شهد المغرب منذ بداية الثمانينيات من القرن 20 ترسخ ظاهرة التنقل اليومي بواسطة القطار لشرائح اجتماعية متنوعة، شملت في بداية الأمر موظفي الإدارات والمؤسسات العمومية، سواء كانت مدنية أو عسكرية، ومأجوري المؤسسات البنكية وقطاع التأمين، إلى جانب المشتغلين والمشتغلات في قطاع التعليم الخصوصي أو العمومي، بمن فيهم التلاميذ والطلبة، إضافة إلى المشتغلين في قطاعات خدمية ومقاولاتية أخرى. فيوميا تتنقل هذه العينة الخاصة من المغاربة، ذكورا وإناثا، شبابا وكهولا، بين شريط حضري يربط عادة بين مدن الجديدة، وسطات، والدارالبيضاء الكبرى بمحطاتها المتعددة (مطار محمد الخامس، الوازيس، الدارالبيضاء المسافرين، الدارالبيضاء الميناء، عين السبع، والمحمدية)، وبوزنيقة، والصخيرات، وتمارة، والرباط بمحطتيها أكدال والمدينة، وسلا بمحطتيها المدينة وتابريكت، والقنيطرة بمحطتيها). وقد أصبح هذا التنقل بواسطة القطار جزءا لا يتجزأ من النشاط اليومي لهذه الشرائح بما يتطلبه ذلك من مجهود بدني وفكري وتكاليف مالية، وانضباط لمواعيد القطار المناسبة لتوقيت العمل، بالإضافة إلى الانشغال بالتدبير الأسري والعائلي، خاصة بالنسبة للموظفات والمستخدمات. ولعل مما ساهم في ازدياد ترسخ هذه الظاهرة هو هذا التوسع الحضري الذي عرفه المغرب، الذي تمركز بالخصوص على الشريط الساحلي الممتد من الجديدة إلى القنيطرة، والذي عرف نمو عدة مدن كبرى كالعاصمة الاقتصادية بامتداداتها الحضرية والسكانية، والعاصمة الإدارية بتوسع نشاطها الإداري، ومدن متوسطة كالجديدة وسطات وسلا والقنيطرة، إلى جانب مدن ناشئة كالمحمدية، وبوزنيقة، والصخيرات وتمارة... بالإضافة إلى أن تمركز النشاط الخدمي في الدارالبيضاء، وتمركز النشاط الإداري في الرباط، وقرب المسافة بين هاتين العاصمتين، اضطر العديد من الموظفين والمأجورين إلى تفضيل التنقل اليومي بواسطة القطار للعمل بدل الاستقرار في إحدى هاتين العاصمتين نظرا، من جهة، لاختلاف مزاجي بين سكان الرباط الذين عادة ما لا يستطيبون الوتيرة السريعة والصاخبة للعاصمة الاقتصادية، وسكان الدارالبيضاء الذين لا يستأنسون بالوتيرة البطيئة للعاصمة الإدارية التي يتحكم فيها منطق النشاط الإداري الرتيب وغلبة شرائح الموظفين على تركيبتها الاجتماعية. ومن جهة ثانية، لقصر المدة التي يقطعها القطار في الذهاب والإياب، خاصة بعدما عمل المكتب الوطني للسكك الحديدية على تغيير كبير في مواعيد القطارات السريعة التي أصبحت تنطلق على رأس كل نصف ساعة، بالإضافة إلى مجموعة من الإصلاحات والتجديدات التي طالت على الخصوص محطة الدارالبيضاء الميناء ومحطتي الرباط أكدال والمدينة. زيادة على ذلك، فتكاليف التنقل اليومي بواسطة القطار أقل مقارنة بالتنقل بالسيارة أو عبر الحافلة التي تتطلب بالإضافة إلى مصاريف الوقود، دفع وجيبة الطريق السيار، زد على ذلك تجنب عناء التنقل اليومي مع ما تتطلبه السياقة من جهد بدني وتركيز فكري، أو ضيق مسافة التحرك بالنسبة للمسافر اليومي بالحافلة. لكن بالموازاة مع ذلك، فمستعمل القطار اليومي يعاني مجموعة من المكابدات النفسية والبدنية تتراكم مع مرور السنين إلى معاناة نفسية وإجهاد بدني. النافيت والإجهاد البدني عادة ما يغبط باقي مستعملي الطريق، خاصة المتنقلين بالسيارة أو الحافلة من مدينة إلى أخرى للعمل بشكل يومي، مستعملي القطار المكوكي السريع الذي يربط يوميا العاصمة الاقتصادية وتوابعها من المدن بالعاصمة الإدارية وما جاورها من الحواضر، لما يتمتعون به، في نظرهم، من رؤية المناظر الطبيعية التي يمر بها القطار وما تتميز به من خضرة وأشعة الشمس وهم جالسين أو مستلقين أو نائمين بشكل مريح دون إحساس بأي خطر الذي عادة ما يتعرض له مستعملو الطريق السيار أو غيره من تصادم بين السيارات أو ازدحام مروري. بالإضافة إلى تمكن هؤلاء من قراءة أو تصفح الجرائد والمجلات أو مطالعة الكتب وقراءة بعض السور القرآنية، في حين يمكن للبعض الآخر أن يفتح حاسوبه أو هاتفه لمتابعة ما ينشر في الجرائد الإلكترونية أو الاتصال عبر "فيسبوك" بشبكته التواصلية، أو التحدث بأريحية في هاتفه النقال. لكن الذين خبروا عناء التنقل اليومي للعمل من بين مستعملي القطار المكوكي يحسون بالإجهاد البدني الذي يسببه هذا التنقل نتيجة للجلوس يوميا على مقعد لا تتوفر فيه، في الكثير من الأحيان، شروط النظافة والراحة، خاصة عندما تتقادم هذه المقاعد دون أن يتم تجديدها، مع ما يعلق بها من أوساخ وغبار، إلى جانب أشعة الشمس التي يمكن أن تلفح الوجوه في حالة تهالك أغطية النوافذ أو تكسيرها. كما أن الجلوس لفترات طويلة فوق مقعد متحرك عادة ما يضر بأسفل الجسم بسبب كثرة الزحزحة فوق السكك الحديدية، أو الفرملة المفاجئة للقطار. أضف إلى ذلك الصفير المتكرر للقطار، سواء في الانطلاق أو للإشعار، الذي عادة يحدث مع مرور الوقت طنينا في الأذن وإزعاجا داخليا. كما يتعرض مستعملو القطار، خاصة في فترات خاصة كنهاية الأسبوع أو أثناء العطل بمختلف أنواعها، للازدحام؛ حيث يضطرون، في بعض الأحيان، للوقوف طيلة مسافة الطريق بعد يوم عمل مجهد ومتعب. كما يضطرون إلى التأقلم مع نوعية خاصة من المسافرين الذين يتنقلون خلال هذه الفترة بالقطار، مع ما يحملونه من حقائب يضعونها كيفما اتفق نظرا لعدم تخصيص القطار ذي الطابقين، الإيطالي الصنع، أي حيز ملائم لوضع هذه الحقائب بشكل آمن ومريح. وتزداد معاناة "النافتيين" سوءا في حال تعطل أحد القطارات المكوكية (لأسباب خارجة عن إرادة المكتب)؛ حيث يتم تكديسهم مع باقي المسافرين مع ما ينجم عن ذلك من اكتظاظ ونرفزة وصراخ وصعوبة في التنفس. كما تعاني أجساد "النافتيين" و"النافتيات" يوميا من سوء تشغيل مكيفات القطار؛ حيث يؤدي تعطل هذه المكيفات إما إلى تسرب برد شديد في الوقت الذي يكون فيه الطقس باردا وشتويا، أو إلى حر شديد داخل مقصورات القطار في الوقت الذي يكون فيه الطقس حارا أو ساخنا، مما ينعكس على صحتهم؛ حيث تصبب أجسادهم عرقا أو تصاب بالرعشة. وقد ساهم ذلك في إصابة الكثير من هؤلاء بنزلات برد مفاجئة نظرا للتغير السريع في حرارة أجسامهم، بل أدى إلى إصابة بعضهم بالحساسية بسبب ما يعلق بمكيفات القطار من ميكروبات وفيروسات. النافيت والإجهاد النفسي عادة ما يعيش "النافتيون" في مختلف بقاع العالم ضغطا نفسيا بسبب ضرورة الانضباط اليومي والتقيد بمواعيد القطارات، خاصة تلك التي تتطابق مع مواعيد عملهم، لكن ما يميز "نافتيي" المغرب هو التخوف المزمن من تخلف القطارات عن مواعيدها بسبب تعطل كهربائي، أو حادث في السكة، أو انتظار لتحرير السكة، أو لأسباب خارجة عن إرادة المكتب، وهي العبارة التي ترددها الناطقة السككية كلما أعلنت عن تأخر أي قطار، والذي عادة ما يدوم، حسب الظروف، بين 10 دقائق و20 دقيقة، وقد يتجاوز الساعة أو الساعتين. ذلك يؤدي في الكثير من الأحيان إلى اضطرار "النافتيين" و"النافتيات" إلى الانتظار الطويل وهم جالسين أو واقفين متعرضين لتيار محطات القطار البارد، الشيء الذي ينعكس سلبا على نفسياتهم ووتيرة حياتهم؛ إذ عادة ما يسبب هذا التأخر المتكرر في مواعيد وصول القطار توترات نفسية تتراكم مع مرور الوقت، وتؤثر سلبا على نفسية هؤلاء نظرا لأن الجلوس أو الوقوف والانتظار الطويل عادة تكون له انعكاسات سلبية نتيجة شعور بالعجز والإحباط للإحساس بأنه لا بديل عن استعمال وسيلة النقل هذه والارتهان لنظام تسيير المكتب الوطني للسكك الحديدية الذي يفرض الثمن الذي يريد، ويحدد مواعيد القطارات الذي يريد، ويجبر المسافرين على استعمال قطارات جلها معطوب أو متهالك. وعلى الرغم من كل الاحتجاجات والتظلمات عن التأخير، والأعطاب، وتهالك التجهيزات، وتدني مستوى الخدمات، فالمكتب يفرض في آخر المطاف شروطه وطريقة عمله دون أي اعتبار للمسافرين وعلى رأسهم "النافتيين". ولعل ما يزيد من هذا الضغط النفسي اليومي لأغلب "النافتيين" هو هذا الضجيج التكنلوجي الذي يتعرضون له أو يساهم بعضهم فيه. فمنذ انتشار استعمال الهاتف النقال بالفضاءات العمومية بالمغرب، تحولت مقصورات القطار إلى فضاء للصخب بسبب تعود بعض المسافرين أو المسافرات التحدث مع مهاتفيهم بشكل متواصل ومسترسل قد يصل في بعض الأحيان إلى ما يقارب الساعة أو أكثر، مما يحول هذه الفضاءات إلى سوق للثرثرة والأصوات المرتفعة، الشيء الذي يقلق راحة المسافرين، وبالأخص "النافتيين" الذين يريد بعضهم الخلود إلى الراحة وبعضا من الهدوء للاسترخاء أو الإغفاء بعد يوم من العمل المضني والمتعب، أو يقطع على البعض سكينة مطالعة بعض الصحف أو المجلات أو متابعة قراءة بعض الكتب على غرار "نافتيي" قطارات دول أخرى. والمفارقة أن هناك بعض "النافتيين" الذين يساهم بدوره في هذا الصخب؛ إذ يحلو للبعض أن ينقل أو يكمل عمله داخل مقصورات القطار من خلال الاتصال بزبناء أو متعاملين معه ليواصل التحدث معهم حول شؤونه في العمل، كل ذلك بصوت مرتفع، ومغرق في الجزئيات والتفاصيل دون احترام لمن يجلس أمامه أو بجواره. وكثيرا ما يزداد هذا الصخب التكنولوجي إذا ما صادف أن تجاذبا "نافتيان" أو أكثر أطراف الحديث؛ حيث يستمر ذلك لفترة طويلة وبصوت مرتفع، لتتحول المقصورة بقدرة قادر إلى ما يسميه المغاربة "بسوق عام" أو "حمام للنساء". ولعل هذا الصخب التكنولوجي الناجم إما على الاستعمال المتواصل للهاتف النقال أو استعمال ل"الكيت" بصوت مرتفع، بالإضافة إلى هدير القطار وصفيره عادة ما يزيد من التوتر النفسي "للنافتيين"، ويؤثر على أعصابهم، الشيء الذي يلاحظ على وجوههم المتعبة، وحركاتهم المتثاقلة، وبحثهم الغريزي إلى الركون والانعزال. وإذا كانت سياسة المكتب الراهنة قد ركزت بشكل كبير على إعادة بناء محطات القطار، أو تجديد وتوسيع بعضها في إطار التهيئ لاستعمال القطار فائق السرعة الرابط بين طنجةوالدارالبيضاء في السنوات المقبلة، فقد أغفلت تجديد أسطولها من العربات التي أصبحت تجهيزاتها متقادمة وخدماتها أقل جودة؛ إذ يبدو أن صفقة استيراد قطارات من إيطاليا واستعمالها بالمغرب قد كانت لها سلبيات عدة على راحة المسافرين، وعدم انضباط في مواعيد انطلاق ووصول هذه القطارات بسبب الاعطاب المتتالية لمقطورات الجر، وتعطل ميكانيزم فتح وإغلاق الأبواب، وتسرب المياه إلى داخل هذه القطارات، الشيء الذي يحول هذه الأخيرة إلى برك مائية، خاصة في فصل الشتاء، بسبب التساقطات المطري. أضف إلى ذلك عدم ملاءمة عربات هذه القطارات ذات الطابقين لوضع أمتعة السفر بكل راحة وأمان؛ حيث يضطر أغلب المسافرين والمسافرات إلى حملها إلى العربات في الطابق الأعلى أو وضعها في الممرات مما يزيد من صعوبة تحرك وتنقل "النافتيين" بين عربات ومقصورات القطار، خاصة في فترات الازدحام والاكتظاظ. بالإضافة إلى ذلك، فكثيرا ما تفتقد المرافق الصحية لهذه العربات إلى كل شروط النظافة؛ حيث تكون في أغلب الوقت معطلة أو غير قابلة للاستعمال، رغم أن هناك شركات للنظافة مكلفة على ما يبدو بضمان صيانة هذه المرافق والحرص على توفير شروط النظافة فيها. من هنا، ضرورة تفكير المكتب في استيراد قطارات أكثر ملاءمة للسفر، تتوفر في عرباتها ومقصوراتها كل شروط الراحة والنظافة، مع وضع استراتيجية تعامل تفضيلي "للنافتيين" تقوم، على سبيل المثال، بتخفيض دوري أو سنوي في بطاقات الاشتراك لمستعملي القطار بشكل يومي؛ حيث يمكن أن يخصص المكتب لهؤلاء الزبناء الأوفياء اشتراكا شهريا مجانيا في بداية كل سنة، أو عدم احتساب الأيام التي لم يستعملوا فيها بطاقة اشتراكهم، إما لعطلة أو سفر أو مرض إلى غير ذلك. كما يجب على المكتب، تعويضا عن التأخير في مواعيد القطار بسبب الأعطاب التقنية أو عدم انضباط في المواعيد إلى غير ذلك من الأسباب، أن يكلف مراقبيه والأعوان المشتغلين بهذه القطارات، وليس إدارة المحطات، بتسليم المسافرين، وخاصة "النافتيين" من موظفين ومستخدمين وطلبة وتلاميذ... شواهد تثبت واقعة التأخر لدفعها للإدارة أو المؤسسة المشغلة أو المدرسة لتبرير هذا التأخر. كما ينبغي للمكتب، في إطار تطوير بنياته التحتية، من تجديد لمحطاته أو إعادة هيكلتها، وتوسيع للشبكة السككية، وتشبيب لموارده البشرية، أن يهتم بتوفير الفضاء الملائم للراحة، سواء البدنية أو الفكرية أو النفسية، من خلال تخصيص مقاعد مريحة وغير متقابلة، وتوفير مجلات وجرائد لمن يفضل المطالعة، مساهمة منه في خلق مجتمع قارئ ومهتم، بالإضافة إلى الرجوع إلى سياسة سابقة للمكتب كان يذيع فيها قطعا موسيقية بمختلف ألوانها، الشرقية والغربية والمغربية الأصيلة.