عاد المغرب إلى الاتحاد الإفريقي، وكان العود أحمد بفضل دبلوماسية ملك. حضوره كان وازنا ومؤثرا. وما تحقق إذن فهو إنجاز، وأصبح مكسبا ومحسوبا على مرحلة مضت؛ لكن كيف يمكن الحفاظ عليه؟ وكيف يمكن استثماره وتطويره إلى ما فيه خدمة قضيتنا الأولى؟ وهنا، ينبغي أن تكون للإبداع المغربي مكانة على الساحة، وهي لن تتأتى إلا بنبذ الذات ونكرانها والقضاء على فيروس النرجسية التي لا تفارق القائمين على السياسة الخارجية المغربية. مرض عضال تم توارثه. إن الظاهرة ليست وليدة اليوم أو البارحة بل هي نتاج لتراكمات سلبية مردها إلى النظرة الدونية والاستخفاف بالأطر يقارب أحيانا الإهانة. تجليات ذلك منها الإقصاء أو قطع الطريق أمام أطر لإثبات الذات تتوفر فيها أصلا نواة الكفاءة، أو إبعاد الكفاءات الجاهزة للعطاء عن الدائرة الضيقة التي لا يدخلها إلا من كان له السند أو مشمول بالعطف والرضا أو المنحدر جينيا من أبناء المجتمع المخملي. كل ذلك وغيره قد حدث ويحدث في غياب مسار مهني. مسار ما زال خاضعا للاعتقال في أرشيف تراكم عليه الغبار. لا يريدون الإفراج عنه لأنهم ببساطة لا يريدون العمل في الوضوح والشفافية. الكفاءة والاستحقاق عوض أن يكونا من المبادئ المحفزة على العمل والنبوغ بات ينظر إليهما بعين غير راضية كمن هو مصاب بمرض الجذام؛ فالإقصاء المتعمد للأطر الوازنة وترجيح كفة فاقدي الكفاءة والأهلية من أصحاب النفوذ كان له التأثير السلبي على أداء الدبلوماسية المغربية من قبيل الاختلالات البنيوية والهيكلية، وتراجع في المردودية والحصيلة بسبب غياب الرجل المناسب في الموقع المناسب. ونحن اليوم نمني النفس ونقول لعلها مرحلة تكون قد انتهت، ويجب أن تنتهي؛ لأن المرحلة الراهنة تختلف اليوم عن سابقاتها، ولم يعد هناك متسع للمزاجية وللمحسوبية بالنظر إلى الانتظارات وطبيعة تحديات المرحلة المقبلة التي هي أكبر بكثير من أن نعالجها بعقلية بائدة يفترض اليوم أن تكون قابلة للنسيان. ولذلك، فإن ما ينتظرنا من تحديات يستوجب منا بالأساس أن نعيد النظر في أسلوب العمل وطريقته بعيدا عن الشخصانية وعن الزج بقضيتنا الوطنية في حسابات ضيقة. عودتنا إلى الاتحاد الإفريقي تعني خروجنا من الجهاد الأصغر وتأهبنا للدخول في الجهاد الأكبر. ونعتقد جازمين أن طريقة العمل وتحديد آليات لأداء أفضل توازي في أهميتها كل الخطط والبرامج التي تشكل المكون للإستراتيجية المرسومة. ولذلك، يتعين من الآن على القائمين على وزارة الخارجية استحضار الآليات التالية كأدوات للاشتغال: 1 إحداث خلية دائمة بالإدارة المركزية لرصد ومتابعة كل التطورات ذات الصلة بالاتحاد الإفريقي. ويجب أن تتشكل هذه الخلية من ذوي الاختصاص في مجالات قانونية وسياسية واقتصادية وأمنية ومن رجال اكتسبوا الخبرة المطلوبة في الحقل الدبلوماسي، على أن تكون هذه الخلية دائمة الانعقاد. واعتبارها مرجعا وعنوانا للمخاطبة، وأن تضطلع بعدة أدوار، منها: استقبال التقارير من مختلف البعثات الدبلوماسية ذات الصلة بالقضية الوطنية التنسيق ما بين المندوبيات الدائمة للمملكة في كل من أديس أبابا ونيويورك وجنيف تحليل المعطيات وتحويلها إلى مخططات عمل في خدمة الإستراتيجية المغربية تعميم تلك المعطيات حسب حاجيات البعثات الدبلوماسية متابعة مدى تنفيذ تلك التعليمات وتقييم أداء البعثات بشكل دوري من حيث الحصيلة والمكاسب التي تحققت لصالح القضية الوطنية تجاوب الخلية مع المتطلبات التي تفرزها تطورات القضية وتمكين البعثات في زمن قياسي بالتعليمات اللازمة لمواجهة المستجدات في عين المكان، بعيدا عن التعقيدات البيروقراطية التي غالبا ما تفوت على الدبلوماسية المغربية فرصا حقيقية لانتزاع مكاسب. إجمالا، يفترض في هذه الخلية أن تكون سندا وموئلا للسفراء الذين غالبا ما يشتكون من عدم تجاوب الإدارة المركزية في بعض الحالات أو المواقف أو الإشكالات التي يخشون الحسم فيها في ظل عدم وجود تعليمات واضحة. ويبقى السفير أو السفراء في حالة انتظار وترقب لتلك التعليمات التي قد لا تصلهم على الإطلاق أو قد تصلهم بعد فوات الأوان. ومرد ذلك إلى عدم وضوح الرؤيا أو التهرب من تحمل المسؤولية مع عدم استبعاد الكيدية ضد هذا السفير أو ذاك بدعوى أنه ليس من الجماعة التي تحظى بتزكيتي ووجب محاربته. عقلية مغروسة ونأسف لوجودها. 2 إحداث وزارة مكلفة بالشؤون الإفريقية أصبح أمرا من الضرورات القصوى التي باتت تفرض نفسها على المشهد الدبلوماسي، والتعاطي معها ينبغي أخذه على محمل الجد. المغرب، الذي تشكل القارة الإفريقية بالنسبة إليه خيارا استراتيجيا يحتل سلم الأولويات، أصبح مطالبا بإثبات هذا الخيار في إيجاد هيكلة حكومية تتفرغ للنهوض بالمهام والمسؤوليات التي أرست قواعدها دبلوماسية ملك؛ فالالتزامات تجاه القارة أصبحت جسيمة ومتشعبة، والملف أخذ حيزا كبيرا في السياسة الخارجية المغربية مما يتعين معه إحداث وزارة متفرغة. فهناك ما يزيد عن 1000 اتفاقية أبرمها المغرب مع معظم الدول الإفريقية شرقها وغربها وجنوبها ووسطها، ومتابعتها بكل دقة هو أكبر من أن تتولاه أو تتحمله مديرية كمديرية الشؤون الإفريقية بالوزارة. فمقاس هذه المديرية بات على درجة كبيرة من الضيق بحيث لم يعد يتسع لاحتواء حجم ملف لا يمكن له إلا أن يكبر ويأخذ منحى متزايدا. 3 إحداث لجنة برلمانية متفرغة للشؤون الإفريقية تتشكل من برلمانيين لهم رصيد من العلاقات الخارجية مع مختلف الهيئات والمؤسسات التمثيلية في الخارج، وأن يكونوا على درجة من المؤهل العلمي يمكنهم من حضور قوي ووازن في مختلف المحافل الإقليمية والدولية، وخاصة في البرلمان الإفريقي كإحدى المؤسسات التي تشكل اليوم حلبة للصراع مع خصوم وحدتنا الترابية، وهي المؤسسة التي تجد لها مقرا عند خصمنا الأول بامتياز جنوب إفريقيا. هؤلاء البرلمانيون، بالإضافة إلى ما ينبغي أن يتمتعوا به من روح قتالية، يجب أن تتوفر فيهم كذلك دراية شاملة بالقضية الوطنية بأبعادها التاريخية والقانونية والسياسية ودراية بقواعد وضوابط العمل في المؤسسة التشريعية الإفريقية؛ لأن هذه المؤسسة تشكل مصدرا لإلهام وتوجيه الاتحاد الإفريقي. فالدور المعول فيه على برلمانيينا أساسي من حيث إجهاض المخططات المناوئة ووأدها في مهدها. فالظرفية لم تعد تسمح كي يبقى برلماننا وكالة أسفار لحجز التذاكر والتجوال في العالم للتسوق. الصرامة والجدية والمتابعة والمساءلة هي عناوين هذه المرحلة لرفع التحديات والارتقاء إلى مستوى الانتظارات. 4 إحداث طفرة نوعية في ما ينبغي أن يكون عليه أداء السفراء. صحيح أن القاعدة الخلفية للسفراء هي الإدارة المركزية تصونهم تحميهم تمسكهم بأيديهم تمدهم بالمعلومات والتوجيهات؛ لكن في الوقت نفسه لا ينبغي إعفاؤهم من المساءلة. الكل يجمع على أن لنا قضية أساسية وهي القضية الوطنية، وينبغي لكل سفير أن يصبح ويمسي عليها. نشاطه في بلد الاعتماد ينبغي ألا يقتصر على السلطات الرسمية؛ بل يجب أن يمتد إلى كل الفعاليات العاملة في المجتمع من هيئات تمثيلية وأحزاب وإعلام ومجتمع مدني. ويتعين عليه أن يزود الوزارة بتقارير دورية عن تلك الأنشطة ومدى تأثيرها على القضايا التي تهم المغرب، على أن تتولى الوزارة بدورها التدقيق في مدى صحة تلك التقارير. اليوم مع تطور التكنولوجيا ووسائل الاتصال بات من اللازم على مختلف البعثات الدبلوماسية استغلال هذه الوسائل في التواصل مع مختلف فعاليات المجتمع. وفي هذا الصدد، نذكر مدى أهمية وسائط التواصل الاجتماعي في بناء العلاقات خارج القنوات الرسمية وفي التأثير على الرأي العام لبلد الاعتماد من خلال نشر رسائل قصيرة هادفة تصل إلى الجميع؛ فالتأسيس لهذا المشروع والدعوة إلى الأخذ به لا ينطلق من فراغ بل من وجود ممارسات على أرض الواقع في الأداء الدبلوماسي للعديد من الدول الغربية ودول أخرى منها ما هي عربية التي لا تتردد في استخدام هذه الوسائط للدفع بمشروع أو الدفاع عن فكرة تدخل في صلب اهتمامات وانشغالات ذلك البلد الذي يمثله السفير؛ بل إن بعض السفراء وأعوانهم يرصدون من خلال هذه الوسائط ما يكتب عن بلدهم ويتواصلون مع المعنيين في اتجاه كسبهم. لكن أين سفراؤنا من هذا كله، والحال أن العديد منهم لا يرقى إلى النهوض بالمهام الموكولة إليه ولو في حدها الأدنى كما هو مطلوب في الدبلوماسية التقليدية؟ وإذ الحال كما هو، يبقى دور الإدارة المركزية أساسيا من حيث التوجيه والتأطير وتحديث وتطوير طرق العمل بما يتماشى مع متطلبات الظرفية في زمن قياسي وكيفية اختزال الوقت. لنا قضية ينبغي أن نرصد لها الإمكانات اللازمة وبعقلية جماعية يختفي معها الفكر الأحادي في مواجهة الذات قبل مواجهة الخصوم. 5 فتح الباب المغلق على مصراعيه في وجه الأطر المغربية لتقلد المناصب الدولية، ولكي يكون بلدنا حاضرا بقوة داخل المنظمات الإقليمية والدولية. الوضعية تشير إلى أننا نكاد أن نكون غائبين في تلك المحافل على عكس الحضور المصري أو الجزائري أو التونسي الموجود والمتحكم في دواليب بعض المنظمات. وعلى سبيل المثال، نسوق أن مجلس السلم والأمن، منذ تأسيسه كجهاز بداخل الاتحاد الإفريقي، لم يخرج عن دائرة التحكم والنفوذ الجزائري أي ما يزيد عن عشر سنوات وهو معتقل لدى النظام الجزائري. ترأسه لأول مرة رمطان لعمامرة، وزير الخارجية الحالي للجزائر، وخلفه في المنصب نفسه مواطنه إسماعيل شرقي الذي تجددت له مؤخرا الولاية الثانية. نحن في المغرب نبني العوائق للحيلولة دون تمكين أطرنا من الظفر بتلك الوظائف الدولية والاعتبارات لا تخرج عن كونها اعتبارات شخصية غالبا ما تكون لها صلة بالجانب المادي. والمتضرر في النهاية هو الوطن؛ فالعديد من المناصب في تلك المنظمات يحيطها أهل القرار بالكتمان والسرية. ومن تأتى له أن يعلم بها صدفة لا يحظى بالتزكية. ولذلك، فإن حضور بعض المغاربة على قلتهم في بعض المنظمات ناتج عن جهدهم الشخصي وما لديهم من رصيد من العلاقات لا فضل للدولة عليهم فيه. لكن من هذه الصورة القاتمة، نستثني رجلا يجب أن نوفيه حقه وهو السيد عمر هلال، السفير المندوب الدائم للمملكة بنيويورك، الذي لا يتوانى في الدفاع عن الأطر المغربية وتثبيت أقدامهم في منظومة الأممالمتحدة، وكان له الفضل في كون بعض الأطر لها اليوم صفة الموظف الدولي. ونريد من هذا الاستثناء أن يصبح القاعدة العامة ونهجا متبعا من لدن وزارة الخارجية المغربية. وقد أخجل من نفسي، وليس القصد إحراج القائمين على دبلوماسيتنا، أن أسوق نموذج "جزيرة موريس"، التي لا يتجاوز عدد سكانها مدينة الخميسات، أن يكون حضور هذا البلد الصغير في المنظمات الدولية يضاهي حضور فرنسا بينما وضعية بلادنا تكاد تكون شبه منعدمة. ولذلك، وجب توجيه نداء إلى من يعنيهم الأمر بضرورة الإقلاع عن هذه الممارسات المشينة التي لا تليق بمغرب أريد له أن يكون حداثيا وفي مستوى مقارعة الخصوم من داخل هياكل المنظمات؛ فالدسائس والمخططات المناوئة غالبا ما يتم إعدادها في المكاتب المغلقة، ويتدبر شأنها القائمون بشكل مباشر على تلك الأجهزة. ولنا تجارب مريرة مع الطواقم التي كانت تعمل إلى جانب بان كي مون، الأمين العام السابق؛ لأن هناك غيابا كنا نحن السبب فيه ولا نلوي على شيء سوى الاستغراب. فالرهان في كسب المعارك متوقف إلى حد ما على حضور مغاربة كموظفين دوليين في مختلف المحافل، فهل هناك من استعداد لفتح الباب المغلق والإفراج عن المناصب الشاغرة وتقديم التزكيات ودعم لمرشحي تلك المناصب بشكل رسمي ومن خلال حملة تقودها وزارة الخارجية بحمل البعثات الدبلوماسية المعنية على تأييد ومساندة تلك الترشيحات؟ التحديات كثيرة وكبيرة، ولا مناص من مواجهتها ما لم تتغير العقليات. والتغيير فكرة تترجم إلى مشروع والمشروع يترجم إلى سياسة، والسياسة بحاجة إلى تنزيل؛ فلتكن البداية الآن، وليس غدا. [email protected]