نهاية الأسبوع تشرفت بحضور مائدة مستديرة نظمها القطاع النسائي لجماعة العدل والاحسان بمناسبة اليوم العالمي للمرأة، تحت شعار “واقع المرأة المغربية ومداخل التغيير” وقد تميزت المناسبة بمشاركة فعاليات نسائية تمثل مختلف أطياف المشهد السياسي والفكري المغربي "يسار إسلاميون ليراليون"، واتسمت مداخلات الضيفات والحاضرين بكثير من الهدوء، بكثير من العمق، بكثير من النضج، وبكثير من الوضوح والصراحة والمكاشفة، بكثير من سعة الأفق، بكثير من حب المغرب، وبكثير من الأمل في غد مشرق. وكل هذه مؤشرات على أننا في بداية الطريق الصحيح، فأن تفتح العدل والإحسان أذرعها لاستضافة مثل هذا النشاط، بكل هذا الانفتاح وقبول الرأي الآخر فهذا حدث له دلالته، وأن تقبل مكونات الحركة النسائية ولو باحتشام الحضور والمشاركة في نشاط الجماعة "المحظورة المغضوب عليها" أمر له رمزيته. بداية صحيحة بكل تأكيد، ونتمنى أن تحقق المرأة المغربية بجرأتها وتسامحها ما عجز عنه المجتمع الذكوري السياسي، من توفير شروط التقارب والتحالف بين مكونات المجتمع الحية في أفق إسقاط الفساد والاستبداد.غير أن هذه البداية الصحيحة لا بد لها من ضمانات النجاح من خلال تدقيق مساحات المشترك وتوسيعها والوعي الحقيقي ببؤر المختلف ومحاولة تقليصها عن طريق الحوار وتعزيز الحرية. اتفاق على التشخيص: وضعية كارثية ومتغيرات متسارعة. وضعية المرأة الكارثية على جميع المستويات تفضحها الأرقام والتقارير المحلية والدولية، مستويات الأمية، والحرمان من التعليم، وتدني الخدمات الصحية، والاستغلال الفاحش في سوق الشغل، وارتفاع مختلف مستويات العنف والتحرش، والإقصاء السياسي والتمييز على أساس النوع، وضعف التمكين والتمثيلية، فداحة الأرقام لا يوازيها إلا تقصير في الأداء الرسمي رغم خطابات التبرير، ولا يماثلها إلا التراجع المسجل في الانخراط الحقيقي والجدي للمجتمع المدني، ولا يجاريها أيضا إلا التغيرات الاقتصادية والسوسيو ثقافية المتسارعة في بنية المجتمع المغربي فيكفي الاطلاع على نتائج إحصاء 2014 خاصة ما تعلق بالمرأة والأسرة لتكوين فكرة على عمق التغيرات الاجتماعية ووتيرتها المتسارعة. لكن هذا الاتفاق على التشخيص والذي طبعا لا يمكن أن يكون محل خلاف، لأن حقائق الواقع الإحصائية والمعيشة لا يمكن القفز عليها، لا يعني الاتفاق على مداخل المعالجة وفلسفتها وأولوياتها ومرجعياتها، بل ويطرح صعوبات أكثر واختلافات أكبر، رغم أنه اختلاف متفهم ومتقبل بسبب تعدد المرجعيات الثقافية والمرجعيات الإيدولوجية والانتماءات السياسية، غير أنه في اعتقادي أن الاتفاق على "الأرضية الحقوقية" كمرتكز لعمل تشاركي سيكون بداية مأمونة لخدمة قضايا المرأة المغربية اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا وتشريعيا. بين تجار الدين وتجار البؤس: غالبا ما أثارت قضية المرأة في بدايات القرن وتثير الآن في المجتمعات الغربية والعربية أيضا، تناقضات قد تصل إلى درجة الصراع بين مختلف مكونات المجتمع، وغالبا ما يطلق على الفريق المناصر للحرية الجنسية وحق الإجهاض والإنصاف والمساواة وصف التيار الحداثي والتقدمي والديمقراطي، ويطلق على المناوئين نعت المحافظين والرجعيين والأصوليين، وهي أوصاف تعكس حالة الاحتقان بين مكوني المجتمع الكبيرين، وإن تعددت التعبيرات الحزبية والثقافية والدعوية، هذا الاحتقان ناتج في العمق عن الاختلاف حول النموذج المجتمعي لكلي الفريقين وهذا ما يقره صراحة "البحث الوطني حول انتشار ظاهرة العنف" حين حديثه عن "غياب نموذج مجتمعي يضمن الانسجام بين أنماط العيش العصرية المهيمنة والقيم الثقافية والمجتمعية الكامنة".وهي تعبيرات فضفاضة غامضة تخفي عمق الشرخ، وقد يتم تأويلها عدة تأويلات الأصالة مقابل المعاصرة، والحداثة ضد المحافظة والتقدمية في مناقضة الرجعية والظلامية مقابل التنوير والدينية في مواجهة العلمنة، وهي تأويلات وتفسيرات قد يسمح النضج الديمقراطي بإيجاد أرضية مشتركة تتيح التعايش في ظل الاختلاف، لكن أسوء ما تعانيه التجارب المتخلفة خاصة في بلداننا العربية، هو سحب "قضية المرأة" وغيرها من القضايا المصيرية إلى حلبة الصراع الحزبوي السياسوي المصلحي بين "تجار الدين" و"تجار البؤس" المتحالفين مع الديكتاتوريات المحلية من أجل تكريس تخلف المرأة والرجل واستعبادهما واستغلالهما. فتجار الدين يحاربون الاجتهاد ويتشبثون بالجمود فكرا وممارسة لأن الاجتهاد يعني الحرية والعقلانية والانفتاح والديمقراطية، و"تجار البؤس" هم نوع من تجار الكوارث والحروب يصرون على فرملة أي إصلاح حقيقي رغم الشعارات المرفوعة، لأن الابقاء على الوضع البئيس هو إبقاء على سوق مربحة للارتزاق المالي والسياسي. لذا صار لزاما على الشرفاء والأحرار وعلى أرضية المواطنة الصادقة، وفي هذه المرحلة التاريخية الدقيقة التي تغول فيها الاستبداد، أن يوسعوا مساحات وساحات النضال المشترك، وقد نجحت الندوة نجاحا كبيرا في تقريب وجهات النظر، وقد تكون خطوة في مسيرة الألف ميل. [email protected]