... سنظل معك نحلم ونشق طريق الأمل والتغيير. لن أقول لك وداعا، لأنني لا أقدر على فصل الروح عن الجسد.. لأننا سنلتقي.