بعيدا عن الأحكام القيمية اللصيقة بهذا الموضوع الحساس الذي غالبا ما كان نقاشه محصورا على نخبة ضيقة من الأكاديميين والخبراء والمتخصصين والفاعلين الاقتصاديين والسياسيين، نحاول من خلال هذا المقال السريع، إثارة اهتمام الرأي العام من خلال تسليط الضوء على إشكالية محورية في طبيعة وخصائص النظام الجبائي الوطني، بأسلوب تعبيري بسيط وحقل مفاهيمي أقل تعقيدا. إن التساؤل حول من يدفع الضرائب بالمغرب؟ ليس القصد منه هو أن هناك بعض الأفراد يؤدون الضريبة والبعض الأخر لا يخضع لها، فالمواطنون جميعهم، كيفما كانت وضعياتهم الاجتماعية والاقتصادية، بل والأجانب أيضا، يؤدون الضرائب بشكل مستمر، وفي غالب الحالات دون أن يشعروا بذلك. إلا أنه في المقابل، يحق لنا التساؤل حول من يؤدي الضريبة بشكل أقل، ومن يدفعها بشكل أكبر؟ من له القدرة على ممارسة الغش والتهرب الضريبيين، ومن ليس له مجال للتملص من الفرض الضريبي؟ من يتمتع بالإعفاءات والامتيازات والاستثناءات الضريبية، ومن لا يحظى بأي امتياز؟ من تشكل له المنظومة الضريبية عبئا ثقيلا، ومن يستغل هذه المنظومة لتحقيق الارتقاء الاجتماعي؟ من أجل التبسيط، وقبل الشروع في محاولة مقاربة هذه التساؤلات، لا بد من تقديم لمحة عن مكونات النظام الجبائي ببلادنا وطبيعة الضرائب الأساسية التي يتشكل منها يمكن تقسيم النظام الجبائي بشكل عام، إلى نظام جبائي وطني (جبايات الدولة)، وهو ما سنركز عليه نظرا لمحوريته داخل المنظومة الجبائية ببلادنا، ونظام جبائي محلي يتكون من الرسوم المستحقة لفائدة الجماعات الترابية (الجهات والعمالات والأقاليم ثم الجماعات). فأما النظام الجبائي الوطني، فيتكون أساسا من الضريبة على القيمة المضافة، وهي ضريبة غير مباشرة مفروضة في الغالب على عملية الاستهلاك، ثم الضريبة على الشركات، يؤديها الأشخاص الاعتباريون، وهم الشركات في أغلب الأحيان، ثم الضريبة على الدخل، وهي ضريبة مفروضة على دخول الأشخاص الطبيعيين في غالب الحالات، ثم الضريبة الداخلية على الاستهلاك، وهي ضريبة تفرض أيضا على عملية استهلاك بعض المنتجات الخاصة، إلى جانب رسوم التسجيل والتنبر. أما النظام الجبائي المحلي، والذي خضع إلى تغييرات مستمرة، فهو يتكون من العديد من الرسوم المستحقة لفائدة كل صنف من أصناف الجماعات الترابية، ومن أهمها الرسم المهني ورسم السكن ورسم الخدمات الجماعية والرسم على عمليات البناء والرسم على عمليات تجزئة الأراضي...بالنسبة للجماعات الحضرية والقروية، ثم الرسم على رخص السياقة والرسم على السيارات الخاضعة للفحص التقني والرسم على بيع الحاصلات الغابوية بالنسبة للعمالات والأقاليم، والرسم على رخص الصيد والرسم على استغلال المناجم والرسم على الخدمات المقدمة بالموانئ بالنسبة للجهات. وبالمرور على مختلف الإجراءات والمساطر القانونية والتقنية المرتبطة بتحديد الوعاء وربط الضريبة وتحصيلها، نعود إلى محاولة الإجابة على التساؤل المحوري الذي طرحناه في البداية، انطلاقا من مكونات النظام الضريبي الوطني وخصوصياته. الإجابة عن هذا التساؤل المحوري، يمكن أن تتم من خلال البحث عن أهم مصادر المداخيل الجبائية (أولا) ثم تحديد المستفيدين من الامتيازات الجبائية (ثانيا) وأيضا التعرف على أنواع الملزمين الأكثر لجوءا إلى ممارسة الغش الضريبي (ثالثا). 1- من أين تتأتى أهم المحاصيل الضريبية؟ أول مدخل عام يمكن الانطلاق منه لمقاربة إشكالية الموضوع، هو حجم المحاصيل الجبائية للضرائب الوطنية الرئيسية الثلاثة (الضريبة على القيمة المضافة والضريبة على الشركات ثم الضريبة على الدخل). حيث نجد في هذا الإطار أن الضريبة على القيمة المضافة هي الضريبة الأكثر مردودية، إذ توقع قانون مالية سنة 2016 ، وهو آخر قانون مالية تمت المصادقة عليه، أن تبلغ مداخيلها ما يزيد عن 60 مليار درهم، تليها في ذلك الضريبة على الشركات بما قدره 44,5 مليار درهم، ثم الضريبة على الدخل بما يناهز 39 مليار درهم، إلى جانب الضريبة الداخلية على الاستهلاك بما يقارب 25,5 مليار درهم، ورسوم التسجيل والتنبر بحوالي 17 مليار درهم. فمن يؤدي إذن هذه الضرائب؟ إن الضريبة على القيمة المضافة هي "ضريبة عشوائية" لا تميز بين أصناف الملزمين (الخاضعين للضريبة)، وبالرغم من أنها ضريبة على رقم المعاملات على مجموعة من العمليات الاقتصادية وعمليات الاستيراد، فإن المستهلك الأخير le consommateur final هو الذي يؤديها، كيفما كان موقعه الاجتماعي ومستوى دخله، وهي ضريبة تطبق بأسعار مختلفة تتراوح ما بين 0% و20%، عن طريق إدماجها في "السعر الشامل" T.T.Cلمنتوج أو خدمة معينة أو عملية تداول محددة، وبالتالي فجميع المواطنين يؤدون هذه الضريبة بشكل غير مباشر خلال قيامهم بعمليات الاستهلاك، أخذا بعين الاعتبار بعض الإعفاءات أو الأسعار الخاصة التي تستفيد منها عدد من المواد المستهلكة على نطاق واسع. وعليه فوفرة مداخيل الضريبة على القيمة المضافة، راجع بالأساس لكثرة الملزمين الخاضعين لهذه الضريبة، المنحدرين من جميع طبقات وفئات المجتمع، حيث تتم عمليات الاستهلاك بشكل يومي، كما أن أداء هذه الضريبة بشكل تلقائي أو "خفي"، يقلل من حالات مقاومتها من طرف الخاضعين لها. أما الضريبة على الشركات، فهي ضريبة تطبق على أرباح الأشخاص المعنوية وهم الشركات في غالب الحالات، وقد أصبحت هذه الضريبة تطبق بأسعار تصاعدية ابتداء من السنة المالية 2016، حيث تتراوح هذه الأسعار ما بين 10% و31%. وإذا كانت الضريبة على الشركات تعد ضريبة أساسية في تمويل خزينة الدول عل الصعيد العالمي، فإن الإشكال الذي يضعف من فعاليتها بالمغرب وبالعديد من الدول النامية، هو لجوء العديد من المقاولين وأرباب الشركات إلى ممارسة مجموعة من التصرفات غير القانونية في سبيل التملص من أداء الواجبات الجبائية، وخاصة ممارسة الغس الضريبي. وفي غياب دراسات علمية دقيقة، تشخص حجم الغش الضريبي، تبقى هناك بعض المؤشرات الرسمية الدالة على أن الغش الضريبي يمارس على نطاق واسع ويحرم خزينة الدولة من مليارات الدراهم سنويا. ومن بين أهم هذه المؤشرات، الأرقام الرسمية التي تشير إلى أن 80% من الضريبة على الشركات يتم أدائها من طرف 2% من الشركات، وثلثي الشركات تصرح بعجز دائم، مما يؤكد على أن هناك أوعية جبائية هامة لا يتم إخضاعها للضريبة أو يتم تضريبها على نحو ضعيف. ينضاف إلى ذلك إشكال القطاع غير المهيكل، وهو قطاع يضم مجموعة من الأنشطة الاقتصادية التي تحقق مداخيلا مهمة غير مصرح بها لدى السلطات الإدارية وخاصة الإدارة الجبائية. فعن طريق هذه الأنشطة يعمل العديد من الأشخاص على تحقيق مجموعة من المداخيل غير المصرح بها لدى الإدارة الضريبية، أو يتم التصريح ببعض الدخول وإخفاء الدخول المتأتية من القطاع غير المنظم. وبالتالي يكمن القول بأن النسيج المقاولاتي بالمغرب، بما فيه القطاع غير المهيكل، لا يساهم جبائيا بالشكل الكافي، حيث تتوفر الشركات على مجموعة من الآليات والإمكانيات البشرية والتقنية والمحاسبية التي تسخرها في اتجاه الإفلات من الإلزام الضريبي أو تقليصه قدر الإمكان، خاصة وأن المراقبة الجبائية الممارسة من طرف الإدارة الجبائية لمواجهة الغش غير كافية وعاجزة عن مواجهة الظاهرة بشكل شمولي وفعال. أما بخصوص الضريبة على الدخل، فهي ضريبة تفرض في معظم الحالات على دخول الأشخاص الطبيعيين، وهي إما دخول مهنية أو زراعية أو متأتية من الأجور والدخول المعتبرة في حكمها أو عقارية أو ناتجة عن رؤوس الأموال المنقولة. وتطبق هذه الضريبة بأسعار نسبية تصاعدية تتراوح ما بين 10% و38% حسب كل شريحة دخل محددة، مع إعفاء شريحة الدخل التي لا تتجاوز 30.000 درهم سنويا (الحد الأدنى من الدخل المعفى من الضريبة). وفي تحليل لحجم مداخيل هذه الضريبة حسب نوع الدخول، يبدو واضحا أن دخول الأجور تشكل العمود الفقري لمحاصيل هذه الجباية، حيث تشير الأرقام الرسمية الصادرة خلال السنوات الأخيرة إلى أن 73% من الضريبة على الدخل تتأتى من اقتطاعات الأجور، ما يعني أن باقي أنواع الدخول الأربعة الأخرى المفروضة عليها هذه الضريبة، لا تساهم إلا بالربع ضمن مجموع مداخيل هذه الضريبة، في الوقت الذي يساهم فيه الأجراء لوحدهم بثلاثة أرباع تقريبا. ولعل محورية المحاصيل الجبائية المتأتية من دخول الأجراء ضمن تركيبة محاصيل الضريبة على الدخل، هو أمر ناتج عن دقة القواعد المنظمة لها، سواء على مستوى تحديد الوعاء أو التحصيل الذي يتأسس على الحجز في المنبع، ما يجعل من إمكانية التملص من جزء من الضريبة، إمكانية شبه مستحيلة بالنسبة لأجراء القطاع العام وضئيلة بالنسبة لأجراء القطاع الخاص، أما باقي الدخول الأخرى، وخاصة المتأتية من المهن الحرة، فإن إمكانية التملص من الجباية أو من جزء منها تبقى متاحة بما أن تحديد وعائها وتصفيتها يتم بناء على إقرار الملزمين وتصريحاتهم، وتحصيلها يتم في غالب الحالات عن طريق الأداء التلقائي. ويشار أيضا إلى أن النظام التصاعدي لأسعار الضريبة على الدخل، يعاني بعض الاختلالات، خاصة ما يتعلق بالحد الأدنى المعفى من هذه الضريبة الذي يبقى ضئيلا، وأيضا ما يخص تصاعد الأسعار بشكل قوي بالنسبة للدخول الصغرى والمتوسطة وانخفاض شدة التصاعد بالنسبة للدخول العليا، مما يوثر سلبا على العدالة الجبائية، ويجعل من الدخول المتوسطة هي الدخول الأكثر مساهمة في هذه الجباية، نظرا لاتساع شريحتها وللارتفاع النسبي للأسعار المطبقة عليها. 2- من الذي يستفيد من الإعفاءات والامتيازات الجبائية؟ الحديث عن الامتيازات الجبائية لا يمكن أن يتم بمعزل عن طرح مفهوم النفقات الجبائية، وهي آلية توظفها السلطات العمومية لمنح مجموعة من الامتيازات لفائدة الأفراد أو الشركات بغية تحقيق بعض الغايات الاقتصادية أو الاجتماعية، ويمكن أن تتخذ عدة أشكال كالإعفاءات الجزئية والكلية أو التخفيضات أو الخصوم أو الإسقاطات من القاعدة الضريبية أو الأسعار تفضيلية. ولأنها تقلص من حجم المداخيل المفترض جبايتها، فهي بمثابة نفقة غير مباشرة أو نفقة عمومية من نوع خاص، ولذلك فهي تسمى بالنفقة الجبائية. وإذا كان توظيف النفقات الجبائية يتوخى في الأصل تحقيق بعض الأهداف المتصلة بالمصلحة العامة، كدعم محدودي الدخل أو إنعاش الاستهلاك أو تشجيع الاستثمار أو تقوية نشاط اقتصادي محدد أو تشجيع الاستثمار والمبادرة الحرة في منطقة معينة...، فإن ضعف عقلنة هذه الآلية، قد يؤدي إلى تحول وظيفتها من خدمة المصلحة العامة إلى خدمة المصالح الخاصة للأفراد والجماعات، خاصة تلك التي تمتلك وسائل التأثير والضغط في اتجاه حماية مصالحها الفئوية. وبالاطلاع على التكلفة المالية للنفقات الجبائية خلال القوانين المالية السنوية الأخيرة، يتضح أنها لم تنزل في جميع الحالات عن سقف 31 مليار درهم، وهي تكلفة باهظة، خاصة وأن الميزانية العامة تعاني نزيفا مستمرا جراء مجموعة من الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الوطنية والدولية، التي أثرت سلبا على وضعية العجز الموازاناتي من جهة وفاقمت من حدة الدين العمومي والارتهان للخارج من جهة ثانية. ويبقى السؤال الأكثر إلحاحا في هذا الإطار هو : من هي الجهات الأكثر استفادة من هذه الامتيازات الجبائية؟ بالرجوع إلى آخر التقارير الصادرة عن وزارة الاقتصاد والمالية الخاصة بالنفقات الجبائية، ويتعلق الأمر بالتقرير المرفق بمشروع قانون مالية سنة 2017، نجد بأن هذه النفقات (الامتيازات) موزعة بين مختلف الضرائب والرسوم الوطنية، إلا أن الضريبة على القيمة المضافة تأتي في مقدمة الضرائب الأكثر استفادة من هذه النفقات بما يزيد عن 15 مليار درهم بالنسبة لقانون مالية سنة 2016، تليها في ذلك واجبات التسجيل والتنبر بما يفوق 5,5 مليار درهم، وبعدها الضريبة على الشركات بأكثر من 5 ملايير درهم، ثم الضريبة على الدخل بحوالي 4 ملايير درهم. ولعل أهم توزيع لهذه النفقات الجبائية، هو ذلك الذي يتم حسب نوع المستفيدين منها، حيث يسجل تبعا لنفس التقرير أن المقاولات تبقى هي الجهات الأكثر استفادة من هذه النفقات الجبائية، وذلك بما يقارب 17 مليار درهم بالنسبة لقانون مالية سنة 2016، أي بنسبة تصل إلى 52% من مجموع النفقات الممنوحة، تأتي بعدها الأسر بحوالي 10 ملايير درهم بخصوص نفس السنة، ثم أخيرا النفقات التي تستفيد منها بعض المرافق العمومية بمبلغ 5 ملايير درهم. وفي تحليل للقطاعات الإنتاجية المستفيدة بشكل كبير من النفقات الجبائية، نجد أن الأنشطة العقارية تحتل الصدارة من حيث قيمة الامتيازات الجبائية التي تستفيد منها، والتي تفوق 7,5 مليار درهم برسم مالية سنة 2016، يليها في ذلك قطاع الفلاحة والصيد البحري بمبلغ يزيد عن 3 ملايير درهم، وقطاع الصناعات الغدائية بما يفوق 2,5 مليار درهم وأيضا قطاع التصدير بما يقارب نفس المبلغ، ثم قطاع الوساطة المالية بما يزيد عن 2 مليار درهم، إلى جانب مجموعة من القطاعات الأخرى التي تستفيد بنسب أقل. والنتيجة هي أن المقاولات النشيطة في المجالات العقارية والفلاحية والصيد البحري والصناعات الغدائية وقطاع التصدير والوساطة المالية بما فيها القطاع البكي، هي المقاولات المستفيدة على نحو كبير من الإعفاءات والتخفيضات وغيرها من الامتيازات والاستثناءات الجبائية. وعلى العموم، فإذا كانت سياسة الامتيازات والإعفاءات الجبائية تتوخى في الأصل تشجيع الاستثمار وتنشيط القطاعات الإنتاجية على المستوى الاقتصادي، ودعم المواد الاستهلاكية أو تخفيف العبء على فئة محدودة الدخل من الملزمين على الصعيد الاجتماعي، فإن الإشكال يطرح حينما تكون النتائج المحققة أقل من التكلفة المالية لهذه السياسة. وفي هذا الصدد، يسجل غياب لدراسات دقيقة وموضوعية يمكن أن تقيس نسبة تحقيق سياسة النفقات الجبائية للأهداف التي سُنت من أجلها، علما أن هذه الأهداف لم توضع أصلا بشكل دقيق ووفق مؤشرات قابلة للقياس، ما يجعل من عملية تقييم سياسة الإعفاءات الجبائية صعبة جدا، وتخضع لوجهات نظر أكثر من خضوعها لمعايير علمية محددة ومتفق عليها مسبقا. ومن المهم الإشارة إلى أنه لأول مرة تضمن تقرير النفقات الجبائية المرفق بمشروع قانون مالية سنة 2017 محورا موجزا خاصا بأثر النفقات الجبائية المتعلقة بالسكن الاجتماعي، غير أن المعايير التي تم اعتمادها تطرح أكثر من سؤال، حيث تم ربط النفقات الجبائية الممنوحة في مجال السكن الاجتماعي بعدد الوحدات السكنية التي تم إنجازها وكذا مناصب الشغل التي تم إحداثها داخل هذا القطاع، والحال أنه لا يوجد ما يثبت أن هذه الحصيلة هي نتيجة مباشرة للامتيازات الضريبية، كما أن الحصيلة المرتكزة على عدد الوحدات السكنية، هي حصيلة كمية لا تأخذ بعين الاعتبار مدى جودة الوحدات السكنية المنجزة، كما أن عملية قياس الأثر لم تعر اهتماما للثمن الذي تباع به هذه الوحدات، وهل التكلفة التي يتطلبها بناء هذه الوحدات تتلاءم والأثمنة التي تباع بها، أخدا بعين الاعتبار كل الامتيازات التي يستفيد منها المنعشون العقاريون في هذا المجال. وبناء على ذلك، فإن سياسة الامتيازات الجبائية أضحت تحتاج إلى إعادة النظر، خاصة على مستوى تحديد أهدافها بشكل دقيق قابل للقياس، ثم تقييم مردودية الامتيازات الجاري بها العمل حاليا، وأيضا ضرورة إبرام اتفاقات والتزامات مسبقة مع الشركات التي ستستفيد من هذه الامتيازات وفق دفاتر تحملات تحدد امتيازات هذه الشركات والتزاماتها، في أفق ضمان عدم انحراف هذه الآلية عن مسار تحقيق المصلحة العامة نحو تحقيق المصالح الخاصة للأفراد والجماعات، خاصة على المستوى الاقتصادي. 3- من الذي يمارس التهرب والغش الضريبيين؟ التهرب الضريبي والغش الضريبي، هما شكلين من أشكال التملص من أداء المستحقات الضريبية أو جزء منها، والفرق بين الإثنين هو أن الأول يتم من خلال استغلال فراغات وهفوات النصوص القانونية والتنظيمية، أما الثاني فهو يمارس عن طريق الخرق الصريح لمقتضيات هذه النصوص، ما يجعله أكثر خطورة ويبلغ درجة التجريم على المستوى التشريعي. وسواء أتعلق الأمر بالغش أو التهرب، باعتبارهما ممارسات غير قانونية ولها انعكاسات سلبية خطيرة سواء على المستوى المالي أو الاقتصادي أو الاجتماعي، فإن اللجوء إلى ممارستهما بشكل متحكم فيه يعتبر أمرا عاديا حتى داخل الأنظمة الجبائية المتقدمة، لكن غير العادي هو الإفراط في ممارسة هذه الظاهرة بشكل يضر بخزينة الدولة ويؤثر سلبا على الاقتصاد وعلى تنافسيته ويضرب في العمق مبدأ العدالة الجبائية، كل ذلك في ظل وسائل وقائية ورقابية وردعية دون المستوى المطلوب. إن إثارة ظاهرة ممارسة الغش الضريبي ضمن هذا الموضوع، الغرض منه إثبات كون الأشخاص أو الشركات التي تمارس الغش والتهرب، لا تؤدي واجباتها الضريبية على النحو المطلوب، وفي المقابل من لا يمارس الغش أو من يتعذر عليه القيام بذلك، يكون ملزما بأداء جميع المستحقات الجبائية دون نقصان، مما يؤدي إلى اختلال ميزان توزيع العبء الضريبي بين كافة المواطنين أفرادا وشركات، وهو الأمر الذي يتولد عنه بالنتيجة ظهور مجموعة من الاختلالات السياسية والمالية والاقتصادية والاجتماعية. وفي غياب دراسات خاصة ومفصلة حول واقع وحجم ممارسة الغش الضريبي، حيث غالبا ما تركز البحوث والتقارير المنجزة في الموضوع عن دراسة ماهية الظاهرة وأسبابها وآليات مكافحتها، تُسعفنا في هذا الشأن بعض المؤشرات والأرقام الصادرة عن جهات رسمية أو عن منظمات دولية، وهي مؤشرات كلها تؤكد على أن الظاهرة مستشرية بالمغرب، ولها آثار سلبية خطيرة على خزينة الدولة وعلى باقي الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية. ومن بين أهم هذه المؤشرات، ما تمت الإشارة إليه سابقا من كون 80% من الضريبة على الشركات تتأتى فقط من 2% من الشركات، ما يعني أن هناك نسبة قليلة جدا من الشركات هي التي تساهم جبائيا على نحو فعال، في حين أن الغالبية العظمى من الشركات تساهم بنسبة ضعيفة أو لا تساهم أصلا. هذا المؤشر تؤكده أرقام أخرى، من قبيل أن ثلثي الشركات تصرح بعجز دائم، فتبعا للإحصائيات الرسمية لسنة 2011، 115.000 من الوحدات الخاضعة للضريبة على الشركات صرحت بعجزها، وهو الرقم الذي يعادل 65% من الساكنة الخاضعة لهذه الضريبة. ولا شك أن التصريح المستمر بالعجز إنما يراد منه الإفلات من الإلزام الضريبي، إذ كيف يعقل لشركة تكون نسبة أرباحها سالبة كل سنة أن تستمر في الوجود. وفي نفس السياق، سبق للمدير العام للضرائب السابق السيد نور الدين بنسودة أن صرح بأن 60% من الشركات لا تدفع مستحقاتها من الضريبة على الشركات، كما أن بعض الدراسات الخارجية الصادرة خلال السنوات الأخيرة، تشير إلى أن نسبة الضرائب غير المستخلصة تقدر ب 30 مليار درهم، أي ما يناهز 8% من الناتج الداخلي الخام. ومن المؤشرات الدالة أيضا على اتساع مجال ممارسة الغش الضريبي، هي عمليات المراقبة التي تقوم بها المديرية العامة للضرائب في بعض الأحيان، والتي يتم بموجبها تحصيل مداخيل جبائية مهمة تقدر بمليارات الدراهم، وآخرها المراقبة الجبائية التي تمت مؤخرا، حيث كشفت عن اختلالات محاسبية لشركات كبرى ومستحقات ضريبية غير مؤداة تقدر بملايير الدراهم، علما أن الموارد البشرية المخصصة لعمليات المراقبة قليلة جدا. الحديث عن الغش الضريبي لا يمكن أن يكتمل دون إثارة إشكالية القطاع غير المهيكل، وهو قطاع، بالإضافة إلى اشتغاله خارج الإطار القانوني، فهو انعكاس لظاهرة الغش الضريبي على المستوى الجبائي. وقد أشارت إحدى المذكرات الاقتصادية الصادرة عن البنك الدولي، إلى أن نسبة العمالة في القطاع غير المهيكل تبلغ 45% من مجموع العمالة في المجال الاقتصادي دون احتساب القطاع الزراعي، وهو ما يمثل 36% من الناتج الداخلي الخام، وهي نسبة جد مرتفعة. والمفارقة العجيبة هي كون الوحدات التي تشتغل داخل القطاع غير المهيكل، لا تؤدي أي ضرائب ولا تمسك أي محاسبة، وبالتالي فهي غير معنية بالمراقبة التي تقوم بها الإدارة الضريبية. ومن المهم الإشارة إلى كون القطاع غير المهيكل، لا يقتصر على المشاريع الصغيرة التي يكافح أصحابها من أجل توفير لقمة العيش، بل إنه يضم أيضا حتى المشاريع الكبرى التي تشتغل خارج القانون ولا تؤدي التزاماتها الجبائية، وهناك من الشركات من تشتغل وفق المقتضيات القانونية الجاري بها العمل، غير أن لها فروعا أو امتدادات أو أنشطة ربحية موازية لا تصرح بها. الغش والتهرب لا يقتصر على المقاولات الخاضعة للضريبة على الشركات فقط، وإنما على الخاضعين للضريبة على الدخل، فكما تمت الإشارة أعلاه، 73% من الضريبة على الدخل يتم تحصيها من اقتطاعات الأجور فقط، في حين أن باقي الدخول الأخرى الخاضعة لهذه الضريبة تساهم جبائيا بنسبة ضعيفة، والسبب في ذلك هو وجود إمكانية ممارسة الغش بالنسبة لهذه الدخول وانتفاء هذه الإمكانية بالنسبة لدخول الأجراء، التي تخضع لأحكام دقيقة فيما يخص تحديد الوعاء والحجز في المنبع في مرحلة التحصيل، ما يجعل من إمكانية ممارسة الغش إمكانية نادرة. وعلى العموم فإن مواجهة إشكالية الغش الضريبي بنوع من الفعالية والنجاعة، يتطلب العديد من الإجراءات أولها تكثيف علميات المراقبة، وهو الأمر الذي يتطلب بدوره تعزيز الموارد البشرية والمادية المخصصة للمراقبة الضريبية، ثم تقوية الآليات القانونية الزجرية، إذ تبقى هذه الآليات بالمغرب هي الأضعف من نوعها على صعيد التجارب المقارنة، وبالموازاة مع ذلك لا بد الاشتغال على تقوية الوعي والمواطنة في المجال الضريبي. في نهاية هذا المقال، نؤكد على أن إصلاح المنظومة الجبائية بشكل يعيد الاعتبار للوظائف الأساسية للضريبة، إن على مستوى تمويل خزينة الدولة، أو تحقيق العدالة الضريبية، أو تنشيط الاقتصاد الوطني، وأيضا ضمان ديمومة الاستقرار السياسي، يتطلب التفكير في وضع استراتيجية للإصلاح الجبائي، استراتيجية شاملة وبعيدة المدى، تحدد طبيعة وخصائص النظام الجبائي الذي نريد بلورته، وتأخذ بعين الاعتبار مختلف الأبعاد السياسية والمالية والاقتصادية والاجتماعية للضريبة، وتستجيب لتطلعات كافة المواطنين مهما كانت مستوياتهم الاجتماعية، كما تلبي حاجياتهم بشكل منصف وعادل. *باحث في القانون العام