نتهت الفرحة العارمة التي اجتاحت امتداد الوطن، بعد الانتصار الكروي الذي تحقق بعض منه للمغاربة في بلاد "الغابون"، فكان أن تفجرت وكالعادة في هذه المناسبة ظاهرة الخروج إلى الشارع، ليس احتجاجا ولكن ابتهاجا كاسحا بانتصار قلما فرح به المغاربة في السنوات الأخيرة، ما أفرز مؤشرات سيكولوجية لها دلالات خطابية في مجتمعنا، لا يمكن تأويلها إلا اعتمادا على معطيات هي موضوعية بالدرجة الأولى... ومن بينها ما يلي: 1-خروج الشباب للتظاهر تلقائيا بشحنة متضخمة من الابتهاج. 2-الهتاف بالشباب عموما والفريق الوطني خصوصا. 3-التنويه المحفز بالوطن وبكل جهد يعلي شأنه. -فأي تفسير يمكن استنتاجه انطلاقا من هذه المعطيات؟ -إن"كرة القدم"، وهي رياضة عصرية شعبية، يلاحظ أنها بمثابة لعبة القاعد العريضة، وأيضا مجال للمنافسة المحلية والقارية والعالمية..ولذا تتحقق فيها الذات تلقائيا، بعد كل انتصار كروي لدى شعوبنا الإفريقية عامة والشعب المغربي خاصة.. والذات هنا تم تأكيدها على بعدين؛ الخارجي أولا والداخلي ثانيا، وذلك باعتبار أن الأول هو مفجر الثاني، كمؤشر على عفوية يحتضنها الشارع.. هذا الشارع الذي هو في بلادنا زخم من الشباب وطاقاته بمختلف أدواره..وما تظاهر هذا الشباب وهتافه إلا تعبير قوي عن رغبة ملحة للخروج من الحصار المضروب عليه ضمن التصنيف الجائر والمفروض أمميا، أي تصنيفه بما يسمى "العالم الثالث" في خانة التخلف، وأيضا الحصار المضروب عليه داخليا من طرف تدبير عقيم وإهمال كارثي ... وهذه الرغبة الملحة تتوق بكل حماس إلى دخول حضاري ذاتي في عالم اليوم.. فهناك، كما هو جلي، طرف "ماكروحضاري" يتمثل في الغرب، صنف نفسه كونيا في قمة الترتيب، وتموقع في أعلى درجات التقدم، ورتب الآخر انطلاقا من ذاته خارج زمانه، ثم أقفل كل المنافذ.. إن هذه الانتصارات عموما هي ناتجة عن منافسة بمنظور كوني، سواء كانت وطنية أو حتى إفريقية، تأتي عبر التظاهر العفوي، تعبيرا عن محاولة ضرب ذلك التصنيف الجائر وتبديده، عن طريق إثبات أن القدرة والطاقة الكامنة في شعبنا هي عبارة عن زخم فوق كل التصنيفات والاحتكارات .. ومن هنا تتفجر المشاعر الهائجة رغبة في الإشعار برفض العجرفة التي تعتري حضارة العصر وتصنيفاتها.. هذه الحضارة المتعالية، والتي لا تعتد إلا بالقوة المادية المحتكرة لديها.. فلا تبث في كيان المجتمعات لدينا سوى الشعور بالنقص الحضاري والدونية التاريخية والثقافية، قصد تكريس التبعية والتفاوت... لكن هذا الشعور المبثوث سرعان ما يضمحل عندما تسنح الفرص، فيستيقظ الوعي بالذات مع هذا التظاهر التلقائي والجماعي، ليؤكد على أن هذا الشباب قادر وغير عاجز، لا ينقصه طبيعيا أي شيء عن شباب الغرب وشباب العالم المتحضر.. فلا تمييز عنصريا ولا عرقيا اثنيا أو مناخيا أو تراثيا أو فيزيولوجيا يمكن أن يستدعي التفرقة بين البشر، إذ لا اختلاف في شيء سوى في الإمكانات والوسائل المحتكرة لدى هذا الغرب، والذي لا يجود بقليلها إلا متى حصل على الثمن الباهظ وبكامل البراغماتية، قوام هذه الحضارة المعاصرة، التي تستهلك طاقات هذا المسمى "العالم الثالث" لصالحها..والمثال غير الحصري يبدو في الفريق الوطني الفرنسي الذي يكاد يكون جله من أصول إفريقية... فإذا كان هذا التوجه الخارجي هو خطاب تلك الفرحة الكروية، فإن لهذه الفرحة ذاتها خطابا آخر ذا توجه داخلي كما سبق ذكره، يلح على أن الشباب غير مخيب للظن، وأن أخذه بعين الاعتبار والعناية ضرورة واجبة، لإخراجه من بؤرة الحصار المضروب عليه في كل المجالات، لأنه باستطاعته الاضطلاع بالأدوار الواعدة.. ومن هنا كانت الهتافات تركز على الشباب ورموزه الرياضية، وأيضا على طفرة "الفوز" الذي تحقق في المجال الكروي بالذات.. إن جوهر هذا الخطاب ذي التوجه الداخلي يكمن في الاعتراف، نسبيا، بأن الوسيلة كانت ناجعة والغاية صائبة، وما الهتاف إلا مطلب واعتراف وتشجيع لمثل هذه الإنجازات التي أهلت لهذه الفرحة الكروية، خاصة ما أبداه اللاعبون الشباب من جهد وعزيمة... لكن من هو هذا الشباب المتحرك بهتافاته؟ إنه ذاك الذي لا يحترف الرياضة ولا يلعب لعبتها الكروية ولا يشارك في مباريات أو لقاءت دولية... إنه ذاك النسيج الاجتماعي الذي يعيش ويحس ويعي واقعه كمواطن، فيتحمس إلى كل البطولات الفرجوية لديه، في الملاعب والميادين وأمام الأجهزة السمعية والبصرية، متمنيا أن يكون لبلده دوما حظ منها وكذا من غيرها... إنه ذاك الطافح بالآمال لإثبات الذات في كل شيء رفيع... فكل فوز يتاح له في مناسبة ما يجدد فيه الثقة بالنفس ويدفع به إلى البذل متى أتيحت الفرصة، وهذا معطى مؤكد.. أليست تلك الفرحة بالانتصار الكروي هي خطاب يحمل في توجهه دلالة عميقة تهدف إلى التأكيد على أن في بلدنا طاقات زاخرة ومادة خاما وفيرة من الشباب، يكفي معها اتباع الأسلوب الناجع، على كل الأصعدة بدون استثناء، لدحض تلك الأحكام والتصنيفات المستوردة، ولتزكية الانتصارات والمطامح المصدرة..؟ نعم، على كل الأصعدة وبكل الجهود، إذ ينعدم التباين في ما بين ما هو سياسي أو اقتصادي أو ثقافي، وما تعارف الناس عليه وتكتلوا به في وحدة اجتماعية، ولو على صعيد المنافسات الفرجوية، المثيرة للذات الحيوية.