أثار النقاش الموازي لمفاوضات تشكيل الحكومة الثانية لما بعد دستور 2011 من جديد تفعيل وظيفة التحكيم الملكي، بما هي مخرج سياسي وعرفي وتقنية دستورية جديدة تضمن استمرارية تميز النموذج السياسي والدستوري المغربي في سعيه الحثيث إلى تكريس الخيار الديمقراطي وقدرته على التكيف الإيجابي في تجاوز الأزمات السياسية والمجتمعية الحرجة. وبهدف محاولة الإحاطة بمضمون التحكيم الملكي في تشكيل الحكومة سنرجع إلى مرجعيته التاريخية وتطوره الدستوري، قبل أن نصل إلى رصد مخرج التحكيم الملكي للبلوكاج الحالي. الإطار التاريخي والدستوري للتحكيم الملكي تقترن وظيفة التحكيم الملكي، من الناحية التاريخية، بواقع التعددية المقترن بهاجس الحفاظ على استدامة العيش في ظل الاستقرار الاجتماعي والسياسي وتكريس حد أدنى من شروط الاندماج في نسق الدولة المغربية والمحافظة على رصيد الولاء والتعايش السلمي. وقد تعززت هذه الوظيفة بفضل الانتقال من الارتكاز على قوة القبيلة والزاوية، كمحدد حاسم سابقا للسلطة، لفائدة الاستناد على رصيد الولاء لرمزية إمارة المؤمنين التي كانت تدفع حتى قبائل ومناطق السيبة إلى الاعتراف الطوعي بهذه المشروعية الرمزية واللجوء لطلب التدخل التحكيمي في نزاعاتها من أجل المحافظة على التعايش السلمي. ومن الزاوية الدستورية، فقد جرى تكييف وظيفة التحكيم الملكي في ظل الملكية الدستورية، علما أنها لم تكن قبل دستور 2011 واردة بشكل صريح ومباشر في فحوى الوثيقة الدستورية؛ بل كانت تستمد من مفهوم التمثيلية الدستورية الأسمى وباقي المقتضيات الدستورية التي تكرس تموقع جلالة الملك فوق الصراع السياسي والحزبي. وفي هذا السياق الدستوري الضمني، المكرس لوظيفة التحكيم الملكي، كانت المعارضة البرلمانية تثيرها كلما اشتد الاختناق القانوني والمؤسساتي عليها، كما هو الشأن في النزاع حول الدورة الاستثنائية خلال التجربة البرلمانية الأولى أو النزاع حول القانون الانتخابي بعد الولاية التشريعية الرابعة. كما تجسدت المرجعية الدستورية الضمنية للتحكيم الملكي من خلال الالتزام الدستوري بالتعددية الحزبية ومنع نظام الحزب الواحد، وبتجديد الالتزام الملكي بالتموقع فوق صراع الأحزاب وممارسة وظيفة "الموحد المرشد والناصح الأمين والحكم الذي يعلو فوق كل انتماء" في خطاب العرش الأول. ومع ربيع الإصلاح الدستوري لسنة 2011، صار التحكيم الملكي يكتسي صبغة دستورية صريحة طبقا للفصل ال42؛ فالملك، باعتباره رئيسا للدولة وممثلها القانوني الأسمى، هو الحكم الأسمى بين مؤسساتها. وبموجب هذه الخاصية الدستورية، يسهر على احترام المقتضيات الدستورية وضمان حسن سير المؤسسات الدستورية وصيانة الاختيار الديمقراطي وحقوق وحريات المواطنين والمواطنات والجماعات، وكذا احترام التعهدات الدولية للمملكة؛ وهو ما يعني بالتصريح المنطوق أن الملك يمكنه أن يمارس وظيفته التحكيمية الدستورية بشكل تلقائي وفي نطاق المقتضيات الدستورية والاختصاصات المنوطة به دستوريا، بما يخدم ويحقق غرض اعتباره حكما أسمى. كما يمكنه أن يمارس هذا التحكيم بناء على طلب صريح أو ضمني من الفرقاء في الحالات المحددة دستوريا والمتعلقة أساسا بتجاوز مقتضيات دستورية أو تعثر سير مؤسسات دستورية ووجود تهديد للاختيار الديمقراطي أو للحقوق والحريات الفردية أو الجماعية أو الإخلال بتعهدات دولية. وجدير بالذكر أن جلالة الملك غير ملزم دستوريا بالجواب الإيجابي أو السلبي على طلبات التحكيم، في كل الأحوال؛ بيد أن جوابه، في كل الأحوال، يتحقق في نطاق الاختصاصات والتقنيات الدستورية التي خولها الدستور صراحة للملك وفي نطاق المصلحة الدستورية والسياسية العليا المحددة في حد ذاتها صراحة بموجب الوثيقة الدستورية. ومن المهم الإشارة إلى أنه قد يقتضي نظره الدستوري التقديري تفعيل بعض مقتضيات اختصاصاته في سياق تفاعله مع لحظات الأزمات السياسية التي تقترن بشكل مباشر وجوهري بضرورة الاستجابة لمطالب تحكيمية ذات خصوصية دستورية تستوجب تصحيح الأمور المخلة بشكل جلي بمقتضيات دستورية أو المهددة بشكل أمني لسير المؤسسات الدستورية وفي نطاق المصلحة الدستورية والسياسية العليا، علما أن نتائج التدخل الملكي التحكيمي بشأنها لا يمكن إلا أن تجسد درجة السمو الملكي المدعم لصيانة الاختيار الديمقراطي المتعالي عن درجة التنافس السياسي والحزبي وتقديرات المصالح المغلفة أحيانا بمصلحة عامة. تشكيل الحكومة في نطاق التحكيم الملكي إن مقتضى تعيين أعضاء الحكومة باقتراح من رئيسها، بموجب الفقرة الثانية من الفصل ال47، يدل على أن النظر والحسم في نازلة عسر اقتراح تعيين أعضاء الحكومة موكول في حد ذاته إلى نظر جلالة الملك؛ وذلك في إطار تكريس العقلنة البرلمانية، وتفادي توالد وتواتر لحظات الأزمات الحزبية والسياسية، وهو ما يسعف على الإحالة إلى وجود علاقة دستورية بين التعيين الملكي الديمقراطي لرئيس الحكومة وبين أحقية تدخله التحكيمي لإتمام حلقة تعيين باقي أعضاء الحكومة، حتى لا يتحول "البلوكاج" إلى "سلوك انقلابي" ضمني ينسف في عمقه الإستراتيجي قرار سيادي لرئيس الدولة المؤتمن على صيانة الاختيار الديمقراطي. كما أن أيّ أفق لإحالة النظر في "البلوكاج" إلى التحكيم الملكي يثير في بعد جوهري منسوب الانحياز إلى تقليدانية أو حداثة التأويل الدستوري ونكوص أو تقدم الفاعلين ولوبيات المصالح في القبول بالاختيار الديمقراطي و تفعيل أو تحريف مقتضيات ربيع الإصلاحات الدستورية وانحباس أو استمرار موجة التناغم مع ثورة خطاب 20 مارس. إن إثارة الإحالة الصريحة أو الضمنية لملف "البلوكاج" وإن كان يجسد إيجابية تقدير الدلالة الرمزية لوظيفة التحكيم الملكي في المخيال السياسي الحزبي، فإنه ربما يحيلنا إلى عمق الارتهان بنمط التأويل التقليداني لمرحلة ما قبل دستور 2011 والانسداد لماضي ضعف الثقافة التفاوضية الحزبية. إن إحالة "استكمال تشكيل الحكومة" إلى نظر جلالة الملك قد يبدو ملحا في قضية يمكن أن ترقى، مع اشتداد درجة التعنت الحزبي والمصلحي، إلى درجة الخطورة الدستورية التي تهدد الاختيار الديمقراطي وسير المؤسسات الدستورية. كما أن الإقرار بجعل معادلة "تشكيل الحكومة" داخل مشمولات مجال تغطية التحكيم الملكي الدستوري الجديد يمنع استبعاد أي دور تدخلي فاعل للملك لصالح تحصين مكتسبات الاختيار الديموقراطي وحجب أي مبادرة تراجعية عن هذا الاختيار بما له من اختصاصات دستورية ورمزية تمثيلية سامية في سياق التعاون على تفعيل وتسريع تشكيل الحكومة، إذ لا يمكن في كل الأحوال الالتفاف على صراع شد الحبل بين زعيم حزب متصدر انتخابيا وبين زعيم حزب متصدر اقتصاديا وتعطيل كثير من الأوراش الاقتصادية والديمقراطية، فضلا عن موجة اهتزاز الثقة السياسية للمواطنين التي يمكن أن يثيرها الدفع في دق نقوس خطر إجهاض الأثر الانتخابي والسياسي للدستور الجديد وإنتاج أزمة البعد الانقلابي الناعم على القبول بنتائج الاختيار الدستوري الديمقراطي وإثارة أي تأويل غير دستوري وحداثي لوظيفة التحكيم الملكي. إن مخرج التحكيم الملكي ربما يشكل حصانة وضمانة لعدم العبث بأي مغامرة سياسية وسلطوية لا تراعي حقيقة دقة المرحلة السياسية والاقتصادية وتبعاتها المفتوحة على كل الاحتمالات، لا سيما إذا علمنا أن النتيجة الدستورية لتشكيل الحكومة لا تعني هيمنة الحكومة التي انتفص من عمر زمنها السياسي الفعلي مسبقا سنة بدايتها وسنة نهايتها في علم حساب تقدير وظائفها التدخلية لتدبير الأوراش الحقيقية. ولا تعني كذلك انتفاء الوظائف الحزبية لخدمة القضايا الوطنية حتى خارج الحكومة. ويبقى الأكيد أن سمو التمثيل التحكيمي الملكي سيظل فوق صراع نفوذ الحسابات الحزبية الظرفية ومنطق البلوكاج للتجربة البرلمانية التأسيسية الثانية في ظل الدستور الجديد. كما أن حساب الحسابات الحزبية والمصلحية قد لا تكون بالتأكيد إلا دلالة ضرورة معالجة عقم ممارسة التمرين التفاوضي الديمقراطي. وهنا، تكمن أسرار معادلة التطور الديمقراطي المغربي التي لا يمكن المخاطرة بمتغيراتها الحسابية، لتوظيف رمزية وسمو التحكيم الملكي في سياق جديد يفرض على جميع الفاعلين تقدير مقدر لكلفة استمرار البلوكاج ومنهجية التعامل معه بروح وطنية عالية تكرس استدامة الاندماج والتعايش السياسي في نسق دستوري مغربي مميز. *باحث في القانون الدستوري والعلوم السياسية