تتباطأ الحركة من حولي فجأة، ويزداد وزن الهواء المار برئتاي حتى يكاد يخنقني. تتواطأ عيناي مع صور الذاكرة التي لم تفارقني يوما، ويظهر هو أمامي كحلم عُلِّق على أطلال الفؤاد قرونا من الانتظار. أمعن النظر في وجهه عَلَّ عيناي تستفيقان من حقيقة خِلْتُها وَهْمًا. لكن نظراتي التي 0لْتَهمت تقاسيمه لم تزدني إلا حيرة وَتَيْهًا ، لتضيع بعدها أفكاري داخل دهاليز الذاكرة . توقفت غير آبهة بالدوار الذي أصاب فؤادي، وانتظرت أن يبادر هو بالكلام .. وبكلمات مقتضبة ألقى التحية واستفسر عن حالي. بعد الذي حصل والذي لم يحصل يسألني : كيف حالك؟ أتراه يريد إلقاء نظرة أخيرة على أطلال فؤاد حطمه فيما مضى؟ على كرامة تسترجع أنفاسها بعد سقوط مهول؟ أم على ابتسامة أضاعت طريقها إلى شفتاي منذ غادر؟ أم ترى ضميره استفاق من سباته الطوييييل الطويل؟ على كل حال، خجل الموقف من سؤاله .. فأجبته. أجابه لساني فقط. فهو يعلم جيدا بأن الكلمات لم تكن بكلماتي ولا الجواب كان جوابي . استجمع وجهي ما تبقى من ملامحه ونطق لساني : بخير! بكل ما تحمله الباء من بكاء قلت بخير، بكل ما تركته لي أنانيته من "خراب" قلت بخير، بكل ما حقنته ساديته داخل عروقي من "يأس" قلت بخير وبكل ما حملته الراء من حلكة "رماد" خلفته ذكرياته التي زارتني ذات حنين قلت بخير . نطقتها ثم هممت ألملم ما سقط على حافة فؤادي من عتاب لم ينطق، تركت عيناي تحكي له عما ألم بي في غيابه، وبحركة عفوية من يدي جعلت بعض الخصلات الثائرة من شعري تختبئ خلف أذني ليظهر قرط كان قد أهداه لي في يوم سماه عيد "مولدنا". نعم مرت خمس سنوات منذ ذلك الحين، لم يكن يتوقع بأن ألبس القرط إلى اليوم ومن وقع المفاجأة نطق بسؤاله الثاني : ألا تزالين تحتفظين بالقرط يا "منى"؟ لم أنزع حداد حبنا بعد.... وتلك كانت آخر جملة أشهرها في وجهه قبل أن أغادر. عدت إلى المنزل وهرولت إلى غرفتي بعينين دامعتين. فتحت الدولاب، وشرعت أتفقد فستاني الأبيض الذي لم يزين جسدي يوما .. ألقيت نظرة حانية على علبة احتضنت بطاقات الدعوة التي لم ترسل أبدا ... تذكرت موعد زفافنا الذي بقي معلقا منذ اختفائه. ودون أية رحمة اجتاحتني موجة من الذكريات. تذكرت العروس التي كنت أستعد أن أهديه إياها إلى آخر العمر ... أخذني قطار الذكريات إلى أول يوم التقيته فيه، كان صباحا عبقا برائحة المطر، وصلت إلى الكلية متأخرة عن أولى حصصي لتلك السنة. استجمعت شجاعتي وطرقت باب الفصل. سمعت صوتا يدعوني للدخول ... هممت بإسقاط خطواتي على أرضية المدرج وثيابي مبللة بالكامل، نظر إلي مبتسما وطلب مني أن آخذ مكاني بين زملائي ثم أكمل الدرس وأكملت أنا النظر إلى وجهه المميز طيلة الحصة ... (يتبع)