إن أصعب مهمة تعترض الباحث للإجابة عن هذا السؤال هي اكتساب منهج وظيفي ملائم ومناسب للسياقات التي تستعمل فيها مطرقة الهدم، حسب التعبير النيتشاوي. سأقترح عليكم، من خلال هذا المنبر (جريدة هسبريس)، مقالات رأي هي في الحقيقة أبحاث مكثفة ودقيقة حاولت فيها جاهداً أن أُشرّح النص الديني الإسلامي والمسيحي؛ فكمّ المعلومات والتحليلات الأنطولوجية التي سترونها هي عبارة عن مفكرة شخصية، تمثل تاريخي الصغير. لقد اكتشفت، من خلال دراستي للمؤلفات الإسلامية والحوارات التي يجريها الصحافيون مع الباحثين والمفكرين في الفكر الإسلامي وتراثه، أن لهم رأيا مخالفا لنبوة محمد وخاتيميتها كما عند الطائفة الأحمدية الإسلامية. من ثمّ، ارتأينا هنا أن ندلي بما قمنا به من دراسة تمحيصية للكتب المقدسة (التوراة / الإنجيل) عبر مقالات رأي، فيما قمنا به منذ أواخر تسعينيات القرن الماضي. لقد ابتدأنا في هاته السلسلة من المقالات بسؤال مهم هو: هل نبي الإسلام هو خاتم النبيين؟ فأجبنا عن هاته الإشكالية من خلال الفكر الأحمدي الإسلامي ونظرته إلى الخاتمية، دون أن نضيف حكمنا القيمي عن صوابية ما يقوله الأحمديون من عدمه، ثم انتقلنا مباشرة إلى إثارة سؤال آخر حول بشرى نبي الإسلام بالكتب المقدسة. إننا ندعو المثقفين إلى تعميم النقاش الديني ومقاربته بالكشف عن آلياته الثيولوجية التي صاغتها سلطة الفقيه حول ذاتها، وجعلت النظر الديني من تخصصها وحدها وحكراً عليها، وندعو المثقف الناقد إلى أن يهدم هذه الآليات، ليصبح النظر والسؤال متاحا، وليصير المواطن العادي غير محرج بالسؤال، بل بالمشاركة في النقاش ومسألة الفقيه؛ فقد ارتأى الفقهاء غلق باب السؤال والنقد والتناظر لطمس عقل الإنسان والحد من تأمله وتوظيف قدراته العقلية التحليلية، فتم بذلك وعبر سيرورة تاريخية ما سنطلق عليه أخيراً "احتكار الحقيقة". لذلك، يتوجب على المُثقفين مُحاربة المُتنكرين للحقيقة، وأن يتجرؤوا على وضع أصبع اليد على مناطق الخلل الساخنة في الفكر الديني أدولجته على حد تعبير العروي، وإعادة سرد أحداث مشينة وقعت في الماضي، كان أبطالها "مبشرون" و"معصومون" و"مهديون"، و"متنبئون".. كي يعلم الناس بأن الدين إنما يصبح مقدسا ليس لأنه كذلك أصلاً، بل لأن للسلطة رغبة في أن يكون كذلك لما قد يمنحها من قوة كمصدر لشرعيتها ولهذا تحميه. إن الوقت ملائم الآن لكل مثقف يبتغي امتحان نفسه وقدرته ومبادئه وجرأته أن يخرج عن الصمت، ويصرخ في وجه اللصوص الدينيين وأن يتخلص من فوبيا غضب الحاكم والسماء. أولاً: نبوة إكثار النسل وخطأ المُسلمون في تفسيرها جاء بسفر التكوين (17: 20) "يميئود ميئود" (= أكثره كثيراً جداً، عبر جمع قيمة الأحرف)، أي "أجعله أمة كبيرة"، وهذه نبوة عن نسل إسماعيل. لقد ترجمت هذه الفقرة الكتابية إلى السريانية واليونانية والفارسية واللاتينية قبل ظهور نبي الإسلام. وهذه الفقرة تقليد متناسق بالنسبة إلى نص الكتاب المقدس في الشرق والغرب على حد سواء، مع نتيجة فحواها أنه لا توجد فروقات في النص البتة، ولا حتى في التشكيل، لأنه كله صحيح وليس محرف كما يدعي المدعون، كذلك لا توجد مؤثرات في المعنى. إذن، فالداعي إلى اتهام الكتاب المقدس بالتحريف هو غياب أي تلميح إلى نبي الإسلام محمد بالتوراة. إن عبارة "أمة كبيرة" الواردة في (التكوين 17: 200) لا تعني ضمناً شعباً يمتلك نبوة أو شريعة، بل فقط أمة كبيرة العدد، كما يقول الكتاب المقدس في الإشارة إلى الوثنيين "أمما أكبر وأعظم منكم" (التثنية 11: 23)، كذلك فعبارة "يميئود ميئود" (= أكثره كثيراً جداً) تعني ببساطة "على نحو مفرط"، ولو كان هناك أي تلميح في الآية إلى محمد لوجب أن تكون بالتالي: "و سوف أباركه يميئود ميئود"، فحينها كان ممكن أن يتعلق هذا المتعلق بخيط العنكبوت فيها؛ لكن والحق يقال، كون الكتاب المقدس يقول: "أكثره يميئود ميئود"، فهذا لا يشير ضمنياً إلا إلى مجموعة كبيرة عددياً. فنبوءة إكثار النسل لإبراهيم، وجعله الشعب المحتفى به (المُختار حسب بعض القراءات التوراتية) إنما هي إشارة فقط إلى بني إسحاق، وهذا لا يعني أنه ليست هناك مباركة لإسماعيل وبنيه كما يعتقد. وتتوضح هذه المسألة في البركة التي أعطيت له فيما بعد، "لأنه بإسحاق يدعى لك نسل" (التكوين 21 : 12) ومعنى وعد الله لإبراهيم هو أن نسل إسماعيل سوف يكون كثيراً لكنه لن يكون مُبرزاً ولا غرضاً لوحي إلهي، فهذا هو معنى "يُدْعَى" كما هو الحال في الفقرة الكتابية التي بارك بها يعقوب أبناء يوسف: "وليدع عليهما اسمي واسم أبوي إبراهيم وإسحاق" (التكوين 48: 16)، أي أن يشهد بهم ويُعلَم، ثم بين إسحاق أن تلك البركات التي وعد بها إبراهيم والتي من جملتها أن يكون في بنيه شريعة الله، كما وعده في نسله وقال: "و أكون إلها لهم" (التكوين 17: 8)، ويوضح موسى بن ميمون في الرسالة اليمنية أن "اعتماد المُسلمين على وجود اسم محمد في التوراة يحوي مغالطة كون القرآن ينص أن الاسم الموجود في التوراة هو أحمد وليس محمد، وبالتالي ليست لها قيمة أحرف "يميئود ميئود" العبرية، فهي لا تساوي مجموع قيمة أحرف محمد". ثانياً: نبوءة البارا قليط ومعناه وردت كلمة "باركليط" حرفيَا - باراكليتوس parakletos - في العهد الجديد، وبالتحديد بإنجيل يوحنا والرسالة الأولى للقديس يوحنا، خمس مرات فقط، أربَع مرات من الإنجيل ومرة واحدة في رسالته الأولى، ولم ترد ثانية في بقية العهد الجديد، وفيما يلي الظروف التي تحدث فيها المسيح عن هذه الكلمة. فقبل القبض على المسيح ومحاكمته، وفي لقائه الأخير مع تلامذته، أخذ يحدَث تلاميذه، بعد أن كشف لهم حقيقة علاقته بالأب، ووحدة الابن والأب في الطبيعة والذات الإلهية لله الواحد، ووجوده الأزلي السابق لخليقة العالم (إنجيل يوحنا 14: 17)، عن اختفائه عنهم بالموت جسدياً ثم ظهوره لهم بعد قيامته فقال لهم: "بعد قليل لا يراني العالم أيضاً وأما أنتم فترونني.. إني أنا حي فأنتم ستحيون" (يوحنا 14: 19)، وأيضاً نقرأ الأمر نفسه في يوحنا (16: 16) "بعد قليل لا تبصرونني ثم بعد قليل أيضاً ترونني لأني ذاهب إلى الأب"، بل إن الأمر لم ينته هنا في معرفة البارقليط وتعريفه، إذ يقول المسيح: "فقال قوم من تلاميذه بعضهم لبعض، ما هو هذا الذي يقوله لنا؟ بعد قليل لا تبصرونني ثم بعد قليل أيضاً ترونني ولأني ذاهب إلى الأب"، وفي أثناء حديثه الطويل مع تلاميذه عن إرساله للروح القدس الذي وصفه بالبارقليط، أي المعزي والمدافع أو المحامي، يقول: "وأنا أطلب من الأب فيعطيكم مُعزيا آخر - allon parakleton - ليمكث معكم إلى الأبد روح الحق الذي لا يستطيع العالم أن يقبله لأنه يراه ولا يعرفه، وأما أنتم فتعرفونه لأنه ماكث معكم ويكون فيكم، لا أترككم يتامى، إني أتي إليكم" (إنجيل يوحنا 14 : 16 - 18)، ثم استخدم يوحنا بعد ذلك تعبير "الباراقليط"parakletos واصفا فيه المسيح كالشفيع والمحامي، فقال: "يا أولادي، أكتب إليكم هذا لكي لا تخطئوا، وإن أخطأ أحد فلنا شفيع parakleton عند الأب، يسوع المسيح البار، وهو كفارة لخطايانا، ليس لخطايانا فقط، بل لخطايا كل العالم أيضاً" (رسالة يوحنا الأولى 2: 1 - 2)، وبذلك يكون البارقليط الأول هو يسوع المسيح نفسه، والبارقليط الآخر هو الروح القدس. الكلمة اليونانية هي parakletos من الفعل "باراكليو par- akaleho ومعناها parakeletonnوجمعها parekloun وكلمة parakletos اسم مفعول، وتعني في أصلها اللغوي "المُستعان به called to one side"، وقد جاءت في الترجمة السبعينية في سفر أيوب (16: 3) في اسم الفاعل بصيغة الجمع - في وصف أصحابه الذين جاؤوا إليه في كربه: "مُعَزُون - parakletres - مُتعُبون كُلكم"، وتعني الكلمة، في معناها العام، في الكتابات الأدبية الكلاسيكية اليونانية قبل الميلاد، "شخص يُستدعى للمساعدة، يُستدعى ليقدم مساعدة، بمعنى مساعد في المحكمة، أي "محام" قانوني أو مستشار للدفاع، كما استخدمت بصيغة المبني للمجهول بمعنى "مُستدعى"، وهذا المعنى القانوني الفني هو الغالب في الاستخدام وتقابله كلمة "محام" أو "مستشار" أو "وكيل دعاوي"، كما استخدمت بمعنى شفيع أو وسيط أو معين بصورة عَامة. * العضو المكتب التنفيذي لمركز الدراسات والأبحاث الإنسانية.