" إن عظمة الإنسان قائمة على أنه معبر وليس هدفاً، وما يستحب فيه هو أنه سبيل وأفق غروب" نيتشيه لا أحب من يقدمون ذواتهم قرباناً للأوهام، لتصبح يوما ميراثاً للإنسان بما هو إنسان، بيد أنني: أحب من يعيش ليتعلم، ومن يتوق إلى المعرفة لحيا الرجل المتفوق بعده . هكذا يعلن الفيلسوف عن مولد الإنسان العبقري من رماد الإنسان المتعلم الذي يتوق إلى المعرفة، لأن جدل الإنسان والحقيقة هو نفسه جدل العقل والتنوير، باعتبارهما معبراً نحو التاريخي، فبمجرد غزوه لأمة ما تتأهب لمغادرة قارة الشقاء والانحطاط، لتلج عالم الفكر والحرية، والتقدم، لكن أين هو هذا الإنسان الذي يتوق إلى المعرفة؟، وأين توجد قارة الحقيقة؟، وهل سيظل الإنسان العربي محروماً منها؟. لقد آن للإنسان الشقي في كل مكان أن يضع هدفاً نصب عينيه، وأن يزرع ما ينبت أسمى رغباته مادام للأرض بقية من ذخرها، إذ سيأتي يوم وينفذ هذا الذخر، وبما أن الزمان لا يتحمل الانتظار، فإن الشعوب المتخلفة قد ضيعت على نفسها فرصة اللقاء بالوعي التاريخي، حين أدارت ظهرها للمعرفة، وأرغمت الحرية على الصمت، والحقيقة على المنفى في الغروب، ولعل فضيلة الحقيقة تكمن في روح التسامح، لأن جراحها تتماثل للشفاء بسرعة، وتنسى كل آلامها، فهي تحب من يتحرر من العبودية ويرمي بنفسه في عالم المعرفة، بل ومن يعمل ويخترع ليبني للإنسان العبقري مسكنناً، لأن هذا الطموح وحده يعيد العبقرية للإنسان، هكذا ينمو البراديغم من خلال نخبة من المفكرين العلماء، ويقوم بتفجير براديغم أشباه العلماء. من أجل بناء الفكر العلمي، ينبغي استعادة الحق في الحقيقة، ولن تحصل هذه الاستعادة إلا بالمعرفة، ومولد الإنسان العبقري، ولذلك: أريد أن أعلم الناس معنى وجودهم ليدركوا أن الإنسان المتفوق إنما هو البرق الساطع من الغيوم السوداء، من الإنسان . فهذا الإنسان المحرر لأمته من الجهل والعبودية هو الذي تنتظره الشعوب العربية، بيد أن ولادته لا يمكن أن تتحقق خارج مجال الفكر، والفكر لا يستمد عظمته إلا من عقل الأنوار، وهذا العقل هو الصورة المتحركة للفلسفة، لأن اكتمال هذا النسق، والسماح له بممارسة فعله التاريخي في المجتمع، وهو الذي يقود لأمة إلى قدرها المبتهج، ويخلصها من قدرها الحزين. لن أكون سلفياً أو قومياً. إذا قلت بأن الحقيقة ظلت متعقلة في سجن التراث، وتحريرها لا يعني اجترار التراث، بل تحريضه على ثورة التحرر من الرؤية الدوغمائية، لكي يساهم في التنمية الفكرية، لأنه من المستحيل أن تنفصل الأمة عن تراثها، ولكن من العبث أن تقدسه وتحرم نفسها من دراسته، وبخاصة ذلك التراث العلمي والفلسفي، لأن التراث هو الماضي الحاضر، ولا يجب أن يعرقل صيرورة التقدم، لأن هناك من يستغله من أجل حرمان الناس من الحرية والمساواة والمعرفة: أنظروا إلى المؤمنين بجميع المعتقدات تعلموا من هو ألد أعدائهم إنه من يحطم الألواح التي حفزوا عليها سننهم، ذلك هو الهدم، هو المبدع . فلأمة التي تحارب هذا المبدع المفكر هي أمة تعتز بجهلها، وتفتخر بانحطاطها. من الظلم أن تتحكم جماعة من الناس ، منهزمة تاريخياً، في مصير أمة بأكملها، وتوجهها إلى حروب طائفية، وتنشر الأوهام، وتعمم الجهل، وتحكم على الفكر والحقيقة بالإعدام، بيد أن الحصاد قد يكون مخيباً للأمل، عندما تكون الأعشاب الضرة هي المسيطرة، لأنه عندما يتمرد الشعب المتطرف عليهم، تبدأ الحرب، والتخريب، والهدم والتصفية، وما يقع الآن لأكبر شاهد على ذلك، إذ ينبغي أن يوجه التحول في الوجدان المشتعلة إلى تطور في العقل، لأن ازدهار العقل معناه انتشار المعرفة. يتراء لي الأفق بعيداً يمتد في المدى، لا تستطيع التأملات قراءة مستقبله، لأنه يخفيه بحجاب إيديولوجي من الصعب تمزيقه، لأن حراس العدمية يقاتلون باستماتة من أجل حمايته، وكل ما يبقى أمام الفكر التنويري هو أن يعلم: الناس إرادة جديدة يتخيرون بها السير على الطريق التي اجتازها الناس عن غباوة من قبلهم، أعلمهم أن يطمئنوا إلى هذه الطريق فلا تنزلق أرجلهم عنه كما انزلقت أرجل الاعلاء المتهكمين. على أن هذه السموم التي أحذوا بلذتها ورهبتها لم يستخرجوها إلا من الجسد ومن الأرض . ولذلك لقد حان وقت الفرار من هذا الشقاء كما يفر هؤلاء النازحون من جحيم الحرب، والفرار معناه العودة إلى النفس ومعرفة أعماقها، من خلال المعرفة العلمية، ذلك أن العودة إلى النفس لا تتم إلا مكن خلال التدرج في مراتب العلوم، إلى أن يحقق الإنسان كماله في الفكر، وينبهر أمام نور الحقيقة، وضياء مثال الخير، ذلك أن الإنسان بما هو إنسان ينبغي أن يكون عاقلاً وخيراً، لكي يحقق وجوده في هذا العالم، أما الإنسان الجاهل والشرير، فإنه لا ينتمي إلى العالم إلا بالعرض، لأنه يقوم بتخريبه، ونشر الرعب، فالخير بوصفه ممارسة لقول الحقيقة هو أشرف وأسمى مثال يصل إليه العقل بعد خروجه من الكهف الأفلاطوني، فالإنسان الخير يكون عادلاً، يسود ذاته نظام تام، ويسطر على نفسه، كما يسيطر الموسيقي على أنغامه.