(1) ما تزال كلّ المعطيات والمؤشّرات والوقائع ترجح عندي أن الأحزابَ التي يقبل النظامُ المخزني بها في "لعبته الديمقراطية" لا بد أن تكون أحزابا مروّضَة، كثيرا أو قليلا، لتخضعَ وتسمع وتطيع، ولتفهم بالإشارة والتلميح قبل العبارة والتصريح، ما يحبه المخزنُ وما يكرهه، وما يقبله وما يرفضه، وما يسُرّه ويطمئنه وما يغضبه ويثيره. فالأحزاب اللاعبة في الساحة السياسية، التي رسم النظامُ حدودها، وفرض معالمها، وأثّث فضاءاتها، لا تنفك عن الجرثومة المخزنية، كثيرا أو قليلا، حسب المدة التي استغرقها كلُّ حزب في الترويض، وحسب الأشواط التي قطعها كل حزب على طريق "التّمَخْزُن". فالأحزاب اللاعبة وفق القواعد التي يفرضها النظامُ المخزني، والتي ليس عندها اعتراض ولا احتجاج، ولا تشكيك ولا رفض ولا انتقاد، هي كلها أحزاب مخزنية من حيث المبدأ، لكن مَخْزَنِيَّتَها درجاتٌ، تتراوح بين الدرجة الابتدائية الأولى، حيث يكون الترويض في بدايته، وبين الدرجة العليا، حيث يكون الترويض قد بلغ غايته القصوى، وأصبح المُرَوَّض بموجبه مقبولا عضوا كامل الأهلية في بيت النظام، ليس في ولائه أدنى شك، ولا في استعداده لخدمة "الأعتاب الشريفة" أي ارتياب، ولا على إخلاصه ووفائه أيُّ تحفظ. وحتى تكون المفاهيمُ واضحة، وجبَ أن أذكّر أن النظام المخزني، عندنا في المغرب، نظامٌ سياسي قوامُه ملكية وراثية تنفيذية، حيث الملكُ يسود ويحكم بسلطات شبه مطلقة-إن لم نقل مطلقة-وفق دستور مكتوب ممنوح و"دستور عرفي" غير مكتوب، يجر وراءه تجارب قرون عديدة من أساليب الحكم السلطاني المطلق، فضلا عن الطقوس والعادات والتقاليد، منها ما بقي على عتاقَتِه، ومنها ما داخلته بعض التجديدات والترميمات والزيادات، التي فرضها العصر. والملكُ في هذا النظام، ووفق النصوص الدستورية والقانونية، علاوة على الممارسات العرفية، لا يخضع لمحاسبة، ولا مراقبة، ولا مراجعة، ولا تملك أية جهة، ولا أي مؤسسة، أن تنتقد سياساته، أو تحاسبه على قراراته، أو تعترض على اختياراته. أما مؤسسات الدولة، سواء الناتجة عن الانتخاب أو الناتجة عن التعيين، فكلها في خدمة المؤسسة الملكية، إما مباشرة، أو من خلال وسائط. والحكومة بكل مكوناتها إنما هي أداة من أدوات الملك في الحكم، تطبق برنامجه، وتنفذ سياساته، وتأتمر بأوامره، وتنتهي بنواهيه. (2) حزب العدالة والتنمية حزبٌ سياسي لا غبار على مخزنِيّته، ولا على ولائه للنظام، من قنة رأسه إلى أخمص قدمه. وهذه الحقيقة معروفة ومشهورة، ولا تحتاج إلى برهان ولا بيان. وما يزال المخزنُ بإسلاميّي (حركة الإصلاح والتجديد)، التي اندمجت سنة 1996 مع (رابطة المستقبل الإسلامي) في (حركة التوحيد والإصلاح)، حتى جعلهم يخضعون بالكلية لإرادته، ويقبلون أن يمارسوا العمل السياسي تحت مراقبته ووفق قواعده وأهدافه، بلا شروط، حينما فتح لهم الدكتور عبد الكريم الخطيب، رحمه الله وغفر لنا وله، بضوء أخضر من المخزن طبعا، أبوابَ حزبه (الحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية)، الذي كان في حالة موات، والذي سيصبح اسمه (حزب العدالة والتنمية) ابتداء من سنة 1998. وكثيرا ما ينسى الناسُ التاريخَ، وإن كان قريبا وحديثا، في خضم مشاغل الحاضر، وفي حمأة آثار التخدير الإعلامي اليومي المستمر، فلا يتذكرون إلا ما شاهدوه البارحة، أو ما سمعوه اليوم، وخاصة في مجتمع يعاني ضعفا كبيرا على مستوى الوعي السياسي، بسبب الممارسات المخزنية القرونية، كما يعاني من كوارث وتشوهات وعاهات فظيعة على مستوى الممارسة السياسية والعمل الحزبي. فمن التاريخ الحديث الذي يجب ألا يغيب عنا، ونحن نشاهد ما نشاهده اليوم، ونسمع ما نسمعه، في حياتنا السياسية، أن حزب العدالة والتنمية، في نشأته وتطوره ونجاحاته حتى وصوله إلى الحكومة ورئاستها، هو حزبٌ مخزني، يخدم، أولا وأساسا، مصالح النظام المخزني، راضيا أم كارها. وهذه الحقيقة التي يشهد لها تاريخ الحزب، وما عرفه هذا التاريخُ من تقلبات وأحداث ومؤتمرات وانتخابات، لا يمكن أن تغطيَها أو تؤثر في نصاعتها الأدبياتُ والشعارات واللافتات التي يرفعها الحزب، وإن كان وراء هذه الأدبياتِ واللافتات والشعارات نياتٌ صادقة ومقاصد بريئة؛ فليست العبرةُ في السياسة بالنيات، وإنما بما يراه الناسُ ويعايشونه ويحترقون بناره في واقعهم؛ ليست الدائرةُ، في السياسة، على الخطابات والشعارات، وإنما الدائرة فيها على المواقف والقرارات والممارسات. ومع الأسف الشديد، فإن تاريخَ مواقفِ حزبِ العدالة التنمية وقراراتِه وممارساتِه، وخاصة منذ سنة 1996، لم يكن إلا خضوعا لإرادة المخزن، ونزولا عند رغباته ومطالبه، وتكيّفا مع سياساته وأهدافه، والأدلةُ على هذه الحقيقة أكثرُ من أن تحصى، ويكفي ههنا أن نتذكّر أن السيد عبد الإله بنكيران كان دائما يصرح بما معناه وملخّصُه أن الملك هو رئيسه، وأنه، بصفته مأمورا وتابعا، ليس عليه إلا السمع والطاعة. (3) في سنة 2011، وأمام زمجرات الربيع العربي وأعاصيره التي أتت على بعض الأنظمة العربية الاستبدادية من القواعد، اضطر النظامُ المخزنيُّ أن ينحنيَ للعواصف، ويضعَ دستورا ممنوحا، جديدا في زمان وضعه، قديما في مواده وطريقة وضعه وأساليب الدعاية له وإقراره في استفتاء يوليوز2011. كما اضطر أن يخفّف قبضتَه التحكّميّة، ويتركَ انتخابات نونبر2011 تجري بلا تدخل إداري كاسح، ولا تزوير فاضح، وإن كانت القوانينُ التي أطّرت هذه الانتخاباتِ قد ظلّت كما كانت، وهي قوانين تخدم مصلحةَ النظام، لأنه يظل متحكما في الخارطة السياسية، مهما كانت نتائج الاقتراع، ويظل المشهد السياسي مُبَلْقَنا، يستحيل معه على أي حزب أن يحصل على الأغلبية أو ما يقرب من الأغلبية، ومن ثَمَّ يستحيل تكوين حكومة من غير أن يكون للمخزن الكلمةُ الأولى في تشكيلتها وسيرِها وحركاتِها وسكناتِها. اضطر المخزنُ، بفعل تهديدات الربيع العربي المغربي، التي ظهرت بعضُ إرهاصاتها مع احتجاجات حركة20 فبراير، أن يخفف من قبضته على الحياة السياسية، وأن يترك الانتخابات تجري بلا تزوير مفضوح، وهو ما أتاح لحزب العدالة والتنمية أن يتصدر نتائج الانتخابات، ويُدعَى لتكوين أول حكومة في ظل الدستور الجديد/القديم. لقد اضطر النظامُ أن يتعامل مع حزب العدالة والتنمية عن كُرْه، لكنه استغلّ هذا التعاملَ الاضطراري، الذي دام خمس سنوات، ليقضيَ من ورائه مآربَ أخرى، سياسية واقتصادية واجتماعية، كان يصعب، إن لم نقل يتعذر، قضاؤها لولا وجودُ حزب العدالة والتنمية على رأس الحكومة وداخلها بعدد لا بأس به من الوزارات. لقد استفاد النظامُ من حزب العدالة والتنمية إلى أقصى الحدود في السنوات الخمس التي كان فيها مضطرا للتعامل معه. وكانت الخطةُ المخزنية، حسب تقديري، أن يتم التخلي عن هذا الحزب، بعد انتخابات أكتوبر2016، والرجوعُ إلى ما قبل الربيع العربي، أيْ إلى نظام يتحكّم في الصغيرة والكبيرة من حياتنا السياسية، وإلى برلمان وحكومة ومؤسسات منتخبة ليس عندها إلا الولاءُ المطلق للمخزن، والتنفيذُ الحرفي لتعليماتِه وتوجيهاتِه وسياساتِه. ولمّا جاءت نتائجُ انتخابات السابع من أكتوبر على غير ما كان ينتظره النظامُ، تحرّكت الآلة المخزنية البارعةُ في التشويش والتضليل والتعويق واختلاق الأزمات، فاخترعتْ ما عُرف بالبلوكاج إلى أن تمّ إعفاء السيد بنكيران، بطريقة لا تخلو من احتقار وإذلال، مِن تشكيل الحكومة، وتعيينُ السيد سعد الدين العثماني بدَلَه لمحاولة جديدة لتجميع أغلبية الحكومة المقبلة. بكلّ صراحة، وعلى المستوى السياسي، لست أتعاطف، ولو قيد أنملة، مع السيد بنكيران، لأنه واحد من المخزنيّين الأوفياء، الذين لا يتركون أي مناسبة تمر ليثبتوا أنهم ملكيّون أكثر من الملك؛ فالرجل كان يعرف أنه قَبِلَ باللعب في ملعب كل شيء فيه ممكن، وأخفُّ هذا الأشياء الممكنة الإهانةُ والطردُ واللطم والركل والضرب على القفا. لقد كان السيد بنكيران بإزاء المخزن، دائما، سامعا مطيعا إلى أقصى الغايات، ومع ذلك لم يمنعه كلُّ ذلك أن يُستغنَى عن خدماته فيصبح من المُبعَدين، بعد أن انتهت مدة صلاحيته، كما قدّرها النظام. لماذا تم إعفاؤه والاستغناءُ عن خدماته، مع أنه أبان عن ولاء منقطع النظير للدولة المخزنية ولنظامها السياسي، قبل أن يصبحَ رئيسا للحكومة، وبعد أن أصبح رئيسا، وحتى بعد إبعاده؟ الجواب الحقيقيُّ هو عند مَن فعلوا به ما فعلوه، وقرروا في شأنه ما قرروه. أما أنا، فرأيي أنه قد يكون أُبْعد لأنه بات شخصية لا تناسب النظامَ من بعض النواحي، وخاصة وأن السيد بنكيران، في فترة رئاسته للحكومة، أصبح كثير الظهور والكلام، يتحدث، في بعض الأحيان بلا كوابح ولا ضوابط، وقد يقع في كلامه زلقاتٌ غيرُ محسوبة، أو إشاراتٌ وتلميحات لا تعجب النظام، الذي يحصي على خدامه وأعوانه كلَّ أنفاسهم؛ المهم أن (اللُّوكَ) السياسيَّ للرجل لم يعد مناسبا للمخزن، لأن من أهم الصفات التي ما تزال الدولةُ المخزنية تطلبها في خدّامها، هي التكتّم والتحفّظ والترزّن والتحوّط وقلّةُ الكلام التي تشبه البَكَمَ في كثير من الأحيان. قد يكون ما ذكرتُ من أسبابِ الاستغناء عن بنكيران، وقد يكون هناك أسباب أخرى غير ما ذكرت. لكن النتيجةَ الواضحة هي أن السيد بنكيران بات من المُبعَدين، وأصبح رفيقُه في مسيرته السياسية الطويلة السيدُ سعد الدين العثماني هو المفضل لدى المخزن لتكوين الحكومة الجديدة. هل سيأمرُ المخزنُ بإزالة العراقيل والمشوشات والمعوّقات من طريق العثماني؟ هل سيُيسِّر المخزنُ نجاحَ رئيس الحكومة المعين الجديد في مهامه؟ باختصار، هل النظامُ جادٌّ في تعيين السيد العثماني بدلا عن السيد بنكيران، أم أنه يناور لربح الوقت والتمهيد لسيناريو آخر يضع حدّا نهائيا للتعامل مع حزب العدالة والتنمية؟ الجواب سيأتينا قريبا، بعد أن يكملَ السيد العثماني ما يُسمَّى مشاوراتِه مع الأحزاب السياسية. (4) إذا كان المخزنُ قد قتَلَ السياسةَ-وكلُّ استبداد هو بطبيعتِه قاتلٌ للممارسة السياسية السليمة والعملِ الحزبي الطبيعي-فإن الأحزابَ القابلةَ بلعبة المخزن، الخاضعةَ لإرادته، اللاعبةَ في ملعبه، قد انشغلتْ بالتمثيل بجثةِ المقتولة، وتدنيس حرمتها، بدل أن تبادر، على الأقل، إلى إكرامها بالإسراع بدفنها. البارحة كان معظمُ قيادات حزب العدالة والتنمية، وفي مقدمتهم أعضاءُ الأمانة للحزب، يصرحون بأنهم لن يقبلوا، من داخل الحزب، بديلا عن السيد بنكيران لتشكيل الحكومة. وقد ذهب السيد مصطفى الرميد، وهو من إخوان السيد بنكيران المقرَّبين، في رفض سيناريو تعويض السيد بنكيران بشخصية أخرى من داخل الحزب، إلى القول عن نفسه بأنه لن يكون (بنعرفة) العدالة والتنمية، كناية عن الغدر والخيانة. كان هذا البارحة، أي قبل صدور بلاغ الديوان الملكي بإعفاء السيد بنكيران يوم 15 مارس2017. أما اليوم، وبعد أن استقبل الملك السيد العثماني، يوم 17 مارس، وعينه رئيسا جديدا لتشكيل الحكومة، وبعد اجتماع المجلس الوطني للحزب يوم السبت18 مارس، لم نسمع عن هذه القيادات التي كانت بالأمس القريب ترفض أي بديل عن بنكيران من داخل الحزب، إلا مباركةَ قرار الملك، واستعدادَها للتعامل الإيجابي معه. فأين هي المصداقية في مثل هذه المواقف الحربائية؟ أين هو الالتزام والمبادئ والأخلاق؟ ألهذه الدرجةِ بات حزبُ العدالة والتنمية منبطحا خانعا مستخذيا مستسلما؟ ألهذه الدرجة سكنت رهبةُ المخزن، والخوفُ من معارضة إرادته، قلوبَ قيادات الحزب، حتى باتتْ هذه القيادات مستعدة لأن تفعل أيَّ شيء، إلا أن تردّ طلبا للمخزن ما دام راضيا عنها، وما دام خضوعُها وانبطاحُها يفتح الطريق أمامها لكراسي الوزارات وامتيازاتها، ويُبقي الأضواءَ مسلطةً عليها وهي دائرة في فلك أصحاب السلطان، وسائرةٌ في ركابهم، ولو في زمرة الخدم والحشم. المهمُّ، عندهم، هو عدمُ الرجوع إلى الظل، إلى المعارضة وما باتتْ تعنيه عندهم هذه الكلمةُ من حرمان ومعاناة وبُعدٍ عن الأضواء، بعدما ذاقوا حلاوةَ القرب من السلطة، ولذاذةَ خدمةِ أعتابها الشريفة الكريمة السخية المعطاء. أهؤلاء هم الذين سيعوِّل عليهم المغاربةُ لتدبير شؤونهم، والانتقال بهم من دولة القمع والمنع والتعليمات إلى دولة الحريات والحقوق والمؤسسات المستقلة؟ أهؤلاء هم السياسيون الذي يرجو الناسُ منهم، اليوم وغدا، أن يدافعوا عن الديمقراطية الحقيقية ولوازمها الضرورية، وهم لا يملكون أن يقولوا ولو "لا" ذريّة (ميكروسكوبيّة) للنظام المخزني؟ وبعد كل هذا الانحطاط السياسي، والانبطاح الحزبي، والعبثِ في كل شيء، سنسمع من أحزابنا "العتيدة"، التي سيتم الرضا عنها لدخول جنّة الحكومة المخزنية المقدّسة، وفي مقدمتها حزبُ العدالة والتنمية، شعاراتِ محاربة الفساد والاستبداد، والتصدي للتخلف بكل أشكاله، وبناءِ دولة الحريات والحقوق والمؤسسات الديمقراطية، وغيرها من الشعارات الجوفاء، الصادرة عن مخلوقات مخزنية ماتتْ فيها إرادةُ الاعتراض والاحتجاج والرفض والانتقاد. حزبُ العدالة والتنمية يرفع شعارَ محاربةِ الفساد والتحكم!! إذن، أبْشرا بطول عمر، يا فساد، ويا تحكم. قال جرير يهجو الفرزدق: زعمَ الفرزدقُ أن سيقتُل مِربَعا ** أبشرْ بطول سلامة يا مِربع. وأختم ببيت من الأبيات السائرة لأبي الطيب المتنبي، وأراه يناسب سياق كتابة هذه المقالة؛ يقول البيت السائر: مَنْ يهنْ يسهلِ الهوانُ عليه ** ما لجرْحٍ بميّتٍ إيلامُ