وظيفة التحكيم الملكي ممارسة سياسية وعرفية وقاعدة دستورية جديدة تعزز للنظام السياسي وحدته السياسية والجغرافية وتساعد على تجاوز كثير من الأزمات السياسية والمجتمعية الحرجة.ولمحاولة الإحاطة بمضمون التحكيم الملكي سنرجع لمرجعيته التاريخية وتطوره الدستوري، قبل أن نصل إلى رصد إشكالية "الأزمة السياسية الشباطية" وتداعيات قرار الانسحاب السياسي من الحكومة في سياق خصائص وشروط التحكيم الدستوري الملكي. 1- المرجعية التاريخية التقليدية للتحكيم الملكي لقد أفرز المجتمع المغربي التقليدي واقعا تاريخيا سابقا متميزا بهيمنة تنظيمات قبلية لم تكن منغلقة على نفسها، بل كانت تدخل في علاقات متغيرة لحماية مجالها ومصالحا. وفي ظل واقع الصراع القبلي والعصبي وضرورة البحث عن سبل العيش في ظل الاستقرار الاجتماعي و السياسي، عمدت السلالات الحاكمة للبحث عن آليات لضبط التوازن القبلي والتحكم في السلطة السياسية لضمان حد أدنى من شروط الاندماج في نسق الدولة المغربية والمحافظة على رصيد الولاء و التعايش السلمي. وقد ساعد الانتقال من الارتكاز على قوة القبيلة ، كمحدد حاسم سابقا للسلطة، لفائدة الاستناد على رصيد الولاء لرمزية مسؤولية إمارة المؤمنين إلى تعزيز وظيفة التحكيم لفائدة عدم التحيز القبلي ولتحقيق التوازن الاجتماعي والسياسي وضمان التعايش السلمي بين مختلف الفرقاء والمناطق المغربية.وهذا ما كان يدفع حتى قبائل ومناطق السيبة المستقلة إلى طلب التدخل التحكيمي في نزاعاتها. مما يؤكد أن الاستقلال الذاتي الذي كانت تتمتع به بعض القبائل في تسيير شؤونها الداخلية لم يكن يتنافى بتاتاً مع خضوعها للسلطة التحكيمية للسلطان واعترافها بمشروعيته الرمزية للمحافظة على التعايش السلمي. 2- المرجعية الدستورية الضمنية للتحكيم الملكي بعد دخول المغرب مرحلة الملكية الدستورية تم تكييف وظيفة التحكيم الملكي بما يضمن الانسجام مع المتطلبات العصرية والمحا فظة على الوحدة الوطنية. ولئن كانت وظيفة التحكيم الملكي لم ترد قبل ربيع الإصلاحات الدستورية الجديدة متضمنة بشكل صريح ومباشر في فحوى الوثيقة الدستورية ، فإنها كانت تستمد من مفهوم التمثيلية الدستورية الأسمى وباقي المقتضيات الدستورية التي تكرس سمو الملك وتعاليه عن الصراع السياسي و الحزبي . فبالإحالة على فصل الفصول ، التاسع عشرة سابقا ، نجده يضفي على الملك صفة "الممثل الأسمى للأمة"، بصيغة ضمنية في دستور 1962 وبصيغة صريحة في باقي الدساتير اللاحقة. فالملك، الحائز على الولاء الدستوري العام ، يعتبر هو المسؤول الأول عن تجسيد رمزية وسلطة التحكيم. لذلك عمدت المعارضة البرلمانية في بعض الحالات إلى إثارتها كما حصل بخصوص الحالات التالية: -النزاع حول الدورة الاستثنائية خلال التجربة البرلمانية الأولى ) 1963- 1965 -النزاع حول قانون الخوصصة خلال التجربة البرلمانية الرابعة )1984-1992 - النزاع حول القانون الانتخابي في إطار الإعداد للاستحقاقات الانتخابية التي أعقبت انتهاء الولاية الانتخابية لمجلس النواب)1984-1992( وباقي الهيئات المنتخبة . كما أن المرجعية الدستورية الضمنية للتحكيم الملكي تجسدت على مستوى تكريس الالتزام الدستوري بالتعددية الحزبية ومنع نظام الحزب الواحد، وعلى مستوى تكريس الالتزام الملكي بالتموقع فوق صراع الأحزاب وممارسة وظيفة " الموحد المرشد والناصح الأمين والحكم الذي يعلو فوق كل انتماء" في خطاب العرش الأول لمحمد السادس. 3- المرجعية الدستورية الصريحة للتحكيم الملكي أصبحت وظيفة التحكيم الملكي تكتسي صبغة دستورية صريحة تبعا للإصلاح الدستوري الأخير ، حيث أصبحت واردة في فحوى الفصل الثاني والأربعون من دستور 2011 فالملك باعتباره رئيسا للدولة وممثلها القانوني الأسمى، هو الحكم الأسمى بين مؤسساتها . وبموجب هذه الخاصية الدستورية يتحمل مسؤولية السهر على احترام المقتضيات الدستورية وضمان حسن سير المؤسسات الدستورية، و صيانة الاختيار الديمقراطي، وحقوق وحريات المواطنين والمواطنات والجماعات، وكذا احترام التعهدات الدولية للمملكة. مما يعني بالتصريح المنطوق أن الملك يمكنه أن يمارس وظيفته التحكيمية الدستورية بشكل تلقائي وفي نطاق المقتضيات الدستورية والاختصاصات المنوطة به دستوريا ، بما يخدم ويحقق غرض اعتباره حكما أسمى . كما يمكنه أن يمارس هذا التحكيم بناء على طلب صريح أو ضمني من الفرقاء في الحالات المحددة دستوريا والمتعلقة أساسا بتجاوز مقتضيات دستورية أو تعثر سير مؤسسات دستورية ووجود تهديد للاختيار الديموقراطي أو للحقوق والحريات الفردية أو الجماعية أو الإخلال بتعهدات دولية. وبالنتيجة البينة فالمشرع الدستوري قد حدد على سبيل الحصر الحالات التي يمكن اللجوء فيها لطلب التحكيم الملكي، حتى لا يصبح هذا الطلب مطية مجانية ،ربما يمكن أن تستغل لممارسة الضغط الحزبي أو البرلماني أو حتى في إطار تصريف الصراع الحزبي والسياسي خارج نطاقه الدستوري الاعتيادي. مع الإشارة في هذا الصدد إلى أن الملك غير ملزم دستوريا بالجواب الإيجابي أو السلبي على طلبات التحكيم في كل الأحوال. وجدير بالذكر أن ممارسة مسؤولية وظيفة التحكيم الدستوري الملكي والتفاعل مع الطلبات الصريحة أو الضمنية، التي قد ترفع في هذا الشأن بمقتضى الفصل المذكور، تتجسد نتائجها بمقتضى ظهائر، من خلال السلطات الملكية المخولة صراحة بنص الدستور. كما أن هذه الظهائر توقع بالعطف من طرف رئيس الحكومة، في إطار فتح المجال لإمكانية إثارة مسؤوليته السياسية الدستورية بشأنها. حيث تم حصر حالات الظهائر الخالصة للتوقيع الملكي بموجب الفصل الواحد والأربعون وباقي الفصول المحال عليها بموجبه. ويتعلق الأمر، على سبيل المثال، بالظهائر المتعلقة بممارسة الصلاحيات الدينية المتعلقة بإمارة المؤمنين. وتعيين رئيس الحكومة من الحزب السياسي الذي تصدر انتخابات أعضاء مجلس النواب، وعلى أساس نتائجها. وإعفاء الحكومة بكاملها على إثر استقالة لرئيس الحكومة .أو ممارسة حق حل مجلسي البرلمان أو أحدهما. وفضلا عن الاختصاصات الدستورية المنوطة بالملك فإن هذا الأخير يمكنه ممارسة الوظيفة التحكيمية الدستورية في نطاق الاختصاصات والتقنيات الدستورية التي خولها له الدستور صراحة و في نطاق المصلحة الدستورية والسياسية العليا المحددة في حد ذاتها صراحة بموجب الوثيقة الدستورية.و يمكن الإشارة إلى بعضها في سياق محدد كما يلي: -تعيين أعضاء الحكومة باقتراح من رئيسها، الفصل 47 الفقرة الثانية، - إعفاء عضوا أو أكثر من أعضاء الحكومة من مهامهم بمبادرة منه، وبعد استشارة رئيس الحكومة، الفصل 47 الفقرة الثالثة، - النظر في الطلب الموجه إليه من طرف رئيس الحكومة بشأن إعفاء عضو أو أكثر، من أعضاء الحكومة ، الفصل 47 الفقرة . ومن المعلوم أن نظره في مثل هذه النازلة السياسية مفتوحة على الاستجابة الإيجابية أو السلبية تبعا للتقدير الملكي للطلب في سياق مسؤوليته الدستورية . - النظر في الطلب الموجه إليه من طرف رئيس الحكومة بخصوص إعفاء عضو أو أكثر، من أعضاء الحكومة، بناء على استقالتهم الفردية أو الجماعية، مما يعني أن النظر والحسم في نازلة استقالة الوزراء موكول لنظر الملك وذلك في إطار تكريس العقلنة البرلمانية وتفادي توالد وتواتر لحظات الأزمات الحكومية والسياسية . -إعلان حالة الاستثناء في حالة وجود تهديد جدي للتراب الوطني أو ووقوع حالة من الأحداث المعرقلة للسير العادي للمؤسسات الدستورية، الفصل 59. ودون حاجة إلى عرض جميع الاختصاصات الدستورية التي تمارس بظهير ملكي، والتي يمكن الملك مباشرتها في سياق مهامه الدستورية العادية وفي نطاق التعاون والتوزيع التشاركي الدستوري للاختصاصات مع باقي المؤسسات الدستورية، فإنه من المهم الإشارة إلى أنه قد يقتضي نظره الدستوري التقديري تفعيل بعض مقتضياتها في سياق تفاعله مع لحظات الأزمات السياسية التي تقترن بشكل مباشر وجوهري بضرورة الاستجابة لمطالب تحكيمية ذات خصوصية دستورية تستوجب تصحيح الأمور المخلة بشكل جلي بمقتضيات دستورية أو المهددة بشكل أمني لسير المؤسسات الدستورية وفي نطاق المصلحة الدستورية والسياسية العليا . وهنا فلا يمكن لظهائر نتائج التدخل الملكي التحكيمي بشأنها إلا أن تجسد درجة السمو الملكي المدعم لصيانة الاختيار الديموقراطي المتعالي عن درجة التنافس السياسي والحزبي وتقديرات المصالح الحزبية السياسية المغلفة أحيانا بمصلحة عامة ، ،بحيث لا يمكن من الناحية الدستورية التقنية والموضوعية تصور رهنها بنطاق التحكيم الدستوري الملكي. 4- دلالة إحالة الانسحاب من الحكومة على التحكيم الدستوري الملكي تثير واقعة إحالة النظر في ملف أزمة "الانسحاب الاستقلالي السياسي" من الحكومة على التحكيم الدستوري الملكي، تبعا لما ترتب عن المجلس الوطني الأخير للحزب،وما ترشح حول ما يكون قد راج بخصوص المكالمة السياسية الهاتفية مع الملك خارج البلاد ، مسائلة الوعي الدستوري والسياسي ودرجة جاهزية الفاعلين السياسيين للقبول الطوعي والتلقائي بمقتضيات ربيع الإصلاحات الدستورية التي تم الدفاع عنها أيام التصويت على الدستور الجديد وموجة التناغم مع ثورة خطاب 20 مارس والترحيب السياسي بجدية مطالب النضال الشبابي المغربي في نطاق الاستقرار والمحافظة على الثوابت الوطنية. إن الإحالة الصريحة أو الضمنية لملف "مطالب التعليل الحزبي الاستقلالي" لقرار الانسحاب السياسي من الحكومة على طلب التحكيم الدستوري الملكي، وإن كان يجسد إيجابية استمرارية تقدير الدلالة الرمزية لوظيفة التحكيم الملكي في المخيال السياسي الحزبي ، فإنه ربما يحيلنا على عمق الارتهان بنمط التأويل التقليداني لمرحلة ما قبل دستور 2011 والإنشداد لماضي الإرث الحزبي السلطوي، إن لم نتجاوز دلالة تحليل عمق الأزمة السياسية "الشباطية " المقترنة برهن حل أزمة مطالب سياسية حزبية بضرورة تدخل ملكي في نطاق خارج دستوري ، لاسيما أن الوثيقة الدستورية الجديدة حسمت مسبقا في شروط ومعايير الوظيفة التحكيمية الملكية في نطاق مقتضياتها الدستورية. لنصل إلى أفق انسداد المناورة السياسية "الشباطية" الظرفية بعد ربط مصالح ومطالب لا يمكن في كل الأحوال أن تتعلق ضرورة الاستجابة التحكيمية الملكية لها بها ، مما يثير إمكانية الوصول إلى حد دق نقوس خطر إجهاض الأثر الانتخابي والسياسي للدستور الجديد وإنتاج أزمة البعد الانقلابي الحزبي الناعم على القبول بنتائج الاختيار الدستوري الديموقراطي وإثارة أي تأويل غير دستوري وحداثي لوظيفة التحكيم الملكي والإحالة الصريحة أو الضمنية على طلب إثارتها في سياق أزمة حكومية سياسية غير دستورية لحد الساعة إن إحالة أمر "الانسحاب السياسي الاستقلالي" من الحكومة على نظر جلالة الملك، وفي ظل تواجده بالخارج بموجب إثارة الفصل الثاني والأربعون في قضية لا ترقى في كل الأحوال إلى درجة الخطورة الدستورية التي تهدد الإختيار الديموقراطي وسير المؤسسات الدستورية وتعرقل المقتضيات الدستورية، إنما يكشف حقيقة دلالة عمق الأزمة السياسية المتجلية في إشكالية تضخيم الذات الحزبية وخلق التماهي المشكوك فيه بين تقدير حزبي للمرحلة ومطالب سياسية حزبية ظرفية من جهة وبين مقتضيات الاستقرار السياسي العام والمصلحة العليا للوطن التي لا يمكن الممانعة في أهمية الاستناد عليها للدفع في بعض الحالات القصوى بإثارة تفعيل وظيفة التحكيم الدستوري الملكي. بيد أن الإقرار بجعل معادلة "الأزمة السياسية الشباطية" خارج تغطية التحكيم الملكي الدستوري الجديد لا تعني استبعاد أي دور تدخلي فاعل للملك لصالح تحصين مكتسبات الاختيار الديموقراطي وحجب أي مبادرة تراجعية عن هذا الاختيار ولا تنفي انسداد الأفق الحزبي للرهان على تدخل تحكيمي ملكي بما له من اختصاصات دستورية ورمزية تمثيلية سامية في سياق التعاون على تفعيل وتسريع العمل الحكومي الذي لا يمكن في كل الأحوال الالتفاف على تأثره بصراع شد الحبل بين أحزاب التحالف الحكومي الحالي وتعطيله لكثير من لأوراس الإصلاحية والديموقراطية . فضلا عن موجة اهتزاز الثقة السياسية للمواطنين التي يمكن أن يثيرها الدفع في المرحلة الراهنة في اتجاه أقصى الحلول الدستورية الممكنة للخروج من أزمة الانسحاب السياسي الاستقلالي من الحكومة في حالة استمرارية تداعياتها في اتجاه تصعيدي. إن واقع العقلنة البرلمانية التي يثيرها الدستور ربما تشكل حصانة وضمانة لعدم العبث بأي مغامرة سياسية حزبية لا تراعي حقيقة دقة المرحلة السياسية والاقتصادية وتبعاتها المفتوحة على كل الإحتمالات، لاسيما إذا علمنا أن النتيجة الدستورية لإثارة المسؤولية السياسية للحكومة من خلال ملتمس الرقابة أو سحب الثقة هو إعادة الانتخابات وانفتاح النظام السياسي على تجارب الأزمات البرلمانية والحكومية التي تبقى سمة لبرلمانية غير معقلنة في تجارب دول أخرى. والأكيد أن تقديرات الحسابات الحزبية الظرفية ومنطق قلب الطاولة السياسية مهما كلف الثمن لعرقلة مسيرة التجربة البرلمانية التأسيسية الأولى في ظل الدستور الجديد قد تدفع في حالة انسداد أفق المحافظة على الأغلبية البرلمانية إلى مبادرة في الاتجاه المذكور. بيد أن حسابات السياسة وسياسة الحسابات قد لا تكون بالتأكيد في غير صالح العدالة والتنمية الذي بحداثته في عالم السياسة وتجربة السلطة والمعارضة على حد سواء ربما تمرس على رفع جاهزيته وقدرة انفتاحه على كل الاحتمالات السياسية والدستورية . وهنا تكمن أسرار معادلة الصراع السياسي الحزبي التي لا يمكن المخاطرة بالمجازفة في توظيف رمزية ودلالة وظيفة التحكيم الملكي في خبايا من لا يعلم مصالحها إلا أصحابها في سياق مرحلي سياسي واقتصادي واجتماعي ودولي يفرض على الجميع تقدير دقيق لكلفة حل إشكالاته ومنهجية التعامل معه بروح وطنية عالية.