بصمت التعيينات الملكية للحكومة الجديدة على لمسة خاصة ابتغت صقل الدبلوماسية المغربية وإعادة هندسة هرمها، فكان أن عُينت على رأس الخارجية أول شخصية دبلوماسية خالصة في عهد الملك محمد السادس تؤازرها كاتبة دولة راكمت تجربة طويلة في ميداني الاقتصاد والتجارة. وبما أن السياسة الخارجية مجال محفوظ للمؤسسة الملكية، مثلما ينص على ذلك دستور 2011 وبخاصة الفصل 55 منه، تُحيل البنية الجديدة للخارجية المغربية على دلالات ومؤشرات مرتبطة برؤية ملكية تتوخى تجويد عمل الدبلوماسية المغربية الذي شابَهُ قصور كبير في جوانب متعددة وتقوية حضور المملكة والدفاع عن مصالحها في المحافل الرسمية الدولية والحرص على نجاعة التدابير والإجراءات التي يُسطرها عاهل البلاد بصفته رئيس الدولة وممثلها الأسمى والحريص على احترام التعهدات الدولية للمملكة. تعيين ناصر بوريطة على رأس وزارة الشؤون الخارجية والتعاون الدولي لم يكن بالأمر الاعتباطي؛ بل هو تحصيل حاصل وضرورة تفرضها الملفات الثقيلة التي تنتظر القائمين على دهاليز دبلوماسية المملكة. كما أن الإتيان ببوستة ككاتبة دولة، وهي التي يجري الاقتصاد في دمها، دليل على أولوية الدبلوماسية الاقتصادية في تعزيز العلاقات الخارجية لبلادنا بالموازاة مع إعمال ورقة الاقتصاد وحسن استخدامها في اختيار الحلفاء الإستراتيجيين وفرض مصالح المغرب السياسية منها على الخصوص. أهل مكة أدرى بشعابها تقتضي المرحلة الدقيقة التي تمر بها المنطقة والعالم والتغيرات التي همت القوى العظمى في السنة الحالية من صعود إدارة أمريكية جديدة وتقلب في سياسات أوروبا وقدوم أمين عام أممي يرى الأمور بمنظار مغاير لسلفه وترقب تعيين مبعوث شخصي جديد للصحراء أن يقود الخارجية أهلها الخبيرون بكواليسها والأمناء على علبتها السوداء. وإذا كان السيد بوريطة قد بصم بشكل بارز على مختلف قرارات الخارجية وتحركاتها سواء عندما كان كاتبا عاما منذ سنة 2011 أو وزيرا منتدبا قبل سنة من الآن، فإن استوزاره جاء ليُضفي على تحركاته الدولية وخرجاته الرسمية صفة الدبلوماسي الأول للمملكة ويمنحه بالتالي أريحية أكبر وانسيابية في تنفيذ الرؤية الملكية لتوجهات السياسة الخارجية. ؤاوإذا ما دققنا في أنشطة الماكينة الدبلوماسية المغربية في السنوات القليلة الماضية سنلحظ الحضور الكاريزمي القوي لبوريطة في جُل المهمات الخاصة التي تُسطرها المؤسسة الملكية؛ ومن ذلك أن سافر، في يوليوز من السنة الماضية، للقاء الرئيس النيجيري محمد بهاري مرفوقا بياسين المنصوري، مدير المديرية العامة للدراسات والمستندات؛ وهي المهمة التي كللت بنجاح دبلوماسي وأمني على حد سواء، وأعادت المياه إلى مجاريها بين نيجيريا والمغرب، تلتها مهمة أخرى في أقل من 24 ساعة قادته إلى الجزائر للقاء الوزير الأول للجارة الشرقية للحديث عن الأمن الإقليمي والعلاقات الثنائية بين البلدين، بالرغم من كل الشوائب. ثم جاءت الرسائل الملكية الخطية التي حملها ناصر بوريطة في مارس المنصرم إلى رؤساء كل من غانا ومالي ونيجيريا في إطار سعي المغرب الحثيث إلى الانضمام إلى المجموعة الاقتصادية لغرب إفريقيا "سيداو" لتؤكد على أن الرجل أكثر من مجرد دبلوماسي بل محط ثقة من لدن الملك محمد السادس والمستشارين الملكيين الساهرين على رسم مسار السياسة الخارجية للبلاد. ولعل صحيفة لوموند الفرنسية أصابت حينما وصفت بوريطة ب'لاعب الوسط' في الفريق الذي انتقاه الملك والذي لعب دوراً أساسيا في الحملة الشرسة التي كُللت بعودة مُكرمة للمغرب إلى الاتحاد الإفريقي. كما أن إشراف السيد بوريطة على مديرية الأممالمتحدة والمنظمات الدولية خلال تدرجه في مناصب المسؤولية بالوزارة يجعله أهلاً للوقوف شخصياً على كل ملفات المملكة التي تُعرض بالأساس على الأممالمتحدة مُلماً بما يجري في ردهات المنظمة في نيويورك وقارئا لما بين سطور قراراتها، وهو ما لم يتمتع به أسلافه من الوزراء السابقين. تعاون دولي وأولوية اقتصادية إذا كان العمل الدبلوماسي يقوم بالأساس على تطوير التعاون الدولي وتنسيق العلاقات الخارجية للمغرب من خلال التمثيليات والبعثات الدبلوماسية المنتشرة في الجهات الأربع من العالم فإن أدبيات العلاقات الخارجية اليوم تسمها المقاربة الاقتصادية ويحدد مسارها نسق يقوم على المصالح المتبادلة. ومن ثَم كان لزاما على الخارجية المغربية أن تسير على النهج الذي خطه ملك البلاد في خرجاته الدولية، حتى أن الطائرة الملكية باتت تحمل من رجال المال والأعمال ورؤساء المقاولات ما لا تحمله من الساسة وباقي مكونات المشهد الرسمي في البلاد في تأكيد على براغماتية الإستراتيجية المغربية الرسمية في نسج علاقاتها الدولية. بناء على ما سبق، كان لزاما أن تنضم إلى قيادة سفينة الخارجية شخصية تتقن الملفات الاقتصادية والإستراتيجيات الكبرى للدولة، فجاء تعيين كاتب دولة بمدلولين اثنين، سيدة متمرسة دلالة على تألق المرأة المغربية ونجاحها في تقلد أرفع المناصب وتكريس للمهمة التي أدتها امباركة بوعيدة كوزيرة منتدبة بديناميكية واضحة، ومدلول ثان على الحظوة التي يتمتع بها الاقتصاد لدى مهندسي السياسة الخارجية للمغرب بقدوم بوستة من صندوق الإيداع والتدبير مُراكمة لتجربة تتعدى العقدين في وزارة التجارة والصناعة. والأكيد أن تقلد السيدة مونية بوستة لمنصب مديرة مديرية التجارة الداخلية لعقد من الزمن بوزارة التجارة والصناعة وبعدها كاتبة عامة للوزارة نفسها سيشكل قيمة مضافة للإشعاع الخارجي لسياسة المملكة، ذلك أن المُلمين بقطاعي التجارة والاقتصاد عبر العالم واعون بأن أفضل طريقة لمسايرة تحولات العالم الاقتصادية تمر بالأساس عبر الاضطلاع بجوانب الاقتصاد الداخلي بنقائصه ومثبطاته لرصد مكامن الخلل وتجويد الآليات التي من شأنها تحسين أداء القطاعات الحيوية ومسايرة النماذج الدولية الناجحة، وهو ما يتوفر دون شك في بوستة التي يُنتظر منها أن تضفي لمستها على العمل الدبلوماسي وتُشكل بالتالي قُطب الرحى في سياسات الخارجية في بعدها الاقتصادي. عندما نربط الهندسة الملكية الجديدة لطاقم الخارجية المغربية بالتحولات التي طرأت على المشهد الدولي نستشف أن هناك دراية بما ينتظر المغرب خارجياً ورؤية متبصرة لمآل وغايات السياسات المتبناة، فصعود ترامب رجل المال والأعمال وحرصه على الشراكة الاقتصادية في كل علاقة إستراتيجية تربط الولاياتالمتحدة بدول العالم وكذا إعمال الصين وروسيا لمبدأ الاقتصاد والربح أولاً في معظم شراكاتها بالإضافة إلى مسلسل الشراكة الذي يربط المغرب بالاتحاد الأوروبي والسعي إلى بلورته كلها عوامل تجعل من حضور الدبلوماسية الاقتصادية على أجندة الخارجية المغربية ضرورة ملحة أكثر من أي وقت مضى. التحديات والانتظارات لقد برزت مؤشرات الإصلاح والتطوير المستمرين لمؤسسة الخارجية المغربية بقوة في العديد من الخطابات والرسائل الملكية الموجهة لمحافل متعددة، استهلتها الرسالة الملكية الموجهة إلى 'ندوة سفراء جلالته' سنة 2013 التي أكدت على ضرورة أن يكون سفراء المملكة جنودا يسخرون كل جهودهم لخدمة القضايا الاقتصادية لبلادهم. وبدت لهجة ملك البلاد أكثر حزما في خطاب العرش لسنة 2015 حينما انتقد خمول كثير من قنصليات المملكة في الخارج وعدم رقيها لمستوى تطلعات مغاربة العالم، وهو ما تُرجم بحركة واسعة شملت القناصلة تلتها حركة أوسع شملت 56 سفيرة وسفيرا. تغير الوجوه والأسماء وكذا المسؤوليات لن يؤتي أُكُله إذا لم تؤطره مراقبة صارمة وعمل دؤوب لتفعيل الرؤية الملكية لجهاز الخارجية. ولعل السيد بوريطة واع بالملفات المتنوعة التي تنتظره على مكتبه بزنقة روزفلت، من بينها تتبع لعمل سفارات المملكة ودب الحركة في أوصال الكثير منها بعد أن ظلت لسنوات مجرد فضاءات لاستجمام السفراء قلما تُعرف بقضايا المغرب ولا تفتح أبوابها لإعلام الدولة المضيفة إلا لِماماً، كما سيستمر في الدفاع الشرس عن ملفات المغرب التي لا تقبل التراجع ولا التساهل في مواجهة خصوم المملكة، وإن قلوا على مستوى الساحة الإفريقية فيبقى وجود بعضهم منغصا لدوائر القرار. حري بالدبلوماسية المغربية اليوم، وبعد الإنجازات الملكية المتتالية، أن لا تجعل معظم جهودها مُنصبة على القارة الإفريقية، بل وجب استغلال هذه الأخيرة كحديقة خلفية للمملكة تبثُ من خلالها نموذجها الاقتصادي والسياسي المتفرد وتفند كل المغالطات بخصوص ملفات المغرب الحساسة من قبيل الصحراء المغربية وملف حقوق الإنسان ومناخ الاستثمار، إذ لا ضَير في الانكباب على استهداف أقطاب دولية جديدة مع صيانة ما تحقق من مكتسبات دبلوماسية. لا يختلف اثنان اليوم في ضرورة تفعيل المقاربة الاستباقية لتفادي الضربات المباغتة والاستفادة من هفوات الماضي لإعادة ترتيب أوراق الدبلوماسية المغربية حسب الأولوية التي بفرضها التوقيت والمناخ الدوليين مع رصد لمتغيراته؛ وذلك ما فطن له ملك البلاد بتعيينه "دينامو" السياسة الخارجية على رأس وزارة لها ثقلها بهدف بث حركية جديدة في شرايين مختلف المديريات والمصالح وكذا التمثيليات المكونة لها. يكاد يكونُ هناك إجماع على أن الظرفية الإقليمية الحالية ملائمة للدبلوماسية المغربية لفرض سياستها وتعزيز موقعها الدولي انطلاقا من منصة إفريقيا التي تفتقد اليوم لنموذج قيادي وقوة صاعدة وهو ما يتوفر في المغرب دون غيره من دول القارة السمراء المنشغلة بأزماتها المختلفة. وبات من الضروري اليوم التركيز على أمريكا اللاتينية بالأساس التي لا تزال كثير من دولها متعاطفة مع الأطروحة الانفصالية ومنساقة وراء مغالطات تاريخية وواقعية، ثم تأتي بعد ذلك دول وسط آسيا وجنوب شرق آسيا وأوروبا الشرقية التي قلما يحضر فيها النشاط الدبلوماسي المغربي ويغيب فيها التنسيق بين القنوات الدبلوماسية، إلا أن ذلك لن يتأتى ذلك دون دراسة دقيقة لوسائل التأثير المختلفة حسب اختلاف الدول ومرجعياتها الإيديولوجية وحمولاتها الحضارية والثقافية؛ بيْدَ أن الإعلام يبقى أهم منفذ للترويج للموقف المغربي والقضايا الوطنية وصد كل محاولات التشويش وتزوير الحقائق. الأكيد أن خصوصية وزارة الشؤون الخارجية والتعاون الدولي تكمنُ في أنها تشكل انعكاسا لتوجهات الدبلوماسية الملكية التي درجت على أن تكون ليّنة من غير ضعف وشديدة من غير عنف متكيفة مع المناخ الجيوسياسي الدولي ومتغيراته ودارسة لكل خطوة وبادرة مع حرص على تحصين المكتسبات وتعدد الشركاء الإستراتيجيين وخدمة مصالح المغرب، وذلك دَيدنُ الرؤية الملكية. مترجم وكاتب باحث