القرار التاريخي والاستراتيجي الذي أقدم عليه المغرب بالعودة إلى الاتحاد الإفريقي، كما أشرنا في مقال سابق، ليس غاية في حد ذاته بقدر ما يشكل مرحلة جديدة لمعركة حقيقية في حلبة ظلت لثلاث عقود من الزمن تحت رحمة وتأثيرات الخصوم. ولكي تكون هذه المعركة ذات جدوى، فإن ذلك يقودنا إلى التساؤل ماذا أعددنا من عدة لنكون في مستوى التحدي؟ وهذا التساؤل نفسه يجرنا إلى الحديث عما إذا كانت هناك استراتيجية شاملة واعية ومتبصرة تمكننا من اقتحام أدغال إفريقيا. وليس الغرض في هذا المقال التطرق إلى مكونات هذه الاستراتيجية وأركانها التي وضعتها وسهرت عليها دبلوماسية ملك وبالخصوص في غرب إفريقيا، وهي استراتيجية متعددة الأبعاد وجاءت شاملة لمختلف المجالات الاقتصادية والثقافية والروحية والأمنية، كما جعلت المغرب ينفرد عن غيره وعن منافسيه بطروحات ذات مصداقية وتعود بالنفع أيضا على شركائه ضمن معادلة قوامها التعاون التشاركي. إذن ليس همنا أن نخوض في هذه الاستراتيجية فالجهات العليا تغرد وتزبد بشكل محكم، بل ما نسعى إليه هو البحث في الأدوات الناجعة والمداخل النافذة التي تعبد الطريق لهذه الاستراتيجية وتنزيلها بشكل فعال ومثمر. وانطلاقا من المعاينة المجردة ومما تراكم لدينا من تجربة قد نكون فيها بكل صدق أقل من غيرنا ، نومن بأهمية أدوات العمل كأهمية الماء في السقي لكنه من دون السواقي فإنه قد يدخل في زمرة االسقي العشوائي ، وهو المصير الذي قد ينتظر دبلوماسية تنعدم فيها أدوات عمل عاجزة عن الفهم وعن القدرة في المواكبة ولا في تنزيل الاستراتيجية العليا للبلاد. ولذلك، نعتقد أن هذه الأدوات منها ما هو مرتبط بطبيعة العمل الدبلوماسي، ومنها ما هو مرتبط بالشق الإعلامي وآخر له صلة بركن الدراسات الأكاديمية والعلمية القائمة على المعرفة وتحيين المعلومات عن القارة الإفريقية التي نجهل عنها الكثير. 1 على الصعيد الدبلوماسي: في إطار الاهتمام المتزايد بالقارة الإفريقية وتطلعا إلى الدور الذي نصبو إليه كي يكون لنا شأن وكلمة وازنة بعيدا عن الاستقطاب أو الدخول في منافسات مع قوى إفريقية لا نريد أصلا منازعتها، يجب علينا في المدى المنظور أن نعزز هذا التوجه باتخاذ قرارات على النطاق السياسي والدبلوماسي كي نظهر لشركائنا في إفريقيا ولمنافسينا بأن المغرب عاقد العزم على المضي في هذا التوجه بالقول والفعل، وعلى أن خياراته تجاه إفريقيا هي خيارات حقيقية وملموسة. وفي أولى الإشارات القوية،نعتقد أنه لابد من إحداث منصب وزاري مع أول تعديل أو تغيير حكومي بتعيين كاتب دولة للشؤون الإفريقية على أن تكون على رأس هذا المنصب شخصية تكنوقراطية لها دراية بالقارة الإفريقية ولها معرفة جادة وعميقة بملف قضيتنا الوطنية وقدرة فائقة على التواصل مع العقلية الإفريقية. فالدول التي لها عادة قضايا وطنية تقوم بمثل هذه التعيينات في إطار ما أسميه شخصيا بالدبلوماسية المتفرغة، وهي الدبلوماسية التي يجب أن تنزل بكل ثقلها في النقاط الساخنة ذات الصلة بقضيتنا الوطنية.فلم يعد للمجال متسع كي نعالج قضايانا في أن يكون الوزير الواحد حاضنا ومتتبعا لكل شاردة وواردة في أرجاء العالم لأن في هذا الاهتمام الواسع والمترامي الأطراف قد يقل التركيز وتنفلت الامور إلى الحد الذي تضيع معه القضية. فنحن في هذه الظرفية وفي إطار هذا التوجه الإفريقي قد نكون في أمس الحاجة إلى الأخذ بهذه الدبلوماسية المتفرغة . المتابعة الحثيثة والاقتراب من نبض الهواجس الإفريقية وفهم العقليات، كل ذلك يستدعي اتخاذ خطوات من هذا القبيل تحمل في ثناياها رسائل إلى الأفارقة حول مدى جدية توجه المغرب ومدى انخراطه في دائرة انشغالات القارة. الأداة الثانية في سياق العمل الدبلوماسي الجاد تتمثل في الاختيار الذي ينبغي أن يقع على السفراء المؤهلين للعمل في الحقل الإفريقي. فمادام المغرب قد اختار رفع التحدي لكي يستعيد مكانته التاريخية ومجده الضارب في القدم على مستوى هذه القارة، عليه أن يختار الأدوات اللازمة ليكون في المستوى المطلوب. فلا ينبغي أن نرفع السقف ونقوم ببخس الأشياء عند التعامل معها بأدوات تقل عن المستوى المطلوب. ومن هنا تاتي أهمية دور السفير في خط التماس الدبلوماسي. السفير ينبغي أن يكون من العيار الثقيل وأن يتوفر على الشروط الملائمة للمنصب من كفاءة وتجربة وحضور للبديهة، ودراية بالبلد الذي اختير له وإتقان لغة بلد الاعتماد، ثم تاريخ هذا البلد، وحاضره، وتركيبته السياسية والإثنية. كما ينبغي هذا السفير أن يكون رجلا مؤهلا للتواصل منفتحا لا منغلقا كما هو الحال عند العديد من السفراء الذين بدلا من أن تكون عينهم على ما يحاك ضد بلادنا، تبقى مصوبة ومنشغلة فقط بالإعتمادات المالية وما تبقى منها في نهاية كل شهر، أو كما تنطوي عليه القائمة الحالية للسفراء المرشحين والتي يندى لها الجبين كونها تتضمن بعض الأسماء التي لا علم لها بأبجديات العمل الدبلوماسي. ومن أجل الحقيقة وبعيدا عن كل ضغينة بل من منطلق محبتنا لهذا الوطن، نقول إن من بينهم لم يسبق له أن اشتغل في ملفات سياسية ولا يعرف من أين ياتيها، مساره المهني إما بقي محصورا في تقنيات الشؤون الإدارية أو في جوانب تتعلق بشؤون الإدارة المالية. فإذن كيف يمكن لنا أن نصل إلى السقف الذي وضعه قائد البلاد بأطر عديمة الكفاءة والتجربة. إننا في هكذا أحوال نهدم الصرح ولا نبنيه. وبقدر ما ندعو إلى توفير الإمكانيات المادية للاشتغال في الحقل الإفريقي التي لابد من وضعها رهن كل سفارة والتصرف فيها بكل شفافية وتسخيرها للأغراض المرصودة إليها، فبقدر ما نشدد على المتابعة والمحاسبة. فالإدارة المركزية يجب أن تضع خارطة طريق لكل سفير بحسب بلد الاعتماد، وفي كل حين ولحظة تتصدى له بالمحاسبة وبتقييم دوري لحصيلة نشاطه من تتبع لما يرد منه من تقارير وغيرها وفحصها بكل دقة للوقوف على صوابها من عدمه. فالحلقة لا تكتمل ولا يشد بعضها ببعض إلا ببناء متكامل ومنسجم الأركان. فمادمنا اخترنا العودة إلى الاتحاد من منطلق عدم الاستمرار في سياسة الكرسي الفارغ، فإنه لا ينبغي أن يعترينا مركب نقص إن نحن قررنا إعادة العلاقات الدبلوماسية مع تلك الدول التي ما زالت تعترف بالكيان الوهمي. فالمعركة واحدة سواء في أديس بابا أو في عواصم تلك الدول. إلا أنه في أديس بابا، مقر الاتحاد الإفريقي، ينبغي التزام جانبا من اليقظة وبروح من الوطنية في اختيار السفير الملائم لهذا المنصب. كما يجب أن يكون معزز الجانب بطاقم من وزراء مفوضين ومستشارين لا يقل عددهم عن ستة حتى يكون الحضور قويا وعلى مدار الساعة لملئ الساحة في كواليس الاتحاد الإفريقي. الرصد والترصد هو الشغل الشاغل والعمل الدؤوب لهذا الطاقم.التحديات وإن كانت كبيرة فالإرادة ينبغي أن تكون أكبر. 2 على الصعيد الإعلامي : الاعلام لا يقل أهمية عن الدبلوماسية، بل هو نافدة على العالم وفضاء مفتوح على العموم. بفضله يمكن التأثير على الرأي العام واستمالته إلى القضايا التي نناضل من أجلها. لكن ليست أية سياسة إعلامية يمكن أن توتي ثمارها. فالسؤال المطروح علينا أن نحدد ماذا نريد حتى نصل إلى ما نريد.وما هي المواد الإعلامية التي ينبغي أن نسخرها للأغراض المسطرة. ولذلك، قد آن الأوان لإنشاء قناة فضائية موجهة في برامجها إلى القارة الإفريقية تبث باللغات الثلاث الفرنسية والإنجليزية والإسبانية. ترصد أولا في موادها الإعلامية الأخبار التي تهم هذه القارة، وثانيا جعل هذه القناة محطة فضائية للتعريف بالمغرب وبتاريخه وبجغرافيته وبمنجزاته في مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وفي مجال حقوق الإنسان، ثالثا جعل هذه القناة امتدادا للإشعاع الروحي والديني لبلادنا على القارة بأجمعها، والبحث في إمكانية بث هذه المواد الدينية بمختلف اللغات ليكون التواصل والتعريف بالمذهب والعقيدة والتسامح الديني والتعايش الاثني كأدوات لمحاربة الفكر المتطرف. أعتقد أن بلادنا لها من الرصيد التاريخي ما يمكن أن يشكل مادة إعلامية غنية ودسمة. فالإشعاع المغربي الذي تم عن طريق القوافل التجارية والزوايا كيف لا يمكن له أن يتيسر في ما نحن عليه اليوم من فضائيات عابرة للحدود وفي زمن قياسي . ونحن هنا نحاول أن نرد على أولئك الذين يستصعبون إخراج هذا المشروع إلى حيز الوجود. صحيح أنه قد يأخذ حيزا زمنيا لكي يرى النور لكن الإعداد له لا يصنف في دائرة المستحيل مادامت الإرادة السياسية متوفرة ومادام التوجه نحو إفريقيا أصبح خيارا محتوما ومادامت المواد الإعلامية يتيحها لك رصيدك التاريخي في إفريقيا. الإشكالية المطروحة والتي ينبغي الانكباب عليها تكمن في إلجوانب التقنية من تجهيزات ومن إعداد أطر يتم تأهيلها لتعمل بالمقاييس الاحترافية في المجال الإعلامي. والمغرب، كما عهدناه، مغرب التحديات. فالعبقرية التي أنتجت مسيرة خضراء لا يحد من إرادتها إنشاء قناة فضائية هناك أو هناك. 3 إحداث مركز ملكي للدراسات الاستراتيجية يعنى بالشؤون الإفريقية: من علامات الحداثة في الدول الديمقراطية إنشاء مراكز أو معاهد للأبحاث والدراسات الاستراتيجية تشكل فضاء للباحثين من الوطن وخارجه يعملون في استقلالية وبمعايير علمية وأكاديمية بحثة. خصوصية هذه الدول أنها تتيح لك المجال للبحث بكل ما يقتضيه العلم والمعرفة من حرية في التفكير وخارج عن أية وصاية. إن مثل هذه المراكز في الدول المتطورة تلعب دورا في غاية الأهمية بحيث ما يصدر عنها من دراسات يمكن لصناع القرار أن يستأنسوا بها لأن مجال الباحثين في التحرك وفي البناء المعرفي أوسع من المجال الذي يعمل فيها السياسي. ولذلك يلاحظ في هذه الدول إقامة جسور للتواصل بين ما هو أكاديمي وبين ما هو سياسي. ففي إسرائيل على سبيل المثال تجد دائما في ديوان رئيس الوزراء مستشارا من مهامه التواصل مع الأكاديميين والباحثين من مختلف الجامعات والمعاهد المحلية للاستئناس بباكورة أبحاثهم في كل نازلة يقتضيها الموقف. وأعرف أن استشهادي بهذا الكيان قد يكون مستفزا للغير، لكن لسنا هنا بصدد المقارعة في شرعية وجوده أم لا بل أردنا أن نقر بشيء واحد وهي الطريقة التي يشتغل بها هذا الكيان والتي ترتكز من بين ما ترتكز عليه، على المعلومة التي تصله بفضل ما تعده المعاهد الإسرائيلية من دراسات حول كل صغيرة وكبيرة عن المحيط العربي المناوئ. وتعزيزا لهذا التوجه الإفريقي الذي يجب أن يبنى على معرفة الأشياء، فإن بلادنا كما فعلت في الحقل الديني بإنشاء مجلس أعلى على مستوى أئمة إفريقيا مطالبة أيضا في الحقل المعرفي أن تتجه نحو إنشاء معهد ملكي للدراسات والشؤون الإفريقية يضم ثلة من العلماء والمفكرين والباحثين والمتخصصين في قضايا القارة السمراء. ونعتقد أن النواة لإنشاء هذا المعهد متوفرة في بعض المراكز الحالية التي ما زالت في بدايات عهدها وما زالت تعاني من قلة الإمكانات إن لم يكن بعضها يعمل بإمكانيات ومبادرات خاصة. ولذلك ينبغي الارتكاز عليها وتطويرها. كما لا نستثني في أن يكون للجامعات هي الأخرى حضور في هذا المجال بالتوجه نحو خلق شعب أمام الطلبة تدرس فيها مواد تعنى بقضايا القارة الإفريقية إن على المستوى السياسي والدستوري أو الاقتصادي وكذا الجوانب الديموغرافية المتعلقة بالإثنية وغيرها. ولا شك أن هذا التوجه قد ينتهي بدفعات من الطلبة المتخرجين تستفيد منها مختلف الدوائر الحكومية وعلى رأسها وزارة الخارجية التي تريد أن يكون لها دور بارز في هذا الحقل الإفريقي. وفي هذا الصدد، ندعو القائمين على الوزارة إلى تفعيل هذا التوجه بإطلاق حلقات دراسية عن إفريقيا داخل المعهد الدبلوماسي في إطار التكوين المستمر للأطر العاملة في هذا القطاع. وبالمناسبة ينبغي أن يشرف على هذا المعهد من يجمع ما بين البعد الأكاديمي والبعد الدبلوماسي على غرار ما كان عليه المدير السابق للمعهد حيث كان الرجل يتميز بعمقه الفكري وبتجربة راكمها كسفير في أكثر من بلد. وأخيرا، ليس همنا من هذا الاسهام المتواضع جدا أن يؤخذ أو يعتد به، بقدر ما نريد أن يكون شرارة تحفز الهمم نحو التفكير بشكل جاد وعلمي من أجل نهج سياسة إفريقية كما أرادها ملك البلاد أن تكون. فالاستراتيجيات لا تقف عند حدود المعلن، بل ينبغي أن تتجاوز ذلك إلى اقتران القول بالفعل. ذلك ما نبه إليه خطاب العرش. وللقائمين على الوزارة مروحة من الخيارات المهم فيها أن تكون النوايا وطنية وأن ترقى إلى المستوى المطلوب. [email protected]