تعيش الصناعة السياحية التركية أصعب أيامها بعد أن أرهقتها الظروف العصيبة، التي مرت منها البلاد خلال سنة 2016، وتفاقم الأزمة السياسية مع موسكو، وتحاول بالكاد أن تلملم جراحها لتعود إلى سابق توهجها، غير أن الأفق يبدو صعبا وقد ينذر بمزيد من الصعاب. وقد تسببت الأحداث المأساوية والدموية، التي عرفتها تباعا تركيا، في تراجع الأداء السياحي وعدد السياح الوافدين على البلاد، الذين يشكلون مصدرا مهما من العملة الصعبة، وهو ما حرم تركيا من مداخيل هامة تقدر بنحو بنحو 9.35 مليار دولار، ولم تتعد الإيرادات العامة من القطاع السياحي السنة المنصرمة 22.107 مليار دولار مقابل 31.464 مليار دولار سنة 2015. وبحسب معطيات رسمية، فإن تركيا لم تسجل إلا نحو 25 مليونا و350 ألفا من السياح الوافدين في عام 2016، مما يمثل انخفاضا بنسبة 30 في المائة مقارنة مع ما تم تسجيله عام 2015، كما أن مداخيل السياحة اعتبرت الأضعف خلال السنوات الأخيرة بعد أن وصلت إيراداتها سنة 2014 نحو 34.3 مليار دولار، في الوقت الذي تشير فيه الوقائع إلى أن انطلاقة الموسم السياحي خلال السنة الجارية مرت في ظروف سيئة. ويعيش الاقتصاد على ايقاع صعوبات جمة أثرت فيه الظرفية الصعبة التي يعرفها القطاع السياحي، كقطاع استراتيجي يساهم بنحو 5 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي ويشغل نحو 15 بالمائة من الفئات النشيطة، وقد أشر الربع الثالث من سنة 2016 على هذا الانهيار بعد أن عرف القطاع السياحي تراجعا على مستوى المردود بنحو 1.8 بالمائة؛ وذلك لأول مرة منذ سبع سنوات. وأكد رئيس الجمعية التركية لأرباب الفنادق، تيور بايندير، أن مهنيي القطاع السياحي يستشعرون معاناة السياحة الموجهة إلى السائح الأجنبي لتأثرها بتداعيات الوضع الأمني الصعب، معتبرين أن "الأشهر الستة المقبلة ستكون حاسمة، مع استحضار إمكانية أن يحدث انتعاش كامل في أفق الأربع سنوات القادمة، شريطة أن يعرف الوضع العام تحسنا لائقا ". وقد عاش أصحاب الفنادق بتركيا أحلك الظروف خلال موسم الصيف المنصرم مع انخفاض حاد في نسبة الملء ببنيات الاستقبال، التي لم تتعد خلال شهر غشت 53.4 بالمائة، وهو عادة الشهر الذي يعرف إقبالا كبيرا، إلا أن الظروف الأمنية وحدوث محاولة الانقلاب قوضت مسعى المهنيين ليسجلوا أدنى معدلات الملء على مستوى عموم أوروبا؛ وذلك وفقا للبيانات الصادرة من مؤسسة "إس طي إر" العالمية، الرائدة في تحليل أسواق قطاع الفنادق. وبما أن المصائب لا تأتي فرادى، فقد عرف القطاع السياحي التركي، بحسب الأمين العام لرابطة وكالات السفر التركية، سيتين غورشون، تراجعا مهولا في عدد السياح الروس الوافدين على البلاد، وهو الأسوأ على الاطلاق منذ سنة 1999؛ فقد انخفض عدد بنحو 72.2 بالمائة ولم يتجاوز إجمالا 866.256 ألف سائح، مقابل 2.8 مليون سائح روسي سنة 2015، ورغم ذلك من غير المستبعد أن يسجل القطاع السياحي العودة المكثفة للزوار الروس خلال الأشهر القادمة، خاصة وأنهم يفضلون عادة وجهة شواطئ أنطاليا (جنوب البلاد) المتميزة برمالها الذهبية ومناظرها الخلابة. وقد سارعت الفعاليات السياحية التركية في إطار مخططها للموسم السياحي الجديد، الذي ينطلق عامة مع شهر مارس، إلى محاولة استقطاب واستمالة السياح الروس وكسب السوق الروسية من جديد مع طرح عروض مغرية لدفع السياح الروس إلى اختيار الوجهة التركية بالشكل الذي كان عليه الحال سابقا. ومع هذا الأمل المنشود في عودة السياح الروس بكثافة، الذين يفضلون الإقامة على مقربة من شواطئ البحر، فإن الأمر قد لا يهم بالضرورة وجهة اسطنبول، التي تتميز بعرضها الثقافي خاصة. وفي الواقع، فقد استهدفت الهجمات الإرهابية عمدا المواقع السياحية التي تشكل رموز مدينة اسطنبول التاريخية، مثل موقع السلطان أحمد؛ حيث لقي 12 سائحا ألمانيا مصرعهم في يناير 2016، وساحة "تقسيم" (4 قتلى في مارس الماضي)، وهي المواقع التاريخية التي تستقطب اهتماما كبيرا للسياح الأجانب، الذين يستهويهم سحر المدينة التاريخي، والتي تتميز بعدد من القصور والمساجد والمناظر الخلابة المطلة على مضيق البوسفور، وهي المواقع ذاتها التي تعيش مخاوف متزايدة من التعرض لأي حادث مأساوي. وقد استضافت اسطنبول نحو 109 ملايين سائح في السنوات ال 15 الماضية، ومع ذلك لم يتجاوز عدد الذين قدموا للتمتع بجمالية التمازج بين الحضارتين الشرقية والغربية إلا 9.2 مليون سائح سنة 2016؛ أي بنسبة تراجع وصلت إلى 26 في المائة مقارنة مع ما سجل سنة 2015 (11.8 مليون)، وفقا للأرقام الصادرة عن وزارة السياحة التركية. ومن أجل احتواء الوضع الصعب الذي تعيشه السياحة التركية وتبديد الصورة النمطية التي ترسخت عند البعض من أن وجهة تركيا تكتنفها المخاطر، سيعمل مهنيو القطاع على إطلاق حملات للترويج للمنطقة أمام السياح المسلمين، خاصة من منطقة الشرق الأوسط، لتدارك الموقف وإرجاع قطاع السياحة إلى سابق عهده وتعويض التراجع المهول في عدد الوافدين. وقد دخل الرئيس التركي بدوره على الخط لدعم السياحة في بلاده من خلال إطلاق حملة تواصلية إعلامية تحت شعار "تعال إلى جارك"، لحث أفراد الجالية التركية المقيمة بالخارج لزيارة تركيا و"قضاء عطلهم في بلادهم الأصلية، في أفق الرفع من حجم السياح الوافدين على المدى القصير إلى نحو ثمانية ملايين بإيرادات تبلغ نحو 50 مليار دولار، ثم بعد ذلك إلى 86 مليار دولار في عام 2023 (الذكرى المئوية للجمهورية)". * و.م.ع