ألاحظ أن التربية السائدة في مجتمعنا، سواء في المنزل أو المدرسة أو الشوارع، ترتكز أساسا في خطابها على "قال الله...." وقال "الرسول...." وقال "العلماء..." وقال "الإمام..." وقال "شيخنا..."... ومن ثم، لا يمر موضوع من المواضيع أو دراسة حتى تسمع تدخلات بِ"قال..."، وهذا حرام وهذا حلال. والغريب هو أنه حتى في المواضيع البعيدة كل البعد عن الدين لا بد للمغربي أن يتدخل فيها برأي الدين، حسب ما بُرمج عليه ذهنه سابقاً. والأخطر من هذا وذاك هو أنك ترى سلوك شخص ما بعيدة جداً عن قيم الدين، فتجده مثلاً في حالة سكر، وعند أيّ نقاش يتدخل برأي الدين. كما تجد أيضاً شخصاً آخر ينافقك جهراً ويستهلك النميمة وفي الوقت نفسه يتحدث بلسان الدين. وقد تصادف أيضاً شخصاً آخر يغش في عمله ويخدعك وفي الحين نفسه يتحدث بلسان الدين كأنه الفقيه الورع. أود الإشارة إلى أنني لستُ ضد الدين (أيّ دين كان)؛ بل بعكس هذا، فأنا على إيمان راسخ بأن الدّين وُجد ليكون سبب استقرار الإنسانية وتقدم المجتمع. والحق أنه لا يتحقق هذا الهدف إلا إذا احترمت شروطه، ليكون وسيلة تحقيق السعادة والسلم والمحبة والتعايش بين كل البشر. فماذا أصاب الفرد المغربي ليصل إلى هذا التناقض وانعدام النزاهة بين أقواله شبه الدينية وبين أعماله وسلوكاته في الحياة اليومية؟ إنني على يقين بأن الفرد في مجتمعنا لا يتعمد المراوغة؛ بل يتصرف عن لا وعي بالتناقضات بين أقواله وبين أعماله، لأنه تعوّد أن يُنتج بطريقة أوتوماتكية تلقائية ما غُرس فيه أو ما رُكب في ذهنه منذ صغره من برامج دينية، ويتعامل على أساس الصفة التي رُوِّض عليها فكره. ولهذا، يجد نفسه، في أية مناسبة كانت، مرغماً على إعلان هويته الدينية بالاعتماد على "قال الله، وقال الرسول، وقال العلماء، وقال الشيخ"، وعلى البرامج الدينية التي تم تثبيتها فيه بدون إعمال العقل والنقد. ولقد أصبح المغربي مقيداً بما بُرمج عليه وكأنه آلة تنطق بأفكار المُبرمِجين له ومُسحت قدرات تفكيره الشخصي. ولهذا، نرى فوارق شاسعة بين شدة الهوية الدينية وبين سلوكه التي لا تستلهم شيئًا نافعاً من هويته الدينية لخدمة مجتمعه ووطنه! وكل ما أراه ناتج من هذه الهوية هو الكلام بِ"قال..." والقيام فقط بالطقوس الدينية كأنها أساس الدين وغايته! كما ألاحظ في الوقت نفسه غياب الهوية الوطنية لديه وحقده على مؤسسات وطنه؛ لأنها لا تطبق البرامج الدينية التي رُكبت في ذهنه، فيدخل في تنازع معها ورغبته في تغييرها واستبدالها بمؤسسات أخرى تتوافق مع هويته الدينية التي زرعت فيه بشكل مشوه. وهكذا، اغتالت تلك الهوية الدينية في نفسه الهوية الوطنية. وبذلك، أصبح المغربي حبيس هوية واحدة هي الهوية الدينية، فصار كارها لوطنه بدون وعي، وصار يبحث بكل السبل عن الهجرة إلى دول أخرى.. وعِوض أن يرفع هويته الوطنية في بلده الأم، فتراه يرفع ويدافع عن علم هويته الدينية في كل بقاع العالم التي يذهب إليها. وهذا ما أنتج التعصب الديني والإرهاب لديه، فيرى بأن ماليزياً أو باكستانياً من هويته الدينية نفسها أقرب إليه من بني وطنه وشعبه، وهذا يفسر لنا جانباً مهماً من أسباب هجرة أعداد كبيرة من الشباب المغربي إلى بلدان يمارس فيها الجهاد والإرهاب لرفع علم هويته الدينية. فلو أن التربية في المنزل والشارع والمدرسة وفي مجالات الفن والثقافة والإعلام ركزت أساسا على الهوية الوطنية والمواطنة تاركة الدين يتجسد في الأعمال والسلوكيات واكتساب الفضائل الإنسانية لكان هناك تكامل حقيقي بين الهوية الوطنية وبين هويات دينية متنوعة، على أن يكون الهدف الأساسي الجامع هو التعاون في خدمة المجتمع والوطن. ومع الأسف، ركزت التربية والتعليم أساساً تركيزا مكثفا على الهوية الدينية بدون تلقين الطفل مفهوماً صحيحاً للدين وتنشئته على قيم حرية الفكر وإعمال البحث والنقد واحترام التعددية وحرية العقيدة والحس بالانتماء إلى المجتمع وخدمة الوطن والتعايش وترسيخ السلم والسلام والسعي إلى تحقيق الوحدة في التنوع. ولعل من أسباب رواج إيديولوجية الهوية الدينية هو ما سبق ترويجه عن مفاهيم موهومة بشأن "الأمة العربية الواحدة"، خادعين الأطفال بأن اللغة العربية والدين الواحد يجمعان بين جميع البلدان "الناطقة بالعربية"، متعمدين تغييب الحقائق عن التلاميذ في مدارسنا بأن في كل بلد عربي لغات وثقافات وديانات أخرى متنوعة ولا يمكن تغليب هوية منها على بقية الهويات. وهكذا، أصبحت الهوية العربية ممتزجة بهوية دينية ولغوية واحدة بنمطية مشوهة تم تلقينها لعدة أجيال. ومن ثمّ، اندثرت الهويات الوطنية الحقيقية؛ وهو ما تسبّب في إضعاف هياكل المجتمعات "العربية"، وفي خلق العديد من الكوارث التي نعاني منها اليوم. بطبيعة الحال، أصبح العالم وطناً واحد بل قرية صغيرة، بالرغم منا. ولهذا، فإن هوية المواطن العالمي بدأت تتكون عضوياً بداخلنا؛ ولكن نمو هذه الهوية العالمية بحاجة إلى استقرار الهوية الوطنية بكل تنوعاتها، حتى يصبح حب العالم وحب الوطن شيئا واحدا. ولقد حان الأوان لنقوم بتغيير أساليبنا التربوية والتعليمية وإعادة تكوين وإعداد رجال التعليم وتطوير قدراتهم؛ لأن تغيير المقررات التعليمية النظرية لا يغيّر وحده شيئا من البرامج والمعتقدات التي رُكبت في أذهان المغاربة على مدى عدة عقود. *طبيب ومحلل نفساني