بديهي جدا، أن التطورات التي عرفتها البنية الأوربية والتقدم النوعي الذي لحق مختلف الميادين، قد مهدت لظهور العقلانية والتنوير ودفعت بالماهدين والرواد إلى وضع قطيعة مع بنية التفكير التي سادت خلال القرون الوسطى، الأمر الذي نتج عنه تأصيل أسس ومبادئ واقعية حسية نافعة للقوانين العلمية، وتم تعميمها بتأثير التحولات الاجتماعية على ميادين عدة من بينها الفلسفة والدين والأخلاق. وبذلك تحققت مسألة خلخلة بنية التفكير السابقة، التي كانت تستند إلى المبادئ والاستنتاجات بحجة التطابق لتفتح الأبواب أمام التجربة وسيادة مبدأ أساسي ألا وهو: كل معرفة يقينية لا بد أن تستمد يقينها من الواقع ومن قابليتها للتعميم عليه. ولم تسلم الفلسفة من هذه المنهجية الجديدة، إذ طرحت إشكالية كيف يمكن للفلسفة أن تتحول إلى علم؟ نفس المنحى اتخذه الدين والأخلاق كذلك، فكانت إجابة رني ديكارت في كتابه "التأملات" (1596-1650) وإيمانويل كانط في ثلاثيته النقدية، وجاء الجواب على سؤال الأخلاق في ما سمي ب" الدين الطبيعي" أما في مجال السياسة فقد تساءل مفكروا الأنوار من أين للسلطة شرعيتها؟ وكان جواب كل من توماس هوبز (1588-1679) وجون لوك (1642-1804) وجان جاك روسو (1712-1778): من "العقد الاجتماعي" مع ما ينفرد كل واحد منهم بخصوصيات جوهرية. السمة الأساسية التي يمكن تسجيلها من داخل الفكر الأنواري هي حضور التفكير العقلاني الذي تبلور مع باروخ اسبينوزا (1632-1677) وغوتفريد ليبنتيز (1646-1716) في مختلف مجالات الفلسفة والعلوم، وقد وضعت هذه العقلانية حدا –ولو بتأثير غير مباشر- لسلطة صحة العلاقة بين السبب والنتيجة كما سيحدث في فلسفة دافييد هيوم (1711-1776) التجريبية، وفلسفة جان جاك روسو في مطالبته بالعودة إلى الطبيعة. مع الفكر الأنواري كانت الدعوة الصريحة لاستخدام العقل(نص ما هي الأنوار: إيمانويل كانط) حيث لا سلطات تعلو على العقل إلا سلطة العقل نفسه وبذلك حددت العقلانية بكونها مذهب فلسفي يرى أن كل ما هو موجود مردود إلى مبادئ العقل، ليضحى مفهوم التنوير ملازما لمفهوم العقلانية، على أنها العمل بمبادئ العقل. بعد الحرب العالمية الثانية بعد الثورة البلشفية بروسيا ظهرت مواقف متعددة حملت التنوير مسؤولية المأسي الانسانية المتمثلة في الصراعات الدموية واغتراب الإنسان والمجتمعات. وفي نظر أصحاب هذا الموقف، لم تكن لتحدث هذه الظواهر لولا "العقل الأداتي" الذي نتج عن استخدام العقل كأداة للسيطرة على الواقع الإنساني وعلى الطبيعة. وأخص هنا بالذكر مدرسة فرانكفورت أو "المدرسة النقدية" وموقف كبيري مؤسسيها ماكس هوركهايمر (1895-1973) وتيودور أدورنو (1903-1960) كتب هذان المفكران كتاب "جدلية الأنوار" والذي نشر سنة 1974 "الازدواجية الكامنة في مفهوم التنوير الغربي وتمزقه منذ بداياته الأولى، وارتداده بصورة مستمرة إلى الأسطورة واللاعقلانية التي حاول باستمرار أن ينتزع نفسه منها". لقد جعل العقل الإنسان سيدا على الطبيعة وعلى نفسه، حيث عمل على تسخير كل ما في الطبيعة لإتباع حاجاته ورغباته، كما عمل أيضا على ممارسة السلطة على مختلف العلاقات القائمة بين البشر. ورأى ماركوز (1898-1979) أنه من الصواب الثورة على العقلانية التي تحكمت في الإنسان والمجتمعات، وبأن التنوير –رديف العقلانية- قد أسر الإنسان في مخالب الأداتية. بالإضافة إلى مواقف مدرسة فرانكفورت وموقفها السلبي من عقلانية التنوير، ظهرت بفرنسا موجة "ظاهرة الفلاسفة الجدد" الذين هم بدورهم أرجعوا مآسي البشرية والرعب الذي عم في حروب بعض الدول الأوربية وما حدث بالثورة الفرنسية (1789) والثورة البلشفية (1917) وحتى الحربين العالميتين (1914-1939) وكل ما ارتكب من عنف بحق الإنسانية، قد غدتها –حسب موقفهم- أعمال مفكري التنوير: خاصة مع إمانويل كانط (1724-1804) حيث يقول أحد ممثلي هذا الاتجاه: " لقد استعمرت فلسفة الأنوار والعقل الأوروبي العالم وأقامت مطبخا فكريا ببني الثورات على دماء الآخرين". لكن ما يمكن التنبيه إليه من خلال مواقف مدرسة فرانكفورت وظاهرة الفلاسفة الجدد بفرنسا وتبنيهم لموقف سلبي من عقلانية التنوير، هو كون التحليل السالف الذكر كان تحليلا أحادي الجانب، لم يستوفي حق التنوير، بل اختزل الأفكار التنويرية في مآسي بشرية عاشتها الإنسانة، والتي تتعارض وجوهر الفكر العقلاني الأنواري الذي قام على مواجهة الظلمات والمآسي التي عاشتها الإنسانية خلال القرون الوسطى، وما الأفكار التنويرية إلا قطيعة مع فكر الاستبداد والظلمات. لا يمكن أن يختلف اثنان عن الدور الذي قامت به العقلانية في التنوير إلا من اختزل العقلانية في إطار مبادئ نظرية مجردة دون الالتفات إلى المضمون فهو بذلك يفرغ استعمال العقل من محتواه كما قال فلاسفة القرنين 17 و18. فعلى عكس ما ذهبت إليه مدرسة فرانكفورت والفلاسفة الجدد باعتبار أن العقلانية ليست سوى منظومة فكرية قامت على تناسق المبادئ ووجدت شرعيتها في عدم التناقض مع متطلبات العقل المجردة أيا كانت نتيجة ذلك على الإنسان والإنسانية جمعاء. نجد أن عقلانية التنوير حولت العقل في التنوير ملجأ للفكر السياسي والديني والأخلاقي والفلسفي يثبت فيه وبه نظرة مغايرة كما يقال عن الإنسان وعن الدين والدولة والفلسفة، نظرة تقاوم التسلط ليس بموجب تناغمها وتناسقها مع مبادئ منطقية، وإنما عملا بمضمون قيمي إنساني يحمي الإنسان والفرد والمجتمع من الاستبداد الذي طالما تحكم فيهم. *مفتش متدرب مادة الفلسفة