شكلت الزيارة الرسمية التي قادت ملك البلاد إلى نيجيريا في مطلع دجنبر من سنة 2016 نقطة تحول في العلاقات الرسمية بين الرباط وأبوجا؛ ذلك أنها كانت الأولى للملك محمد السادس منذ اعتلائه سدة الحكم سنة 1999، وتُوجت باتفاقيات ومشاريع اقتصادية واعدة على رأسها مشروع نقل الغاز بين البلدين، زيادة على أنها حققت مكاسب سياسية ورمزية على أرض دولة عرفت حتى الأمس القريب بدعمها العلني القوي للبوليساريو وأطروحتها. ولعل مضامين الخطاب الملكي التاريخي الموجه إلى قمة الاتحاد الإفريقي، والاتصال الهاتفي الذي جمع صاحب الجلالة بالرئيس النيجيري محمد بهاري مطلع الشهر الجاري، وكذا مضامين الرسالة الملكية الموجهة إلى المشاركين في أشغال منتدى "غرانس مونتانا" يوم الجمعة الماضي بالداخلة، تحمل، كل على حدة، إشارات على تحول جذري في العلاقات الرسمية بين قوتين اقتصاديتين لهما حجمهما في القارة، وهي العلاقات التي ارتأت تجاوز النقط الخلافية للعمل على بناء شراكة اقتصادية واعدة تحقق في المستقبل القريب تقارباً سياسيا واستراتيجيا أمتن بين البلدين. أنحنُ إذن بصدد تشكل تكتل اقتصادي واستراتيجي يتزعمه المغرب ونيجيريا ليشمل الغرب الإفريقي ثم يمتد إلى بلدان باقي القارة؟ وكيف ستنعكس الشراكة الاقتصادية على الجانب السياسي في شق قضية الصحراء المغربية؟ يبدو أن معظمَ الأجوبة تبزغ في مضامين الدبلوماسية الملكية وخطبها، وفي دلالات التفاعل الرسمي المغربي مع القصر الرئاسي في أبوجا، وكذا في حجم الثقة التي وضعها الساسة ورجال المال والأعمال النيجيريون في نظرائهم المغاربة، وهو ما ترجمته اتفاقيات الشراكة والتعاون. من الجفاء إلى التقارب يتفرد "عملاق إفريقيا"، مثلما يصطلحُ عليه، دون غيره من باقي الدول الإفريقية بوزنه الاقتصادي الإقليمي والدولي؛ فنيجيريا التي صنفها البنك الدولي سوقا صاعدة تضم أكبر ساكنة في إفريقيا بحوالي 184 مليون نسمة، وهي مرتبة في المرتبة العشرين عالمياً لأكبر الاقتصاديات، وتتبوأ صدارة أكبر اقتصاد في القارة السمراء متفوقة على جنوب إفريقيا، فضلاً عن أنها تزخر بثروات طاقية ومعدنية مهمة. ولأن الأفعال أبلغ من الأقوال، فقد عرفت العلاقات المغربية النيجيرية قفزة نوعية منذ يوليوز من السنة الفارطة، حين بادر الملك محمد السادس بإيفاد كل من المدير العام للدراسات والمستندات، ياسين المنصوري، والوزير المنتدب لدى وزير الشؤون الخارجية والتعاون، ناصر بوريطة، إلى الرئيس النيجيري؛ حيث حملت الزيارة ما حملته من رمزية في التعاون الأمني والدبلوماسي رفيع المستوى بين الجانبين، وهي الزيارة التي أرست أرضية مناسبة للرؤية الجديدة التي سطرتها الدبلوماسية الملكية في استراتيجيتها الإفريقية. وقد كُللت المشاورات والمباحثات بين كبار مسؤولي البلدين عبر القنوات الدبلوماسية بزيارة ملكية تاريخية في فاتح ديسمبر من السنة المنصرمة، عززت تفاؤل المهتمين بالعلاقات الدولية بتغير بارز في خريطة التكتلات الإفريقية، وقطفت ثمارا شتى في مجالات اقتصادية وازنة. وقد أبى ملك البلاد إلا أن يُضفي بصمة روحية خاصة على زيارته إلى نيجيريا بتأديته لصلاة الجمعة في المسجد الوطني بأبوجا، ليزداد الجو الروحي خصوصية بدعاء إمام المسجد النيجيري لأمير المؤمنين وللمغرب بالنصر والتمكين تقديرا للحظوة الدينية الكبيرة التي يتمتع بها شخص الملك كأمير للمؤمنين وسليل البيت النبوي الشريف في قلوب المسلمين في نيجيريا، مثلما هو عليه الحال في إفريقيا. ولا يختلف اثنان في أن الجانب الروحي له دوره الكبير في إضفاء شرعية على حضور المغرب في وامتداد نموذجه المتسامح والمعتدل في نيجيريا وإفريقيا، ولا ضيْر في أن يساهمَ المؤثر الروحي في ترجيح كفة المغرب وسياساته الخارجية لدى دول إفريقية بعينها. الإشارات الملكية .. نيجيريا الحليف القادم في خطابه التاريخي الذي وجهه إلى قمة الاتحاد الإفريقي بأديس أبابا، عدّد الملك محمد السادس مجالات التعاون والشراكة التي جمعت المغرب بدول إفريقية شملتها الجولات الملكية؛ حيث جاءت نيجيريا في المقام الأول في الخطاب الذي أفرد لها فقرة كاملة. ولعل أول ما يلاحظه المحلل لخطاب أديس أبابا أن الرئيس الإفريقي الوحيد الذي جاء في أسطره هو محمد بهاري؛ حيث أحال عليه الملك كالأخ، لما لذلك من حمولات روحية ودينية بالأساس ودلالة على عمق الروابط الإنسانية التي تجمع الشعبين؛ إذ إن كل خطاب ملكي في المحافل الدولية هو تعبير على تطلعات الشعب المغربي. كما أكدت المباحثات الهاتفية التي جمعت ملك البلاد بالرئيس بهاري، في مطلع مارس الحالي، على أن هناك إرادة ملكية قوية على إضفاء طابع خاص على العلاقات الثنائية بين البلدين؛ إذ جاءت تفاصيلها مترابطة بين اجتماع الدارالبيضاء الذي ناقش مشروع خط أنابيب الغاز الأطلنتي المغرب – نيجيريا، وبين طلب المغرب الانضمام إلى المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (ECOWAS). ولم يكن الأمر اعتباطيا؛ إذ إن أبوجا تحتضن المقر الرئيسي للمنظمة التي تضم 15 دولة، وهو ما يعطي للمباحثات الهاتفية رمزيتها في مرحلة دقيقة من عودة المغرب إلى ردهات المنظمات الإفريقية بملفات ديناميكية ورؤية متبصرة. ويُستدل من حرص الملك على إطلاع الرئيس بهاري على جولاته الملكية الأخيرة في إفريقيا رغبته في رص الصف الإفريقي وتقاسم الرؤى المشتركة، بعد أن كانت معظم الدول الإفريقية منغلقة على مجالها الإقليمي المحدود ومكتفية بشركائها التقليديين دون تطلع إلى شراكات جديدة. ومن حنكة ملك البلاد أنه ارتأى التركيز في مجمل خطاباته على مجالات التنمية الاقتصادية والبشرية والتطرق لمجالات التعاون دون الخوض في متاهات السياسة وما تفرزه من نزاعات وتصدع في العلاقات الدولية، وفي ذلك إشارة إلى المحيط الإفريقي والمنظومة الدولية على جدية المغرب وترفعه عن كل ما من شأنه أن يجر المنطقة إلى دوامة من الصراع المستمر، وحرصه على لعب دوره انطلاقا من مسؤولياته الدولية ووفاء لمبادئه الدستورية. الوحدة الترابية ومشروع نقل الغاز .. براغماتية واستراتيجية إن في تطرق الرسالة الملكية الموجهة إلى منتدى "كرانس مونتانا" للشراكة مع إفريقيا وللتعاون جنوب-جنوب والإتيان على ذكر نيجيريا مرة أخرى، حمولة سياسية تمثلت في الاختيار الزمكاني المناسب لتوجيه الرسائل إلى الحلفاء وإلى خصوم الوحدة الترابية على حد سواء، جرى ذلك في مدينة الداخلة من عمق الصحراء المغربية،؛ حيث جاء في الرسالة الملكية: "(...) إن الأمر يتعلق بمشروع هيكلي، لا يقتصر فقط على نقل الغاز بين بلدين شقيقين، وإنما سيشكل مصدرا أساسيا للطاقة لدول المنطقة، وسيساهم في الرفع من التنافسية الاقتصادية، وتحفيز التطور الصناعي بها. كما سيمكن من إقامة هيكلة فعالة للسوق الكهربائية، وسيكون له تأثير كبير في تحقيق التكامل والاندماج الإقليمي"، وفي ذلك حرصٌ على أن يعود المشروع بالنفع على كل الدول المعنية به، ودعوة إلى العمل على تنمية الاقتصاد والإنسان وترك السياسة والنزاعات جانباً. ضرب عصفورين بحجر واحد، ذلك أقلُ ما يمكنُ أن توصف به استراتيجية المملكة في رؤيتها إلى مشروع نقل الغاز من نيجيريا إلى المغرب وعبره إلى أوروبا، فهو امتياز استراتيجي فطن له صناع القرار من شأنه أن ينقل المملكة باقتصادها الصاعد إلى فاعل مؤثر بين قارتين بفضل موقعها الجيوستراتيجي وواجهتيها على الأطلسي والمتوسط، ويجعل منها لاعبا أساسيا في موازين القوى. كما أن نقل الغاز من نيجيريا عبر إحدى عشرة دولة إفريقية فيه اعتراف ضمني بمغربية الصحراء؛ حيث سيمر خط الغاز بالضرورة عبر هذه الأخيرة، مما من شأنه أن يزيد من شرعية المغرب القانونية ومن الإجماع المتزايد على أحقيته في صحرائه. هذا دون الحديث عن الطريق السيار العابر لإفريقيا طنجة-لاغوس الذي سيزيد من انسياب الحركة التجارية بين الغرب الإفريقي وأوروبا، مروراً بالمغرب، ويسد بالتالي الطريق على تحرشات دعاة الانفصال التي لا تعدو أن تكون جعجعة بدون طحين. لقد أضحى ما يتوجس منه عسكر الجزائر وصنيعتهم البوليساريو واقعاً مفروضا بأن كسب المغرب حليفا استراتيجيا جديداً في إفريقيا؛ حيث جرت الرياح بما لا تشتهي سفن دعاة الانفصال؛ إذ إن من شأن مشروع نقل الغاز الطموح أن ينال تأييد الاتحاد الأوروبي الذي يطمحُ إلى منفذ دائم سلس وآمن للطاقة الإفريقية لدوله ويدفع هذه الأخيرة إلى مساندة خطة المشروع وتفاصيله؛ حيث تقتضي مصالحها وجود حليف موثوق به يحظى باستقرار وسلم اجتماعي وكفاءات بشرية مؤهلة، وهي عوامل يتوفر عليها المغرب. من يدقق في ثنايا جوانب العلاقات الثنائية بين المغرب ونيجيريا وتغيرها الإيجابي الجذري يستشفُ أن هناك إرادة ملكية قوية على الدفع بهذه العلاقات قدماً، إرادة مبنية على نظرة بعيدة الأفق وإلمام بالظروف والتحديات الإقليمية والدولية التي تفرضُ على المغرب أن يفرض حضوره ويقوي إشعاعه، من خلال حسن اختيار شركائه الاقتصاديين على أساس شراكة رابح-رابح وحسن استغلاله للظروف الإقليمية التي تجعل منه استثناء. إفريقيا اليوم في حاجة إلى نموذج قيادي في ظل خفوت وهج دول واضمحلال وزن أخرى، ولعل الوقت اليوم أنسب لإعادة توزيع الأدوار القيادية في ظل غياب تجارب ناجحة وزعامات إفريقية. وعطفاً على ما سبق، قررت المملكة الانفتاح بشكل غير مسبوق على محيطها القاري بتغلغلها في عمق شرايين اقتصاديات إفريقية شملت شرق القارة وغربها وامتدت إلى جزيرة مدغشقر، في وقت تشهد فيه موازين القوى العالمية تغيراً سِمته الشراكات الاقتصادية التي تكمل بعضها البعض. ويبقى من البديهي أن تتأثر السياسة لاحقاً بقوة الاقتصاد والمصالح المشتركة التي تتفرع عنه. *مترجم وكاتب باحث