منذ الإعلان عن رغبة المغرب في العودة إلى الأسرة الإفريقية في قمة كغالي، في يوليوز الماضي، إلى المصادقة على طلبه يوم 30 يناير خلال قمة أديس أبابا، خاض المغرب طيلة تسعة أشهر الماضية حربا دبلوماسية غير مسبوقة، دارت رحاها داخل أروقة الاتحاد الإفريقي وامتدت في بعض الأحيان إلى مناطق كانت محسوبة بالأمس القريب على المعاقل التقليدية للبوليساريو. وظف خصوم المغرب في هذه الحرب كافة الوسائل لعرقلة عودته إلى أسرته المؤسسية، تنوعت تلك الوسائل بين إقحام المفوضية الإفريقية، والبيروقراطية المتفشية داخل هذه المنظمة القارية، واستغلال التعقيدات المسطرية المؤطرة لعمل الاتحاد، بالإضافة إلى محاولة فتح جبهات جديدة لخلط الأوراق، مثل التحركات الاستفزازية في الجنوب (كركرات) في محاولة لاصطياد رد فعل المملكة وتحركاتها للاحتجاج عليها دوليا وإقليميا. وقد تنوعت مناورات الجزائر ولم تتوقف حتى يوم الحسم؛ حيث قامت بزرع ألغام عدة في طريق عودة المغرب، كان آخرها بالتزامن مع قرب الإعلان عن حصول المغرب على عضويته خلال قمة الاتحاد الإفريقي 28 المنعقدة بأديس أبابا؛ حيث طلبت رفقة 12 دولة عضوا، تشمل كلا من جنوب إفريقيا ونيجيريا وكينيا وأنغولا، رأيا استشاريا من الهيئة القانونية للاتحاد الإفريقي لمعرفة ما "إذا كانت هذه المنظمة القارية يمكن أن تقبل بلدا يحتل جزء من أرض دولة عضو". كل هذه المناورات هدفها كسب مزيد من الوقت وتأخير المصادقة على قرار منح المغرب العضوية، وما لذلك من إحراج وتأثير سلبي على صورته داخليا وخارجيا، بالنظر إلى المتابعة الإعلامية الدولية المكثفة لموضوع العودة، خاصة وأن الملك حضر شخصيا وكان يتواجد على بعد أمتار قليلة من مقر القمة ويقود بنفسه "غرفة العمليات" المتعلقة بالتنسيق والتشاور مع الحلفاء والأصدقاء لإنجاح رهان العودة. في المقابل، فالمغرب بدوره اعتمد في معركة العودة على استراتيجية جديدة قوامها الانفتاح والبراغماتية بهدف اختراق مواقف بعض البلدان الإفريقية الموالية للبوليساريو، سواء من خلال الزيارات الملكية الميدانية إلى تلك الدول أو من خلال الشراكات والاتفاقيات النوعية الموقعة. فماهي مكاسب ومحاذير العودة المغربية إلى المنظمة الافريقية؟ وكيف سيتفيد المغرب من تواجده بالاتحاد للدفاع عن مصالحه الحيوية؟ وكيف ستتعامل المملكة مع هذا الوضع الجديد؟ وما هي أبرز الرهانات المرتبطة برجوع المغرب إلى موقعه الأصلي باعتباره عضوا مؤسسا لهذه المنظمة؟ وكيف سيدبر المغرب علاقاته مع الدول المناصرة للأطروحة الانفصال من داخل الاتحاد الإفريقي؟ وكيف يمكن التعامل مع هذا الواقع المرتبط بوجود البوليساريو ككيان له كامل العضوية بهذه المنظمة القارية؟ ثم ما هو هامش التحرك والمناورة من داخل الاتحاد الإفريقي للدفاع عن الوحدة الترابية؟ وكيف يمكن تحقيق رهان طرد الكيان الوهمي؟ محاذير عودة المغرب إلى المنظمة الإفريقية بالعودة إلى الاتحاد الإفريقي يكون المغرب قد حقق هدفين أساسيين؛ الأول دحر المحور المعادي الذي تقوده الجزائر وهزيمته، وبالتالي يمكن اعتبار هذا الانتصار، بعد الصراع الكبير الذي خاضته المملكة، بمثابة مؤشر على فشل جميع المخططات والمناورات التي وظفها الخصوم لعرقلة وإفشال انضمام المغرب إلى أسرته المؤسسية. أما الهدف الثاني، فهو إغلاق قوس سياسة الكرسي الفارغ التي انتهجها المغرب طيلة ثلاثة عقود منذ انسحابه من هذه المنظمة الإفريقية سنة 1984. إن الاشتغال من داخل المنظمة القارية يعتبر تحديا كبيرا بالنسبة للدبلوماسية المغربية، لاسيما في ظل التحديات المرتبطة أساسا بتجذر هذا الكيان الانفصالي داخل أروقة الاتحاد الإفريقي بعدما ترك المغرب الساحة فارغة لمدة طويلة من الزمن. وبقدر ما تتيح عودة المغرب إلى أسرته الإفريقية مزايا عدة للدفاع عن مصالحه من داخل الاتحاد، فإن الانضمام وفق الشروط الحالية والسياقات المرتبطة بوجود كيان وهمي يحظى بدعم بعض الدول الإفريقية يطرح إشكالات عديدة ومحاذير قانونية وسياسية سيحاول الخصوم، دون شك، توظيفها لتسييج المغرب وتضييق هامش تحركاته داخل الاتحاد، وجعله يقبل بالوضع القائم الذي يخدم أطروحة الانفصال. فبالنسبة للمحاذير القانونية، يأتي في مقدمتها وجود بعض العيوب القانونية في النظام الأساسي للاتحاد الإفريقي، من بينها المادة الثانية التي تنص على الالتزام بالدفاع عن سيادة وسلامة الدول الأعضاء، بالإضافة إلى المادة الرابعة التي تنص على "احترام الحدود القائمة وقت الحصول على الاستقلال"، في حين إن المغرب لا يعترف بحدوده الشرقية مع الجزائر، بالإضافة إلى عدم وجود مادة تتحدث عن طرد عضو من الاتحاد، باستثناء المادة 30 التي تتحدث عن تعليق العضوية في حالة انقلابات عسكرية أو ما شابهها. لذلك، فمقابل استراتيجية الجزائر القائمة على محاولة استغلال هذا الوضع من خلال تقديم قراءات وتأويلات خاطئة لهذه البنود الخاصة بالقانون التأسيسي للاتحاد، فالمغرب مطالب كذلك باعتماد استراتيجية مضادة، سواء على المدى المتوسط أو الطويل. أما المحاذير السياسية، فتتعلق أساسا بكيفية التعاطي مع واقع وجود كيان انفصالي يتمتع بكامل الصفة داخل الاتحاد الإفريقي، وكيفية التعامل مع الجوانب المرتبطة بتدبير ملف النزاع في هذه المنظمة القارية، خاصة وأن خصوم المغرب استثمروا غيابه لتوظيف وإقحام الاتحاد في النزاع حول الصحراء لصالح البوليساريو، ويظهر هذا الأمر جليا من خلال انحياز هذه المنظمة القارية على مستوى مقرراتها وتصريحات مسؤوليها السابقين لأطروحة الانفصال، وتبنيهم للمواقف والشعارات التي تعتبر أن قضية الصحراء "قضية احتلال". وبالتالي، فالتعامل مع هذا الوضع من طرف المغرب ومحاولة تغييره لخلق واقع جديد ينسجم مع مصالحه وأهدافه يتطلب إعداد خطط وتكتيكات دقيقة، ومراعاة بعض الحيثيات التي قد تؤثر سلبا على مجريات الأمور، والتي يمكن إجمالها في ثلاثة تحديات أساسية؛ أولها عامل الوقت والعمل وفق أجندة زمنية؛ أي عدم التسرع في طرد البوليساريو دون تثبيت تواجد المغرب وتقويته، وعدم التراخي في مباشرة وتنزيل الأهداف المسطرة؛ فتدبير الزمن يعتبر مهما وحاسما في هذه المعركة. وثانيها، تفادي محاولة البوليساريو استثمار تحركات المغرب لطردها من خلال لعب دور الضحية. وثالثها محاولة استدراج المغرب للمواجهة المباشرة داخل هذه المنظمة القارية مع بعض القوى القارية مثل جنوب إفريقيا. رهانات ما بعد العودة إلى الاتحاد الإفريقي بعودته إلى الأسرة المؤسسية، يراهن المغرب على تحقيق مجموعة من المكاسب والرهانات الاستراتيجية التي تتوزع بين محاولة تقزيم دور البوليساريو ككيان له كامل العضوية في المرحلة الأولى في أفق طرده في المرحلة الثانية، والحؤول دون توظيف الاتحاد الإفريقي في الصراع مع المغرب من طرف الجزائر، والعمل على خلط الأوراق واختراق جبهات جديدة في إفريقيا، وتحييد أو على الأقل تليين مواقف بعض الدول الموالية لأطروحة الانفصال. بالإضافة إلى محاولة تحقيق رهان زعامة إفريقيا والترافع باسمها والدفاع عن مصالحها في مختلف المحافل الدولية. هذه الرهانات لا يمكن تحقيقها دون توفير الظروف والشروط اللازمة وتهيئة الأجواء المناسبة التي يمكن إجمالها في أربعة أساسية: أولا: نسج علاقات براغماتية مع الأصدقاء والخصوم، عبر توظيف المداخل الاقتصادية والتجارية والأمنية والعسكرية والدينية، والبرهنة كذلك بشكل ملموس على المقاربة الإنسانية التي ينهجها المغرب تجاه المواطن الإفريقي من خلال تسويق تجربته في التعامل مع المهاجرين الأفارقة. ثانيا: خلق جبهة إفريقية عريضة موالية للمغرب داخل هذه المنظمة، من خلال التنسيق والتشاور مع مختلف دول إفريقيا، ودعم الحلفاء في بعض المواقع الحيوية داخل الاتحاد الإفريقي، مع الحرص على الانتشار بشكل ذكي داخل بعض الأجهزة مثل البرلمان الإفريقي والجمعية العامة والمفوضية الإفريقية ومحكمة حقوق الإنسان. ثالثا: إقناع الدول الإفريقية بضرورة العمل على تطوير هياكل المنظمة ومراجعة الترسانة القانونية المؤطرة لعملها. رابعا: إعداد ملف قانوني دقيق حول البوليساريو للدفع بعدم أهليتها بالعضوية، يتضمن أربع نقط أساسية، الأولى أن البوليساريو تطالب بتقرير المصير وغير معترف بها كدولة من طرف الأممالمتحدة، وهذا تناقض صارخ؛ إذ كيف لها أن تطالب بتقرير المصير وتدعي في الوقت نفسه أنها دولة. الثانية هي افتقار البوليساريو للمقومات السوسيولوجية للدولة المتعارف عليها، وهذا الأمر يتطلب وجود ثلاثة أركان أساسية: شعب وإقليم وسلطة سياسية، بالإضافة كذلك إلى عدم توفرها على المقومات القانونية، وهي الشخصية المعنوية والسيادة. أما النقطة الثالثة، فترتبط بالتمثيلية؛ حيث إن البوليساريو لا يحق لها ادعاء تمثيل الصحراويين؛ لأن هذا الأمر فيه مغالطة كبيرة. فالجنوب المغربي الذي أثير في الرأي الاستشاري على أنه "محتل" تجرى فيه الانتخابات بشكل اعتيادي، وتعرف هذه المناطق أكبر نسبة مشاركة، وهناك صحراويون مغاربة منتخبون في كافة المجالس المحلية والوطنية. النقطة الرابعة هي أن المغرب في إطار محاولة معالجة هذا النزاع المفتعل أثناء الحرب الباردة، طرح مقترح الحكم الذاتي الذي يضمن للجميع فرصة العيش المشترك في إطار السيادة المغربية، لاسيما أن مشاكل الانفصال تعاني منها دول إفريقية عدة. وخلاصة القول، فإنّ تمكُّن المغرب من تحقيق رهان العودة إلى الاتحاد الإفريقي رغم العراقيل والمناورات يؤشر على أن المرحلة القادمة تنذر ببداية ظهور معارك جديدة لا تقل ضراوة عن سابقاتها، خاصة على الرقعة الإفريقية. وتبقى هذه المعارك مفتوحة على جميع الاحتمالات والسيناريوهات، مع الأخذ بعين الاعتبار أن السياقات الدولية والتحولات التي تعرفها القارة الإفريقية تخدم المغرب شريطة حرصه على التحرك وفق هدف لا يقل سقفه عن ريادة إفريقيا وتزعمها، وقدرته على توظيف الأغلبية الراهنة التي لا تعترف بالبوليساريو لصالحه. *أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاضي عياض